قراءة في طريقة الشعراء التسعينيينالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-02-01 22:17:16

أ.د. محمد تقي جون

العراق

بعد فتحي اللغوي الفخم، أو كشفي المؤلم في اللغة العربية الخامسة؛ إذ وجدتُ وجلَّيت لذي عينين أن اللغة العربية التي نكتب بها ونسميها الفصحى تمييزًا عن العامية، ليست عربية وليست فصحى في كثير منها، بل هي ترجمات عن الإنجليزية. وهذه اللغة التي غادرت العرب والعربية، غادرت الذوق والأصل العربي وجماليات وفخامة تعبير العربية. وصارت كيد بترت أصابعها فنمت فيها لحيمات ناتئة قامت مقام الأصابع وحتمًا لن تعمل عمل الأصابع.

  بعد فتحي أو كشفي اللغوي عليَّ أن أعاني وأعالج فتحًا وكشفًا أدبيًا مماثلاً؛ فالشعراء الذين نشأوا في وعلى اللغة الخامسة حتمًا سيكتبون وفقها وعليها، ولا ننتظر منهم أن يجيدوا العزف على لغة الفصاحة المبهرة التي لن يجيدوها مطلقًا، بل سيجدونها معرقلة وغير مسعفة وعاجزة وغير ذلك من النعوت التي نعتوها بها.

 ألم يروا أن كتابة شعر عربي يجب أن يكون باللغة الفصحى وأنهم غادروا اللغة الفصحى إلا الأقل. ألم يروا أن كتابة شعر عربي يجب أن يمنح القصيدة اشتغالاً متقنًا للألفاظ، إذ لا شعر عربيًا بدون المهارة اللفظية. وألم يروا أن الجمهور لمعاصرته يصفق لهم ويمنحهم شهرة ولا يمنحهم مطلقًا خلودًا، ذلك الخلود الذي منحه جمهور الأجيال لأمرئ القيس والمتنبي والسياب، وهؤلاء أبدعوا بتفاوت وكان أعلاهم مهارة لفظ أعلاهم شعرًا ومجد خلود. هم الآن مشهورون ويعلمون أنهم بعد نصف قرن منسيون تمامًا، أو مجرد أسماء.

لقد وعى الشعراء قبلهم تلك الحقيقة وما فاتتهم. صفي الدين الحلي والشاب الظريف، مثلاً، عاشا في عصور مظلمة للغة العربية والشعر العربي، وتلك العصور أنجبت شعراء كثيرين من المشهورين وقتها غير المخلدين لأزمان قادمة لأنهم كتبوا بغير العربية الفصحى أو بعربية متهافتة تعاطى معها الجمهور المعاصر غير الفصيح، ومن هؤلاء الأرّجاني وابن سناء الملك وقائمة من أسماء منسية. ولكن الخالدين كالحلي والظريف كتبوا باللغة التي كتب بها العظماء من الشعراء الفصحاء فكانوا امتدادًا شعريًا للمتنبي والبحتري وبشار وخلدوا مثلهم. وتلك الحقيقة غابت عن شعرائنا المشهورين اليوم جدًا غير الخالدين جدًا.

لغة فقدت الكثير من الجماليات وأساليب التعبير، ثم صارت تنقل من لغات أجنبية ألفاظًا وعبارات واقيسة وقواعد وأساليب... كيف سيكتب بها شعراؤها شعرًا عربيًا راقيًا؟ إن الكثير من قصائدهم تشبه قصائد مترجمةّ! إنهم يتكئون على جمهور غير فصيح، ونقد مجامل، ووسائل أعلام تروج هذا الشعر للقضاء على آخر ما تبقى من ذوق عربي فصيح وتسويد الذوق الأجنبي.

ولنا أمثلة حاسمة في ذلك لا جدل فيها، فبحر الرجز لم ينجح أبو تمام والبحتري والمتنبي وهم "لات ومناة وعزى" الشعر في كتابة قصيدة معتبرة عليه، واستطاع السياب وصلاح عبدالصبور ونزار قباني كتابة آيات إبداعهم عليه، وحتمًا أولئك خير من هؤلاء، ولكن الذي سوغ ذلك ومكن شعراءنا وبحر الرجز، هو أن نغمته كانت عامية في العربية الفصحى غير قادرة على التحليق الشعري الراقي، فعدَّ بحر الرجز (حمار الشعراء)، أما عربيتنا المعاصرة القريبة من العامية القريبة من نغمة بحر الرجز فقد جعلت بحر الرجز قادرًا على التحليق الشعري، فعدَّ (حصانًا أصيلاً). وكذلك بحرا المتدارك والخبب نظّر لهما الفراهيدي في القرن الثاني ولكنهما لم يشتهرا ولاسيما الخبب إلا في زماننا، عدا القليل من الشعر المشتهر كقصيدة الحصري القيرواني في نهاية القرن الخامس.

إن انحراف الفصحى إلى فصحى دعية حرم الشعراء المعاصرين أو الحداثيين فرصة الكتابة على خط شعراء العربية مع التجديد الصائب بما تقتضيه المعاصرة. مثلما جارى ابن زيدون الموشحات ففي ديوانه موشحة أو موشحتان، وكما جارى صفي الدين الحلي البديعيات والعاميات التي اشتهرت في زمانه، وكما جارى الجواهري شعر التفعيلة، وكل هؤلاء جاروا الحاضر المعاصر ولكن جعلوا جياد قصائدهم على الخط العام العربي الفصيح، وبه اشتهروا وخلدوا.

لقد كتب شعراؤنا المعاصرون أغلب اشعارهم على طريقتهم البعيدة عن الخط العربي الفصيح وكان لهم ابهار في البداية، ولكل جديد لذة، إلا أنهم نفدوا ولم يعد لهم جديد مبهر، وبدلاً من مراجعة أنفسهم أوغلوا في البحث عن موارد أجنبية لا تجود شعرًا في لغتنا لأنها تناسب لغاتهم، وليس منطقيًا إرغام لغة على انتهاج القوانين الأدبية للغة أخرى لتجود كما جادت تلك اللغة، كما لا يمكن إرغام أرنب على أن ينجب غزالاً.

كان الشاعر العربي الفصيح – كما توضح كتب النقد - يستعمل لغتين: لغة ابداع ولغة كلام يومي، لغة الإبداع تمتلك جماليات وتعابير لا تمتلكها اللغة اليومية. وشعراؤنا اليوم يكتبون بأقل من اللغة اليومية غير الإبداعية التي كان يتحدث بها الشاعر الفصيح القديم. ولك أن تتصور مقدار الجمال والإبداع في هذه اللغة، ومن ثم في هذه الأشعار. لقد اطلعوا على تجارب الشعراء السابقين الذين استعملوا هذا المستوى فلم يجدوا غير ملل وسأم وجثث شعرية هامدة. وزاد الطين بلة سيادة الشعر التعبوي وشعراء المكافأة الذي دعمه النظام البائد. وقد غرق العراق بسيول قصائد لا شعر فيها، إما لطبيعة القصائد التي لا تنهض شعرًا، وإما لضعف الشعراء وتقليديتهم. وقد أوضح ذلك الشاعر حسين القاصد في معرض حديثه عن تجربته الشعرية أو التجربة الشعرية الجمعية له ولزملائه:

(نعم لي إضافات على القصيدة العمودية، لكن لا تجديد ولا مفهوم للتجديد ولن يكون في هذا المضمار، فبإمكان قصيدة لأبي تمام أو المتنبي أن تنسف كل دعوى للتجديد، لذا أعيد وأكرر قولي نحن منحنا القصيدة العمودية فرصة المواكبة بعد أن جمدت وماتت ملامحها وأصبحت أشبه بالأثار على أيدي شعراء القصيدة العمودية الذين سبقونا ولا أظن أن متلقيًا يستطيع أن يجلس منصتًا إلى نهاية قصيدة يلقيها محمد حسين آل ياسين، وهو يمثل آخر الذين اعتاشوا على الموروث دون المواكبة على الرغم من ثقافته الواسعة لكن موهبته لا تتجاوز ما قاله).

ولكن ليس بعيدًا عن هؤلاء الشعراء الحداثيين شعراء معاصرون التزموا الخط العام الفصيح فكانوا ظاهرة شعرية في زماننا كأحمد شوقي وبدوي الجبل والجواهري والسياب. وهؤلاء مشهورون في زماننا وخالدون في الأزمنة القادمة، فهل ينكرون ذلك، وهل يستطيعون أن يكونوهم؟

هؤلاء الشعراء (الحداثويون) وضعوا أنفسهم أمام خيارين: إما الكتابة باللغة العربية المعاصرة غير الشعرية فيفشلوا كالسابقين، وإما أن يستعملوا هذه اللغة نفسها بأسلوب آخر باستعمال أساليب لفظية جديدة تقوم على الإزاحة والمفارقة والمشاكسة والتغريب والإيهام والعامية والسيميائية وغير ذلك مما يظن أنه يمحو الرتابة وفي الوقت نفسه يوهم أن تحته طائلاً من شعر عبقري. فكان بدلاً من أن يصنع الشاعر المثقف جمهورًا مثقفًا يستعيد الفصاحة، زاد هؤلاء الشعراء الجمهور عامية وبعدًا عن الفصحى بأشعار لا ترتفع عن العامية كثيرًا باستعمال الفاظ وأقيسة عامية وعبارات مألوفة جدًا.

ولما تأكدوا من أن القصيدة العربية ذات الشطرين، بعد التجارب العقيمة التي قاموا بها، أفضل أسلوب للشعر العربي، قاموا بصنع قصيدة تشبهها شكلاً وأفرغوها من مضامينها الاشتغالية كافة وأسموها (قصيدة عمودية). ومنهم من لا يزال يستهجنها، قال الناقد فاضل ثامر (انظر بريبة إلى طاقة القصيدة العمودية الشعرية بسبب انطوائها على الكثير من القيم والمكونات والأصول التقليدية، فضلاً عن بنيتها السيمترية واتكائها على القافية والموسيقى الخارجية والتطريب)، وإذا كان حفظ الناس لشعر الشاعر معيارًا لنجاح الشاعر وأهمية الشعر، فالناس تحفظ (دجلة الخير) للجواهري و(أنشودة المطر للسياب) وتختفي بقية الأسماء التي لها رنة في الإعلام فقط.

الشعر العربي واقعًا انتهى مع المتنبي الذي أبلغ بذلك في قوله:

فلا تبالِ بشعر بعد شاعره

                قد أفسِد القول حتى أحمِد الصممُ

فالشعر العربي يشتغل على (اللفظ الفصيح)، ولما فقد العصر العباسي نصف فصاحة اللغة العربية، فقد اشتغل الشعر على نصف المساحة اللغوية والشعرية التي اشتغل عليها شعراء الجاهلية والعصر الأموي. وطبعًا مستوى الشاعر له تأثير في مستوى الشعر. في هذا العصر برز مصطلح أو مشكلة (الغريب)، وهو (اللفظ الفصيح الشعري المنسي) فالشعراء يجدون ضرورة استعماله وفي الوقت نفسه لا يملكون مهارة القدماء في استعماله فصار من المآخذ عليهم، فأخذ على أبي تمام مثل (أهيس، أليس، الأجفيل)، واخذ على المتنبي مثل (جفخت). واقترح الجرجاني الموازنة بين التراث الفصيح والواقع الحضري وأسماه (النمط الأوسط). ورأى ابن وكيع التنيسي أن المتنبي (لا يستحق التقديم على من هو أقدم منه عصرًا وأحسن شعرًا). كما أشار إلى أثر الجمهور في توجيه الشعر والشاعر؛ فقد صار على الشاعر استعمال لغة يفهمها الجمهور، فهو (بمنزلة صاحب الصوت المطرب يستميل أمة من الناس لاستماعه، وقائل الشعر الحوشي بمنزلة المغني الحاذق بالنغم غير المطرب الصوت، يعرض عنه إلا من عرف فضله).

وظهر أيضًا في العصر العباسي مصطلح (اللفظ والمعنى) فكثير من الشعراء أو أكثرهم تركوا الاهتمام باللفظ إلى المعنى فاشتغلوا عليه في مجاراتهم للذوق الأدبي غير العربي، فأشعار كل أمم العالم تركز على المعنى وليس اللفظ بعكس الشعر العربي، ونجد بعضهم مثل أبي العتاهية يجعل أشعاره معنوية تمامًا لبساطة الفاظه وعاميتها.

واشتهر أيضًا في العصر العباسي، عجزا عن استعمال اللفظ الفصيح الموسيقي، ما عرف بـ(البديع) وهو تجميل لفظي يعوض ذلك العجز، بإضافة موسيقى للألفاظ، وجمال ديباجة، وعمق معنى. وقد استشرى البديع كلما أوغلنا في العصر لبعدهم الأكثر عن اللفظ الفصيح وزيادة عجزهم عن استعماله، حتى صار بديلاً من الابداع أو هو الابداع نفسه. وبتراجع اللغة الفصحى المطرد صار الشعر العربي يتراجع إلى لغة العامة واستمر نزوله إلى فقر اللغة وضعف الشعر حتى وصلنا إلى أعتاب العصر الحديث.

في العصر الحديث وبالاستفادة من الطباعة، أعيدت اللغة الفصحى بمستوى معين سمح بولادة شعر عربي فصيح جيد، فكان البارودي وأحمد شوقي وبدوي الجبل والرصافي والجواهري. وحتمًا هذا الشعر دون مستوى العصر العباسي وأرفع من مستوى العصور الوسطى. وساعدت الصحف والأفكار النيرة القادمة من الغرب على صنع جمهور مثقف كان حاضنة جيدة لهذا الشعر وتقبله. ولكن العصر الحديث شهد مسخ غريب للغة العربية أنتج (نسخة خامسة للغة) جعل أغلب العبارات ترجمات عن الإنجليزية، وكثير من الألفاظ ذات معان إنجليزية بديلة من معانيها العربية. وهذا حسم مستوى الشعر. وقد وصف إحسان عباس شعر الجواهري بأنه (رحى تطحن قرونًا) وأحس الرصافي بأن الشاعر الفصيح يستعمل غير لغة الشعب، فخاطب الشاعر الشعبي عبود الكرخي بقوله:

دع هذه اللغة الفصحى فنحن بها

                                ظلنا نخاطبُ جيلا غير موجودِ

فالناسُ غيَّرتِ الأيامُ لهجتهم

                                بكل لحن على الأفواه معقودِ

وانَّ قرعك بالفصحى مسامعهم

                                أمسى كقرعك جلمودا بجلمودِ

ويذكر بروكلمان أن الشعر العربي ابتداءً من عام 1900 اتجه كلية إلى الغرب، فجاروا مذاهبه وقلدوا طرقه، وصار مفهوم (التجديد) سائدًا. ولاستشعارهم أهمية اللفظ انقسم الشعراء إلى أصناف منهم من أورد اللفظ كما أورده القدماء، ونجح في ذلك صاحب الموهبة العظيمة كالجواهري وبدوي الجبل، وأطنان من الشعراء ذهبوا مع أطنان قصائدهم جفاءً. ومن الشعر الجيد قول بدوي الجبل:

المذهبات كما تموّج في الضّياء الزعفرانُ

       عهدي  بها أخت الرّبيع  وللمهور  بها  إرانُ

تلك المروج شذا وأفياء وساجعة وبانُ

      الخالدان، ولا أعدّ الشمس، شعري الزمانُ

وقراءة شاملة لشعر هذه المرحلة تظهر أن شعراء هذا الجيل جعل الشعر العباسي قبلته ونموذجه المستعاد، وكثيرًا ما يستوقفنا شعر يقلد العباسيين في طرائقهم وألفاظهم ومعانيهم مثل عبد الحليم المصري في قصيدة: 

بالأعينِ اقتلنَ لا بالمشرفياتِ

                                السودِ لا البيض في شنِّ الإِغاراتِ

قرَّت منيات قوم فوقَ زئبقها

                                يا لهفَ نفسي على تلك المنيَّاتِ

سَقياً ورَعياً ظباءَ السرحتين هنا

                                ماءُ المحاجرِ في مرعَى الحُشاشاتِ

وصار الشعراء يبحثون عن أساليب جديدة في إيراد الألفاظ، فاقترح أحمد زكي أبو شادي استعمال (الحرف المنغّم) بدل البديع الذي صار لا يواكب الحداثة، ولم يأت بطائل. واستعمل علي محمود طه ألفاظًا هلامية كما ذكر شوقي ضيف مثل (المجالي، عروس البحر، حلم الخيال) وهي ألفاظ مفتوحة تحمل المتلقي بعيدًا عن الرتابة والملل ولكنها محدودة ولا تصنع شعرًا عربيًا حقيقيًا كثيرًا.

وشعر المهجر إلى شعر الشرق العربي يشبه الشعر الأندلسي إلى الشعر العباسي، فهو أرق وأرشق، وفيه تأمل ونظرات عميقة، ولكن ألفاظه بسيطة ليس فيها اشتغال وأكثرها معنوي، وقد كتب إيليا أبو ماضي قصائد كاملة في حكمة واحدة مثل: فلسفة الحياة، ابتسم، كن بلسمًا، الحجر الصغير، التينة الحمقاء ·

واستعمل نزار قباني ألفاظًا تميل الى البساطة، ولولا الغنائية في شعره لما نجح كثيرًا، فنحن نتذكر شعره المغنى فقط. واستعمل السياب الميثولوجيا والرمز لصنع الإدهاش لدى القارئ، كما توسع في الاستعارة إلى نوع من الإزاحة:

في قلعة جبلت حجارتها

                                بدم القلوب وبارد العــــــــرقِ

ظلماء يلهث في مغاورها

                                داجي الهواء لهاث مخــتنقِ

وتعفَّنَ الزمنُ الحبيسُ على

                                جدرانها  طبقًا  على  طـــبقِ

وعلى الرغم من ثقافته العربية، وقدرته على كتابة شعر بمواصفات الشعر العربي الخالد، إلا أنه اختار الارتماء في أحضان الشعر الغربي، وترك أبا تمام إلى مدام دي ستايل.

 واستمر الشعراء يجربون أساليب لفظية لكتابة شعر مميز، وقليلاً أسعف ما تبقى من اللغة العربية الفصحى الجزلة في ذلك التميز، وكان الانجذاب نحو الغرب وتراجع الفصحى لصالح اللغة الخامسة غير الفصحى يدفع الشعر إلى أحضان الغرب وإنتاج شعر عربي/غربي.

في مرحلة صدام حسين والدفع إلى الشعر التعبوي، ظهرت أسماء كثيرة وكبيرة اختفى أكثرها بعد سقوطه لكونها غير أصيلة في الشعر. كان الشعراء يكتبون بلا هدي أو تحديد، فاختلطت أساليب القديم بالجديد والغربي بالعربي، وكان الشعر المكتوب يصيب السامع بالصداع لخلوه من الابداع عدا القليل من الشعراء كعبدالرزاق عبد الواحد؛ فإنه بفضل ما امتلكه من ثقافة شعرية وثروة لغوية وخيال خصب استطاع أن يكتب قصيدة متميزة خالدة هي استمرار لمدرسة أحمد شوقي والجواهري وبدوي الجبل.

بعد سقوط صدام أراد الشعراء التسعينيون أن يصنعوا طريقة خاصة بهم تميزهم وتجعل قصائدهم مواكبة كما ذكر الشاعر حسين القاصد. ونعود إلى نصه لأهميته (نعم لي إضافات على القصيدة العمودية، لكن لا تجديد ولا مفهوم للتجديد ولن يكون في هذا المضمار، فبإمكان قصيدة لأبي تمام أو المتنبي أن تنسف كل دعوى للتجديد، لذا أعيد وأكرر قولي نحن منحنا القصيدة العمودية فرصة المواكبة بعد أن جمدت وماتت ملامحها وأصبحت أشبه بالأثر على أيدي شعراء القصيدة العمودية الذين سبقونا). لم يتغير شيء نحو الأفضل، فلا تقاس ثقافة هؤلاء الشعراء اللغوية والشعرية بثقافة الأجيال قبلهم، ولا حدثت معجزة فأعيدت العربية الفصحى في فترات عزها الجاهلي او الأموي بل حتى العباسي. بل تراجعت وقويت الإنجليزية وزاد تأثيرها أضعافًا مضاعفة.

لذا تميزت ألفاظ هؤلاء الشعراء بالبساطة الهابطة لتقديم شعر لمتلق صار ينفر من الفصيح إلى العامي. وقد عد فاضل ثامر الفصيح الشاعري (عفا عليه الزمن) وعد (اللغة اليومية) التي جعلها هؤلاء الشعراء لغتهم الشعرية (حسًّا حداثيًا حقيقيًا يرفض التنميق والزخرفة) وفصحى هؤلاء الشعراء لا ترتفع عن لغة الصحافة والأخبار اليومية، بل أحيانًا يأتون بألفاظ أو عبارات عامية بحتة يوجد بديلها الفصيح كقول عارف الساعدي (وعندما افترشوها الأرض خضَّرتِ) فأورد (خضَّرت) لأنها عامية مألوفة وفصيحها (أخضرَّت) وحتمًا الفصيح أشعر وأجمل إلا أن الشاعر رغب عنه إرضاء للعامة، وقوله (على سطوحك كانت تلتقي الصدف) والصحيح المصادفات، ولكنه ظن أن الصدف أشعر لأنها أقوى وقعًا، وأبدًا لا يؤدي الخطأ هدف الصحيح في كل شيء.

ومثله قوله (تاهت على الأرض) قاصدًا المعنى العامي (اشتبهت)، ومعناها الفصيح الصحيح (تبخترت) فضحى بالفصحى لإيصال الشعر برأيه للناس، بعكس شعراء عصر النهضة الذين رفعوا الجمهور من العامي إلى الفصيح، وأحيوا عشرات بل مئات الألفاظ والعبارات الفصيحة المنسية.

ومثله قول حمد الدوخي (يا ابن النّبوة هبنـــي نصحًا) فـ(هبني) الفصيحة تعني (احسُبْني واعدُدْني) وكان عليه أن يقول (هب لي) إلا أن النزول إلى المتلقي بدل رفعه ورفع شعره إلى مستوى الفحول، وهو شاعر متمكن، أوقعه في الخلط. وأخطاء أخرى مثل (لوحده صار أمه) والحال لا تجر فالصواب (وحده). وقال حازم رشك (وكم من مريم حبله) ولا أدرى من أين جاء بـ(حبله) ليس غير أنه يريد كسب العوام على حساب صحة اللغة وجماليتها، وليس يخفى أن الصواب (حبلى).

وأكثر اشتغال لفظي لهم، بل يكاد يكون سمة جمعية لهم الإفراط في الإزاحة، والتغريب الغريب مثل: حتى إذا قيل أين الله.. قلت لهم: ها.. ذاك ربيَ.. خيطٌ في عباءتها) وقول حين القاصد (أحمل شيب الكون في قممي) (نزفي نخيل) (حملت على رأسي إلى قدمي). ونجد مفارقات كثيرة ومعاكسات لفظية لا تخلق معنى كثيرًا وهي ملحوح عليها مثل:

الأغاني على شفاهي رمل

والتفاصيل فوق ظلي ظلُ

كيف أمشي وفوق ظلي ظل

 ومثل: (وبمائها احترقًا). ونقرأ ألفاظًا متداولة (وعلى كلٍّ) أو إدارية (عطفًا على) وغيرها مما هو في قاع الاستعمال اليومي وغير الشعري.

ولا نجد أغلب الأحيان بسبب التغريب علاقة تكاملية بين الصدر والعجز ككل الشعر العربي القديم مثل: (للشمس في كفيك سرُّ/ يقف الزمان وتستمر) ونجدهم يوزعون البيت ليس بمنطق الصدر والعجز بل حسب ما تنتهي العبارة فتجد الكلمات موزعة كأنه شعر تفعيلة، وهم يقصدون ذلك هربًا من الرتابة السيميائية لأبيات الشعر العمودي.

ومعانيهم كألفاظهم تسودها البساطة المغرِّطة، فليس فيها عمق أو تأمل أو اشتغال بديع، انظر قول حسين القاصد:

الطين يغضب ربما ينتابه

خوفٌ ولكنّ الحتوفَ جوابه

الطين (مسنونٌ) يمرغ وعيه

ليصير إنسانًا له أسبابه

وقول عارف الساعدي:

مشغول

مشغول

مشغول

دائمًا أرددها

فانا مشغول جدًا

مشغول بإيصال أطفالي إلى المدرسة

ومشغول بعودتهم إلى البيت

كيف لهذا المشغول جدًا

أنْ يستيقظ في يومٍ من الأيام

وهو بلا شغل

المشغول جدًا

لم يعد يحتاجه أولاده لشراء الحلوى

ولم يعودوا يبكون على صدره

فما المعنى الشاعري في هذه والكثير لكثيرين؟

أما الموسيقى فليس شغلهم، فقصائدهم ليست بموسيقية قصائد إبراهيم ناجي أو علي محمود طه أو الجواهري أو السياب أو نازك أو أو. كل اعتمادهم على وزن البحر وهو إطار موسيقي لا يكفي دون ملئه بموسيقى عميقه عمادها الألفاظ والمعاني وعلاقات الجملة والديباجة وموسيقى داخلية بعنف الغرض أو العاطفة الجياشة أو الهمس الثاقب. ليس في شعرهم ما يدل على اشتغال موسيقي، أقرأ أبيات حمد الدوخي في الإمام الحسين (رضي الله عنه) فأجده يركز على ألفاظ القافية وصنع معان مؤثرة، ولا أجده يصنع موسيقى فأحس ببحر المجتث وحده ظاهرًا في القصيدة.

ليس الحسين إماما      بعضُ الحسين أئمـــه

بخلق روح حسين        قد  أكمل  الله حلمــه

يا مثلَ جدّكَ روحًا         ومثــلهُ  جئت  رحمــة

المجد  كلمة  حـق       وأنت حـــقٌّ   وكلــمـة

ولا أرى أي تأثير لهاء السكت التي تأتي في أشعار العرب وهي تزيد على طاقة القافية صدمة ولذة حتى إن القلب يتحد مع الأذن في صعوده معها كقول الشاعر:

بَكَرَت عَلَيَّ عَواذِلي        يَلحَينَني وَأَلومُهُنَّه

وَيَقُلنَ شَيبٌ قَد عَلاكَ وَقَد كَبِرتَ فَقُلتُ إِنَّه

وقي قصيدة عارف الساعدي (ابتي آدم) و(آدم الأخير) يخلط الشاعر بين بحري (المتدارك = فاعلن) و(الخبب = فعْلن وفعِلن) وهما بحران وليسا بحرًا واحدًا، ولأستاذي الجليل (خشان خشان) بحث مفصل في التمييز بينهما:

أبتي، يا أبتي آدم

ماذا أحسست

وأنت تفتح عينيك لأول يوم

كي تكتشف العالم

وقصائد كثيرة خسرت بسبب المواكبة اللغة الشعرية التي تقوم على عنصري (الخيال) و(الجمال)، وهو ما جمعه تعريف ابن منظور (هو الكلام المنظوم الذي يعتمد فيه صاحبه على الخيال ويقصد فيه إلى الجمال الفني). وإذا تحلى أصحابها بالثقة والشعور العميق بالإحسان قان الانبهار بطريقتهم قل، ونفد جديدهم وعاد الجمهور إلى الملل من تكراراتهم، ولعله آن الأوان أن نعود إلى العرب: لغة فصحى وأسلوبًا شعريًا.

وأخير أقول ناقدًا وليس منتقدًا: إن ما ركزت عليه في الدراسة هو أسلوب شعر الشعراء التسعينيين وليس شاعريتهم ولا شعرهم الشاعر، وهم شعراء يستحقون الاحترام وأفضل الموجودين في المشهد الشعري العراقي، ولهم قصائد عيون. وقد وضعت إزاء أعينهم عيوب طريقتهم، والمسؤولية الشعرية التي عليهم حملها بالكتابة على اللغة العربية الفصيحة العالية لكتابة شعر أرقى وأبقى، وأن ما كتبوه منحهم الشهرة ولن يمنحهم الخلود، فالخلود في الخط الشعري العربي الذي كتب عليه الفحول المدركون إن الشعر العربي لا يكتب إلا بلغة العرب الفصحى.


عدد القراء: 4013

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-