بلاغة القصيدة الجرداء -خانَكَ الطَرفُ الطَموحُ-نموذجًا1الباب: مقالات الكتاب
د. ليلى درويش باحثة أكاديميّة في جامعة منوبة، قسم الآداب والفنون والعلوم والإنسانيات - تونس |
مُلخّص البحث:
سعى هذا البحث إلى قراءة قصيدة أبي العتاهية (عَلَمُ المَوتِ يَلوحُ) من خلال تأويل البؤرة التخيلية وأبعاد الترميز فيه. وما يميّزه أنه استنطق النص الشعري، وحاول أن يكشف عن البنية الدلالية والبنية التّصورية لقصيدة أبكت أعظم خلفاء المسلمين هارون الرّشيد، وأن يدرس الصّور التي تحملها اللغة وهي لا تشكل كيانًا منفصلاً عن المستوى القاعديّ ــ الحسّيّ للمعنى، والباحث، وفيما تهيأ له من دراسات، لم يعثر على دراسة لهذه القصيدة، ولا للمُتخيّل، ولا للآليات الذّهنيّة الكامنة وراء نشوء تجربة شعر الزهد التي تتدخّل فيها عوامل شخصيّة، ومرجعيّات مختلفة و تخييل، بل كان أغلبها إشارات – هنا أو هناك- في إطار الحديث عن التّجديد في شعر المُحدثين.
الكلمات المفتاحيّة: استعارة الجموح، حرب القيم، بنية تصورية، معان طرازيّة.
1. الإشكاليّة وطريقة التّناول:
لقصيدة الزهد قوانين مخصوصة فهي تنطلق من الواقع من أجل إصلاحه، موضوعها الزهد في إطار حجاجي، كما تدعو إلى الاستعداد للرحيل دفعًا إلى الخير، وتخفيفا من الغلو في الحياة، وحتى يعدل المرء من تطرفه المادي نحو اللهو، فهي كلام جميل في إطار صراع القيم، وفي ذات الوقت فإنّ الشاعر صانع صور، والصورة لها منطق آخر يهمها الصدق العاطفي، وهو ليس صدقًا عقلانيًا بل تعبير عن المشاعر يتجاوز الواقع لأن اللغة تتجاوز الواقع و لها نظامها، وبالتالي فالشّاعر يتخذ حيلاً خيالية لغوية للوصول إلى واقع هو واقع الوجود، وليس الوجدان، ولذلك فهي تطرح إشكالا حول كيفيّة تناولها تناولاً يبرز كلّ هذه المستويات، وكلها مـتضمنة في النص نفسه تشتغل بصفتها محاور تشكيله.
وفي هذا الإطار يذهب لايكوف في كتابه الشهير المرأة والنار والأشياء الخطرة الذي أصبح مرجعًا أدبيًّا معرفيًا ثقافيًا في البحـث البلاغـي الحـديث إلى أن التفكير البشري هو قدرة ذهنية على تشكيل الأبنية الرمزيـة بـالانطلاق من القيم الثقافية المتجذرة في الواقع الاجتماعي، فالتفكير يتعامل بالتجارب الإدراكية وليس بمجرد ربط الأشياء بالمفاهيم، وكذلك فإنّ الشعر أراد أن يناسب مقامه فأصبحت مادّة الصّورة مختلفة في قصيدة الزهد، تقدّم رؤى يتقاسمها الواقع والخيال: اﻟواﻗﻊ اﻟﻣﻟﻲء ﺑﺎﻟﻣﺣﮐﻲ عن أخبار السلف الصّالح، و خطاب الزّهد، وصوره المستلهمة من هذا الخطاب، والتقاليد الشعرية الموروثة، و يـتم بها، ومن خلالها إسقاط طراز من الأطرزة، أو إطار ذهني، أو مجال على موضوع من المواضيع، وذلك لأن الشّاعر لا يملك سلطة التّسمية على العـالم إلا خلال مقْولته وتنظيمه ضمن أطرز، ولا يستطيع المُخاطَب أن يفهـم الشّاعر خلال تلك المقْولة ما لم يمتلك طـرازا أو إطارًا، أو خطاطة يـصنّف مـن خلالـها ذلــك المعنــى، ولقصيدة الزهد منوال خاصّ، فهي تروي قصة ميتافيزيقية أيْ رحلة خارج الزّمان، والمكان جسّدها شعراء الزّهد في رحلة من الحياة إلى الموت؛ رحلة في طلب الحكمة والتّزكية والبحث عن صميم الوجود،و ليس الوجود الظاهر الفيزيائيّ بل الوجود الميتافيزيقي.
ويــذهب لايكــوف وتورنر وســائر الباحثين في الشعريّة العرفانيّة إلى أن الأنساق التصويرية أو التمثيلية أو المجازية في اللغة الطبيعية هي حصيلة تفاعل اللّغة بالمناويل الذهنية المُتجذّرة في المخيلة، فالمعنى ليس مُحصّلة شكلنة عامّة، وإنّما هو يعتمل في ذهن قائله. من هذا المنطلق يمكن أن ندرس قصيدة الزهد دراسة تكوينية انطلاقًا من الرؤية العميقة المتجذرة في ذهن الشاعر الشّاعر من خلال الاستعارة المفهوميّة والاستعارة الاتّجاهيّة.
2. التّعريف بالشّاعر ومناسبة القصيدة:
هو أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم، المعروف بأبي العتاهية (130هـ-211هـ/747م-826م) أول شاعر مؤسس فلسفة الزهد في الشعر العربيّ، ويُقال إنّ أبا العتاهية قد بسّط أسلوبه عمدًا من أجل إيصال رسالته إلى كلّ الناس. ولد بالقرب من الكوفة، وقضى معظم حياته في بغداد شاعرًا في البلاط الملكي للخلفاء العبّاسيّين: المهدي وهارون الرشيد والأمين والمأمون. ولقد أثار حب الشاعر لعتبة، وهي جارية للخليفة المهدي في نفسه الكثير من الشّجن. وكان شاعر النظرة الفلسفية الزاهدة إلى العالم التي تطورت بوصفها رد فعل على التّنصّل من الضوابط والقيم الذي ساد الخلافة العبّاسيّة. ولقد أضحت قصائد أبي العتاهية في الغزل المتشائمة، والمليئة بالتأملات الفلسفية جُلّ شعره فيما بعد.
وقد جاء في الأغاني أنّ أبا العتاهية كان نديم الرشيد، وكان يقول في الخمريات، وفي الغزل. ثم لما وصل الأربعين تاب وهي تجربة وجودية جديدة، واستمر عليها، فحبسه الرشيد، وقد كان نديمه، ويقول في الخمريات وفي الغزل، ولما وصل الأربعين تاب من مفعول قراني، وقد حبسه بسبب الزهد، وفي نفس الوقت كان يحتاج إليه في زهده، وحبْسه كان شبيها بالإقامة الجبرية، وفترة الحبس مذكورة في الأغاني، ومتن الخبر في العلاقة بين الشاعر والسلطة، و الشاعر من خلال الخبر تحت الخدمة، فالرشيد طلب موعظة منه ليُجَوِّدَ محيطه، ويؤسس نزهته النهرية بالشعر، فصوت الملاحين لم يعجبه، ورغب أن يرتقي بالأغاني، ويرتقي بالمحيط الذهني والفني، فقد كان ذواقًا. فبعث إليه أبو العتاهية هذه القصيدة فأنشدها الملّاحون، فأبكته بكاء شديدًا وزاد نشيجه وبكاؤه حين وصل إلى البيت الحادي عشر وهو يمثّل ذروة إبداعه، فالرشيد يؤثّف سهرته بشعر الخمر والغزل وفي الصباح يطلب الموعظة من أبي العتاهية ويرقّ قلبه للموعظة ويبكي.
3.بنية القصيدة:
القصيدة في الزهد والزهد فيها فيه الحكمة وفيه النفس الحجاجي في مخاطبة المتقبل فهو يخاطبه مباشرة (ب1) ثم يعود إلى الحكمة (ب 2)، ثم يلتفت إلى الحكمة (ب 3) ثم يلتفت إلى ضمير المتكلم (ب 5) ثم يلتفت إلى الحكمة (من ب 7 ـ إلى ب 15) فالنص حجاج، يستهدف الإفهام والإقناع والتأثير وتمثّل مخاطبة النفس جزءًا من لعبة الضمائر، فهو يلوم السامع عبر لوم نفسه،لأن الوعظ المباشر ثقيل على القلب، وإنّ أهم شعراء الزهد مثل أبي العتاهية، و أبي نواس، و رابعة العدوية، و محمد بن يسير الرياشي، و عبدالله بن المبارك أيقنوا بهذه الحقيقة، فانتهجوا سبيلاً أخرى وهي أنّهم يتلطّفون بمخاطبهم بالحكمة أو يبدؤون بمؤاخذة أنفسهم، وهو أسلوب مبتكر في فن الإقناع و التأثير. والنصّ يتأمّل في الوضعيّة الإنسانيّة تنتظمه بنية استعاريّة تتجسد داخلها وظيفة المفارقة في ذهن المُخاطب، واستثارة التفكير لديه في أحواله بين غفلةِ الشهوات وحتمية الموت الرهيبة.
4. البنية الاستعاريّة التّصوّريّة
والشاعر يعبر بأﺳﻠﻮب أﻣﺮي وﻋﻈﻲ عبر التفاتاته لكيْ يُثير مشاعر المُتقبّل بلغة مُبنْينة استعاريًّا، دافعًا إيّاه إلى أن يُعمل خياله فيها، وتشتغل حول إبراز المفارقة بين ما هو موجود، وما يجب أن يكون في علاقة المرء بالحقيقة، وبين فضل الله عليه و جحوده، وقد شكّل صوره من خلال الجبال، واللباس، والفرس، و الخمر، والجسد، وهو يضع الحدود الإدراكية والتصورية للأشياء، ويصوغ لها مقولاتها وقوالبها، و يقضى بعضوية العلاقة بين الصورة الذّهنيّة والشيء و الإدراك الذي يكون ذا مستويات ودرجات مختلفة، وبأن صورة الشيء الذّهنيّة وأبعاده جزء من التّجربة القاعديّة الحسّيّة فتصبح صورة الشيء المادّيّة غير قابلة للانفصال عن ماهيته المجرّدة، بل هي جزء من هذه الماهية، ومن هذه العلاقة الجدلية القائمة على الترابط، والوحدة، و التّفاعل بين هذه العناصر جميعًا. وما نحتاج أن نلتفت إلى تحليله هو النظر في البنية التّصويريّة داخل البنية المعرفيّة المكونة للعملية الشعرية، وتنتظمها الاستعارة الاتّجاهيّة أعلى - أسفل لأنّ شعر الزّهد بشكلٍ أساسيٍّ هو شعر ترقٍّ وتظهر على سطح اللغة في البيت الثاني عشر.
1.4 الاستعارة الاتّجاهيّة:
تشتغل في القصيدة استعارة اتّجاهيّة لا تظهر بوضوح في سطح الكلام ولكنّها تنظّم نسق التصوّرات المتولّدة عن الاستعارة التّصوّريّة، وقد اشتغل على هذا المبحث مارك جونسون وامتدّت إلى الشعر فوجدنا الشعراء يبنون مُتخيلهم على الاستعارة الاتّجاهيّة لأنها مندرجة في عصب نظام التمثيل وتلعب خطاطة الأعلى والأدنى في قصائد الزهد دورا محوريًّا، يقول (ب12):
كُلُّنا في غَفلَةٍ وَال مَوتُ يَغدِ وَيَروحُ
يوظّف الشّاعر (كلّ)، و هي اسم يأتي دائما مضافا، مشتق من الكِلّة ويفيد معنى الإحاطة، ويأتي على معنيين الإحاطة بجميع أجزاء الشيء أو الإحاطة بجميع أفراد الشيء أي الاستغراق، وفي هذا السياق يفيد الإحاطة بجميع أفراد الشيء، وفي البيت السّابق (ب11) نُسب لعموم الكائنات، ثم نسب لخصوص البشر وضمنهم الشاعر، وهذه خطة حجاج، وخطة إصلاح، وأسلوب في التّلطّف بالمخاطب حتّى يتمكّن من عقله، ومن وجدانه.
ثمّ يحاجج الشّاعر ضدّ غفلة الإنسان مؤكدًا أنّه يوجد وضع إشكالي ومفارقة بين ما هو عليه وبين الحقيقة المطلقة (الغفلة) من ناحية و(حتميّة الموت) من ناحية ثانية، من خلال خطاطة: المركز -الأطراف، فالإنسان الغافل في المركز، والموت المحتوم يتربص به، ويحوم حوله من بين يديه ومن خلفه، فتعددت الجبهات والموت واحد.
وأمّا الخطاطة الثّانية فتتجلى فيها الصورة الاتجاهية (أعلى-أسفل)، فما نحياه دون مستوى الحقيقة المطلقة، والمطلوب مغادرة الغفلة إلى الوعي؛ من التّسفّل (الغفلة) إلى التّرقّي نحو الحقيقة العليا (الله) مطلوب الكل وغايتهم.
2.4 الاستعارات التصورية
.1.2.4استعارة الجموح:
من معاني الزهد سبر النفس واستنطاق دواخلها والشّاعر ينشئ لهذا الغرض صورة إذْ يقول(ب1و2):
خانَكَ الطَرفُ الطَموحُ أَيُّها القَلبُ الجَموحُ
لِدَواعي الخَيرِ وَالشَر رِ دُنُـــوٌّ وَنُــــــــزوحُ
ومعنى الجموح وجمح إليه أسرع، وقوله تعالى لووْا رؤوسهم وهم يجمحون، أيْ يسرعون، وقال الزّجّاج يُسْرعون إسْراعًا لا يردّ وجوههم شيءٌ ، وبين جموح وطموح جناس غير تام، ففعل جَمَحَ يُوصف به كل من يخرج عن السيطرة: المرأة الرجل الفرس القلب.
والطموح هو مِنْ طَمَحَت المرأَة تَطْمَحُ طِماحًا، وهي طامحٌ: نَشَزَت ببعلها. والطِّماحُ مثل الجِماحِ. وطَمَحَت المرأَة مثل جَمَحَتْ، فهي طامح، أَي تَطْمَح إِلى الرجال. في حديث قَيْلَةَ: كنت إِذا رأَيت رجلاً ذا قِشْرٍ طَمَحَ بصري إِليه أَي امتدَّ وعلا، وهي صورة طرازيّة في شعر الزهد فتصبح صور الشاعر هي ما يتمثل في مفاهيم وتحولات وتصورات تحكم حركة الإنسان وتوجهاته، من ناحية، وتعتمل في عوالمه الداخلية، من ناحية أخرى على نحو يتوازى مع ما يحدث في الواقع الخارجي والمُقولة اللغوية.
فطمح وجمح مرتبطان بالشهوة، والشّاعر يقابل بين القلب هو موطن الهداية والطرف (العين) موطن الغواية. وبين طموح جموح جناس واشتقاق كبير، وفي نفس الصورة طباق بين جموح القلب إلى الحق الأبدي وطموح العين إلى الشهوي، والدنيوي الزائل، فالنفس البشرية تتضمن العالمين: عالم الحقّ وعالم الباطل، والشاعر الواعظ يريد تخليصها من الشهوة إلى يقين الحق.
2.2.4 استعارة الغفلة مرض القلوب:
ما اللغة الاستعارية إلّا مظهر سطحيّ للاستعارة التصورية. وهي عند أبي العتاهية تطرح اعتقاده وتصوّراته عن الذات البشرية، وفي هذا الموضع يُجري استعارة: الغفلة مرض القلوب، والقلب المريض مجازًا مرسلا لعلاقة الجزئية إذْ أطلق الشاعر الجزء، وأراد الذوات كلها، ولعل السر في التركيز على هذا الجزء هو أنّ القلب يحتل المكانة العليا من الإنسان، فالعقل يدرك المعقولات، والحواسّ ينتج عنها المعرفة الحسية، وأمّا القلب فهو يدرك ما وراء الموجود، والمعرفة الحدسية أعلى مرتبة. يقول (ب3):
هَل لِمَطلوبٍ بِذَنبٍ تَوبَةٌ مِنهُ نَصوحُ
كَيفَ إِصلاحُ قُلوبٍ إِنَّما هُنَّ قُروحُ
تفيد (هل) الالتماس في هذا الموضع، وهو أسلوب تلطف، ويستعمل الشّاعر اسم المفعول (مَطلوب) حتى لا يخاطب السامع مباشرة وفي ذلك أيضًا تلطف، والقَرْحُ والقُرْحُ لغتان بمعنى عضّ السّلاح ونحوه ممّا يجرح البدن وممّا يخرج بالبدن، وقيل القرْح الآثار، والقُرح الألم، وقال يعقوب كأنّ القَرْح الجراحات بأعيانها وكأنّ القُرْحَ أَلَمُها، ففي البيت مخاطبة عن طريق الغياب، وحكمة في مواجهة الموت، والقلب معنى مركزي وطرازيّ عند الزهّاد، والسّالكين، هو الذي وعى بوجود الله، وعى وجوده، ورحمته، وحكمته، و هو موطن الهداية، ونهض المجاز المرسل بإبراز كون القلب هو الإنسان في تحقيق الصلاح من خلال إسقاط مجال على مجال وكأنما هذا التصور الذي يراد إعادة بنائه وتقويمه وتوضيحه وترسيخه في المجتمع بمثابة القلب من الجسد، إذا فسد التصور فسد العمل، وكلّما مرض القلب تهالك البدن، والهداية تجر إلى مزيد من الهداية، والضلال يجر إلى مزيد من الضلال والانسياق وراء الوعود والأماني الكاذبة.
3.2.4 استعارة السّتر لباس:
ويبرز الشّاعر مظهرًا آخر لبشاعة جحود الإنسان وهو يتحدث عن مفهوم السر، سر الإنسان الذي لا يعلمه إلا الله، كذلك الخطايا ترتكب سرًا وموطنها النية، ويُنشئ الشّاعر لمفهوم السر مدﻟﻮﻻت تجمعها ﺑﻨﻴﺔ تصوّريّة استعاريّة واﺣﺪة ﺑﺘﻔﺮﻋﻬﺎ ﻋﻦ أﺻﻞ تجريبيّ واﺣﺪ: اللباس(ب5و6)
أَحسَنَ اللَهُ بِنا أَن نَ الخَطايا لا تَفوحُ
فَإِذا المَستورُ مِنّا بَينَ ثَوبَيهِ فُضوحُ
فهو يستعير تجربة العرب في اللباس، فالمقصود بقوله (ثَوبَيهِ) ثوبيْ الإنسان العربي، ويقصد الشّعار والدّثار، ففي لسان العرب يوردُ فيما يتعلّق بكلمة "الشعار" ما يلي: والشّعارُ: ما وَليَ شعر جسد الإنسان دون ما سواه من الثياب، والدثار: الثوب الذي فوق الشعار... وفي حديث الأنصار: أنتم الشعار والناس الدثار؛ أي أنتم الخاصّة والبطانة. والمعنى أنّه: تطلق كلمة الشعار ـ بكسر الشين. على اللباس الداخليّ الملاصق والمماسّ للبدن، بخلاف الدثار الذي يطلق على اللباس الخارجيّ، وبذلك ورد في الحديث: أنتم جماعة الأنصار الشعار، وسائر الناس هم الدثار، يعني: أنتم معشر الأنصار من زمرة الخواصّ والسرّ .
فالعرب يلبسون ثوبين شعارًا ودثارًا والشعار ما يتصل باللحم والدثار ما يوضع فوقه من رداء وبرد وغيره، سُمّيَ كذلك لالتصاقه بشعر الجلد، فذات الإنسان التي لا يطلع إليها إلا خالقها هي بطبعها مستورة. فهو يعبر بالصورة المحسوسة عن معنى ذهني؛ الخطايا، وللخطايا جزء روحي وتقع في النية وهي مخفية وهي سر الإنسان وكل إنسان له سره وذاته، ولذلك فالذنوب لا تنكشف وقد اقترن ذكر الذّنوب بالرّائحة نظرًا لاتّصال العمل بالرّائحة في المعنى القرآني، والصور كلها حسية والغاية منها التأثير في ذهن المتقبل.
وبوسع المرء أن يجد للمعنى ظهيرا من خلال ضرب من الاستحضار لطرز راسخة في اللغة؛ لأنّها ﺍﺳﺘﺪﻋﺎﺀ لماض ثقافي ولصور قاعديّة ملموسة، فأبو العتاهية ينشغل بممارسة تزكية النفس بصورة واضحة مبسّطة.
4.2.4 استعارة العلَم:
للموت بنية تصورية في القصيدة، والشّاعر يتوسّع من خلالها نحو إبراز غفلة الإنسان في كلّ شعره، وهذا البيت هو ذروة إبداعه في القصيدة وهو الذي أبكى به الرشيد (ب11) يقول:
بَينَ عَينَي كُلَّ حَيٍّ عَلَمُ المَوتِ يَلوحُ
فهذه استعارة تخدم المعنى المركزي، وهو حتمية الموت ويمثل ذروة الإبداع عنده، ولا يمكن فهم الصورة إلا باستحضار معنى الهجوم، والمباغتة المرتبطين بالموت، فالإطار هو الحجاج واستعمال معنى حتمية الموت للإقناع بضرورة الزهد في الدنيا والعمل للآخرة، والأجزاء هي العينان والإبصار والجبل/الموت يظهر في الأفق، ومركز الصورة هو الإنسان الناظر إلى مصيره، والإطار هو الحجاج واستعمال معنى حتمية الموت للإقناع بضرورة الزهد في الدنيا والعمل للآخرة.
فالأجزاء هي العينان والإبصار والجبل الهاجم /الموت يظهر في الأفق ومركز الصورة هو الإنسان الناظر إلى مصيره، على أنّه لا يكتمل فهم الصورة إلا باستحضار معنى الهجوم والمباغتة المُرتبطيْن بالموت، والإطار هو الحجاج، واستعمال معنى حتمية الموت للإقناع بضرورة الزهد في الدنيا والعمل للآخرة في تناسق مع الأبعاد الأخرى التي تشكل العالم المتخيّل، فهو يجعل المعنى يتأسس على المقايسة بين الموت المفاجئ وهي صورة طرازيّة في شعر الزهد وصورة العلم وهي أيضًا طرازية:
فالعلم في الأصل هو الجبل وبعد ذلك أصبح بمعنى الراية، والعلم هو ما يظهر للعيان وسط الصحراء حيث كل شيء منبسط وقد جاء في القرآن قوله تعالى (وسفن كالأعلام) أي كالجبال ظاهرة بارزة وللعلم معنى طرازي، فالجبال في كبرها، وبروزها أصبحت بمعنى الراية، فهذا طراز استعاريّ لكل شيء ظاهر، وبارز ، وعلم الموت استعارة تصريحية لما يلوح، فالناس كل يوم يرون الموت وهم في غفلة عنه.
5.2.4 الاستعارة التّصوّريّة الحياة كأس:
تهدف أشعار أبي العتاهية إلى تصوير الحياة والطبيعية البشريّة في تناقضاتها، وجحودها، وإنكارها الحقيقة، ومن أهمّ الأبنية الشّعريّة: الحياة زاد ينفذ في أيّ لحظة، والحياة رحلة قصيرة والحياة كأس وهي تقوم على طريقة في تمثل العالم والتلفظ به وفي ذلك يقول(ب14و15):
لِبَني الدُنيا مِنَ الـــدُن يا غَبوقٌ وَصَبوحُ
رُحنَ في الوَشيِ وَأَصبَح نَ عَلَيهِنَّ المُسوحُ
تشفُّ القصيدة عن استعارة الحياة جسر للآخرة، وهي بنية استعارية لمعنى مُؤقّتيّة الحياة وتبدو البنية المفهومية الاستعارية ظاهرة متدرجة، ومفهومًا مجردًا واحدًا يمكن أن تكون بمثابة الجشطالت التجريبي في الكثير من العبارات مثل (الحياة لحظة) و (الحياة يومان) و (لقد جئت إلى الحياة فقط من أجل كأس واحد) فالحياة كأس، ومن الناس من يصفها بأنّها مرّة، ومنهم من يصفها بأنّها حلوة، وأبو العتاهية يشتغل على هذه البنية لتصبح الحياة مجرّد احتساء كأسيْن فيربطها بناحية حضاريّة فللشراب أوقات ومواعيد خاصة من الصبوح والغبوق:الصبوح وهو ما يُشرب في الصباح والغبوق وهو ما يُشرب في المساء ليبرز أنّ المتع في هذه الحياة متع منقوصة وسريعة الانقضاء، ويستغرق البيت الموالي معنى مؤقتيّة الحياة الدنيا من خلال زوال بهجتها ونضرتها، وانقضاء نعيمها انقضاء سريعًا، وقلة فائدتها في قوله (فرُحنَ في الوَشيِ وَأَصبَح نَ عَلَيهِنَّ المُسوحُ) ﻛﻨﺎﻳﺔ ﻋﻦ زوال الشيء بسرعة ﻛﺄﻧﻪ ﻧﻔﺦ ﻓﻴﻪ ﻓﻄﺎر، وفي ذلك توليد لمعنى حتمية الموت، والقوة والفتك والبطش والإطاحة بكلّ عزّ وسلطان .
5 الاستعارة الأيقونيّة:
الأيقونية هي إحدى المبادئ التي تحكم بنية النص الشعري في اشتغالها مع الاستعارة، فللأيقونة دور في بنينة النص الشعري، ولها دورها في إبراز تصوير حقيقة الموت، تلك الحقيقة التي يغفل عنها من كبّله حب الشّهوات، ويمكن أن نلخص الاستعارة الأيقونيّة في التشابه، والتقارب البصري بين صورتين، أو بين مثل مع السياق الذي ضرب فيه المثل، وهناك نكتة تكمن في تلك المعاينة الذهنية الموازِنة وفي الالتذاذ الحسي الحاصل من إعمال القياس الذي بموجبه يحتفظ الوعي بصورتيْ المتشابهيْن في آن واحد ويبرز التواشج الوظيفي بين مُدركيْن كما في قول الشّاعر(ب7و8):
كَم رَأَينا مِن عَزيزٍ طُوِيَت عَنهُ الكُشوحُ
صــــاحَ مِنهُ بِرَحيلٍ صائِحُ الدَهرِ الصَدوحُ
فطوي عنه الكُشوحُ هي كناية عن الموت، والدّهر هو القاتل الذي يقبض الأرواح ويغتال النفوس وصاحَ مِنهُ بِرَحيلٍ صائِحُ الدَهرِ الصَدوحُ فيه اقتباس للمثل العربي صاحت بهم حادثات الدهر: وهو مثل يضرب لقوم انقرضوا واستأصلتهم حوادث الزمان. و يهدف الشّاعر إلى أن يخلق دليلاً موازيًا في ذهن المُتقبّل، و ينهض على التذكير بكثرة من ماتوا، والتّشابه واضح، والصياح أصلاً مرتبط بالرحيل وهذا معنى مُتجذّر في الزهد، ويستخدم الشّاعر نماذج كنائية متعارف عليها في النظام الثقافي الكنائي العربي استخدامًا أيقونيًا، وعلى مدار التجربة تعمل الكناية بوصفها عنصرًا أيقونيًّا كاشفا عن إدراك الوجود الفاني حيث الحقائق واضحة وضوح الشمس، وهي تنتقل من كونها عنصرًا من عناصر التجربة إلى كونها عنصرًا من عناصر القصيدة، وهي تشتغل بالمقايسة بين المُتشابهيْن، وتؤرخ لمبدأ المقاربة بين العوالم.
6. بلاغة القصيدة الجرداء:
تقوم القصيدة على تأمّل النّفس، وعلاقتها بالحياة والموت، لتبرز حكمة أزلية هي أن الحياة مجرد جسر. والحياة الحقّ هي الوعي بالآخرة، فأبو العتاهية ينشئ بلاغة القصيدة الجرداء التي تحذّر من الموت مشبعة بمرجعيات معرفية متباينة في الوقت الذي يتخذ فيه أبو العتاهية من اليومي، والتجربة اليومية للذات مصدر شعرية القصيدة. وتستند إلى معان قرآنيّة، ومناويل تصويريّة تكشف بنية المفارقة المتمثلة في هشاشة الوضعية البشرية بين حتمية الموت، والتعلق بالشهوات. فهي في كلّ ذلك تأمّليّة متشائمة، وتستند إلى بلاغة تحذير من الموت، ونشدان لما هو أعلى وحرب على القيم السّائدة:
6. 1 بلاغة التحذير من الموت
إنّ هذه القصيدة ذات منبت وقعي تأملي للمنزلة الإنسانيّة الهشّة، فهي متجهمة، عابسة، وصارمة؛ تتضمن بعدا تأمليًا يتمثل في تمكين الفرد من تقييم الفعل الأخلاقي بطريقة نقدية. وتبدو القصيدة وكأنها نشيد متشائم عن حياة عابرة ليست سوى فخ لا يؤدي إلا إلى خداع النّفس، وإلهائها بالمتعة والترفيه قبل أن يأتي الموت لينتزعها، في وقت أقرب بكثير مما نعتقد، والقصيدة هي علاقة ذهن بذهن في نطاق اجتماعي، وأبو العتاهية داخل العالم يؤثر فيه، ويخلق تواصلًا معه، و هو يركّز على القلب محل الإيمان، والقلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وتفسد النفس بالشهوات، والقلوب تقسو وتصيبها الغفلة، والشاعر يستدعي المعنى القرآني (القلوب المريضة)، فهو يتحرك في جماليات مستوحاة من داخل المنظور القرآني والمنظور القرآني في علاقة بالواقع يتحرك داخله، ويؤثر فيه، ويغيره، والشاعر يرغب في التغيير من خلال الحجاج، و يبرز يأسه من خلال الاستفهام الذي عبّر عن الاستحالة في قوله (كيف إصلاح القلوب)، والشاعر يسرد الحقيقة الموجودة في الماضي والحاضر والمستقبل، وليس حوادث محدودة بالزمان، والمكان فهو يستعرض الحقائق المطلقة، وهو يقنع بتلطف، ويخاطب الإنسان مطلقًا، موضوعه المرء في كل زمان ومكان، ولذلك فهو يذكر من له أذنان تسمعانه، وقلب يفهمه أن كل شيء هنا، على الأرض، هو زوال وغرور، وأن الثروة إغراء، وأن اللذة لا تدوم، وأن الحكمة تفضي إلى التوبة والرفض للحياة وملذاتها.
6. 2 بلاغة نشدان ما هو أعلى:
والقصيدة تعرض ضربًا من التّخييل في علاقة بالواقع وبالمعانيّ القرآنيّة، فشعر الزهد يتقاطع فيه ما هو رمزي بما هو نفسي بما هو تخيّلي مع الحقيقة المطلقة، وفضاء لتأمّل حياة النفس، وشهواتها زمانًا ومكانًا، فالذات المتأمّلة المتمردة وُجدت عند بعض الشعراء مثل أبي العتاهية، وقد رفض الغزل والمدح، والخمريات، واتجه إلى التذكير بالموت، في ضرب من نشدان المطلق، والقصيدة نشيد مُتشائم لحياة الإنسان، ونشدان لما هو أعلى، وتلعب الصورة المحسوسة، والمُجسدنة دور الوسيط بين العالم النفسي، وعالم المثل، والعالم المُتخيل، وتبدو العلاقة متينة بين الواقع والمتخيّل، وقد توسّل أبو العتاهية بالكناية، والاستعارة على أنّ وظيفة كليهما ليست تزيينيّة، ولا بلاغيّة بل هي تبنين طريقة إدراك الإنسان لنفسه، وهو إلى ذلك، بصفة متوازية، يبني عالمًا بديلاً: فالنص صورة متكاملة متخيلة لا يمكن أن نجزئها إلى أبيات، هي صورة بمجموع أبياتها، فالنص عالم متخيل كامل، و تنهض الصورة في شعر الزهد بدور الوسيط بين العالم النفسي وعالم المثل، وهي وسيلته لبنينة طريقة إدراكه للعالم، ولنفسيّة الإنسان، وبنينة مقصد الشاعر من غرض الزهد، وهي متعلقة بقيمة التّرقّي التي يسعى الشّاعر إلى ترسيخها في العالم الواقعيّ.
على أنّه في إطار القيم الإنسانية ما هو أعلى، وما هو أفضل للإنسان هو ما يحدده المجتمع، ورسالة الإسلام هي تتميم للقيم العربية، وارتفاع بها إلى منظور ديني وإسلامي، ومنظور رباني، فيتغير سلوك الفرد، ولا يتبع هواه، ولا يتبع الدنيا.
هذه الرؤيا ارتكزت على لغة تجريبية تدعو إلى التأمل، ومن ثمّ وصْل الحسّيّ بالمتخيل، فمن الألفاظ الحسية التي استعملها الشاعر: الجبال، والناعي، والفرس الجامحة لتتماهى مع المعاني غير الحسية المجردة مثل الروح، وأصل الإنسان، والتّحرّر من الشّهوات، وهو يستدعي هذه الظواهر الحسية ليحاجج بها، ولكي يتخذها ركيزة تمثلات هذا الفكر من خلال تطويع وقائع الحياة اليومية.
6. 3 بلاغة الحرب على القيم:
وشعر أبي العتاهية يأتي في إطار صراع القيم، وحرب القيم، فالمجتع له تقاليد فنية يطرب لها، وهي موجهة إلى معان مادية، لكنّ الشّاعر يرى أن الإنسانية تكون أحلى، وأجلى، وأعلى بالتقوى وبالدين، وتزكية النفس، والروح، والبعد الروحي، والقيم، وليس بالمادة، ويرى أن الشعر تسام وتزكية نفسية وهناك أطروحة أخرى لشعراء المجون والخلفاء الشعر عندهم مادة وجسد. وكأنّ تعميق المعنى الإسلاميّ في الشعر الزهديّ، وترسيخه، وإدخال المعانيّ القرآنيّة، وتضمين القرآن، والتفكير بالموت ردّ فعل على تيار آخر، فكلّ أطروحة لها أطروحة نقيضة لها بطريقة تقريرية، مباشرة، وجليّة. فالقصيدة مزيج من العوالم والشاعر يتعالى بروحه إلى عالم الأفكار والمثل.
7. الخاتمة
في هذه القصيدة يحاصر الشاعر المُخاطَب والرّشيد بشكل مباشر، ويستدرجه للانخراط العاطفي في الحزن على الوضعيّة الإنسانيّة تطهيرا للذّات من أجل الوصول إلى المتعالي، والتّخويف من الموت هدفه إصلاح الحياة، فهذه القصيدة تأتينيا من "مُتخيّل شعوري" عميق ينطوي على التجهم، و على الصرامة التي تؤسّس بلاغة القصيدة الجرداء.
لقد أسّس أبو العتاهية شاعريّة جرداء: وقد تدخلت في هذه التّجربة عدّة عوامل لعلّ أهمّها التّجربة الباطنيّة، ومن وراء هذا الجفاف الظاهري وهذا الدفاع عن الزهد، عاش رجل يفيض بالعاطفة، بالإيمان الدافئ، وبالأحزان الهائلة على الوضعيّة الإنسانيّة، وبتلك المخاوف الإنسانية.
المصادر والمراجع
-أبو العتاهية، الديوان ·: دار بيروت · سنة النشر: 1406 - 1986 ·
-ابن منظور، محمد بن مكرم الأنصاري 630 هـ - 711 هـ.، لسان العرب، 1968، بيروت دار صادر للطباعة والنشر 1968.
الهوامش
- Fillmore C. J., Frames and the semantics of understanding, Quaderni di Semantica” 6, 2, 1985, pp. (222–254)
- Lakoff, G. (1987). Women, Fire and Dangerous Thing: What Catergories Reveal About the Mind. George Lakoff(ed.) University of Chicago Press
- Lakoff, G., & Turner, M. (1989). More Than Cool Reason A Field Guide to Poetic Metaphor. Chicago University of Chicago Press.
- Turner, M. (1996). The literary mind. Oxford University Press.
تغريد
اكتب تعليقك