الرواية السعودية: من التقليد إلى التجريبالباب: مقالات الكتاب
د. خالد التوزاني أستاذ باحث في الأدب والنقد والجماليات - المملكة المغربية |
كان للتطور الهائل الذي عرفته وسائل الاتصال، دور كبير في التعجيل بالانتقال من التقليد إلى الإبداع، حيث انفتحت الرواية السعودية على عوالم جديدة، وحقول معرفية مختلفة، تجاوزت الاهتمام بالتراث والوطن، إلى إضفاء صبغة فردية وذاتية على النص الروائي، يراهن على خلق جماليات جديدة، انطلاقًا من رؤى مغايرة للمألوف والسائد، حيث النزوع إلى التغيير عبر لغة تتمرد على التقريرية والمباشرة والتصريح، إلى لغات إيحائية ومجازية واستعارية تنهل من الثقافات العالمية الكثير من مقوماتها.
وقد ساعدت التحولات الثقافية الكبيرة التي عرفتها المملكة العربية السعودية على انفتاح الروائي على الذات، وإقباله على إيجاد فرص الفرار من الجمود والتقليد، بالارتماء في أحضان التجريب، والنبش في الذات بعيدًا عن رصيد الماضي أو التراث، وأحيانًا أخرى بعيدًا عن الجغرافيا المألوفة، وبحثًا عن أفق جديد، ولو كان في جغرافيا الآخر المختلف، ما دامت الرواية أحيانًا تمثل حوارًا مع الآخر، وكشفًا عن العلاقات الإنسانية الممكنة بين عوالم مختلفة.
الرواية والتجريب
لم يكن التجريب في الرواية مجرد مصطلح نقدي أو تقنية سردية، بل عبّر عن رؤية إبداعية لها مقوماتها الخاصة، والتي تفصح عن موقف المبدع ورؤيته للكون والوجود والحياة، أي أنه تعبير عن رؤى فلسفية وجودية، وجمالية، وتاريخية تحكم مجمل العملية الإبداعية، ومدخل هذه الرؤى هو روح المغامرة والمغايرة في الآن ذاته، أي المراهنة على التغيير وخرق المألوف.
وإذا كان مفهوم التجريب يحمل دلالات التغيير ومقاومة التقليد، فإنه حسب كثير من النقاد يمثل قمة الإبداع، حيث يرى صلاح فضل أنَّ "التجريب قرين الإبداع، لأنه يتمثل في ابتكار طرائق وأساليب جديدة في أنماط التعبير الفني المختلفة، فهو جوهر الإبداع وحقيقته عندما يتجاوز المألوف ويغامر في قلب المستقبل، مما يتطلب الشجاعة والمغامرة، واستهداف المجهول هو التحقق من النجاح، والفن التجريبي يخترق مساره ضد التيارات السائدة بصعوبة شديدة، ونادرًا ما يظفر بقبول المتلقين دفعة واحدة، بل يمتد إلى أوساطهم بتوجس وتؤدة، ويستثير خيالهم ورغبتهم في التجديد باستثمار ما يسمى بجماليات الاختلاف، ويتوقف مصيره لا على استجابتهم فحسب، كما يبدو للوهلة الأولى، بل على قدر ما يشبعه من تطلعاتهم البعيدة عن التوقع، ويوظفه من إمكاناتهم الكامنة، فجدل التجريب الإبداعي متعدد الأطراف، لا يتم داخل المبدع في عالمه الخاص، بل يمتد إلى التقاليد التي يتجاوزها، والفضاء الذي يستشرفه المخيال الجماعي" .
وهكذا فإن التجريب الروائي يقتضي تقديم خطاب إبداعي مغاير في بنيته وطرائق تشكيله للواقع من خلال رؤية إبداعية وفلسفية تعكس مجمل التحولات العميقة التي يشهدها العالم من حولنا في إيقاعه السريع، وتداخل قضاياه على مستوى الفرد والجماعة، كما يعكس تجاوبًا من جهة أخرى مع أصداء التجديد في بقية أرجاء الوطن العربي، وقد كان هذا الأخير ينساق خلف حركات التجديد في كتابة الرواية الغربية ، ولذلك كان طموح الأدباء العرب الانتقال من التقليد والتبعية إلى نوع من التجديد والتجريب.
نقد الرواية الجديدة
يحفل الخطاب النقدي الحداثي ببعض المقولات أو المفاهيم التي أصبحت بفعل تكرار الحديث عنها، كنوع من المسلمات أو البديهيات، ويأتي "التجريب" أو على رأس تلك المقولات، والذي يعدّ كحجر أساس في الفكر النقدي الطليعي، "هذا المفهوم الذي تحوّل إلى قيمة مهيمنة، خاصة بعد انحسار القيم النقدية التقليدية، فالتجريب يجعل من الصعب مناقشة المبدع أو النص، ويؤدي إلى كثير من الخلط، وإلى تغييب كثير من الظواهر والعوامل المختفية وراءها. لقد أصبح مفهوم كمفهوم التجريب أشبه ما يكون بالشعارات الثورية التي ترفع ثم تهيمن في أعقاب الثورات السياسية فتستحيل بعد ذلك مناقشتها على أساس أن في ذلك شيئًا من الخيانة أو النكوص" .
ولعل سعد البازعي عندما استعمل لفظي "الخيانة" و"النكوص" في حديثه عن التجريب، لا يقصد سلبية التجريب أو التقليل من شأنه، وإنما يعني عدم اعتبار التجريب أمرًا مقدّسًا لا يُناقش، وإنما التجريب نفسه سُمّي تجريبًا لأنه لم يستقر بعد، وإلا لما كان تجريبًا، أي محاولات متجدّدة للتغيير والتطوير والتعديل.. أي التجريب، ولذلك يؤمن الناقد البازعي بأن التجريب أحد أدوات كسر الحواجز القبلية وعلى النقد أن يكون في مستوى نص التجريب ليطرح بدوره أسئلة عميقة تتجاوز ظاهر النص إلى بواعثه الخفية، يقول البازعي: "أود أن أؤكد إيماني العميق بأن التجريب فتح آفاق العمل الأدبي، وكسر الحواجز القبلية من الظواهر الطبيعية جدًا في تاريخ الأدب، وأنَّ النزعة الإنسانية لفعل ذلك هي المسؤولة الأولى عن استمرار الكتابة الإبداعية، غير أني أؤمن أيضًا بأن تقرير ذلك لا يكفي، والنقد إذا كان له أن ينزع منزعًا معرفيًا علميًا، أن يكون دراسة وتحليلاً للظواهر الأدبية، فلا بد له أن يطحر أسئلة أخرى تنطلق من المرجعية الاجتماعية والتاريخية للنص، وليس من النص منغلقًا على نفسه، أو على غيره من النصوص، كما أنه لابد من أن يتساءل عما إذا كان هناك مبرّر كاف لشكل ما من أشكال التجريب، وما إذا كان تجريبٌ ما قد وفّق أم لا" .
إن ما طرحه البازعي يمثل وجهة نظر وجيهة بالنظر إلى سياق انبثاق التجريب الذي جاء ردة فعل تجاه الجمود والتقليد، ولذلك ينبغي للنقد أن يطرح المزيد من الأسئلة تجاه نصوص التجريب، فالأسئلة هي التي تستفزّ ذاكرة الظواهر والنصوص والقضايا، وتستعيد إلى حاضر الكتابة خلفيتها وأصولها غير المحصورة ضمن أقواس اللغة وأشكال السّرد، ويشير البازعي أن طرح الأسئلة ينبغي "أن لا يُحوّل النص بالضرورة إلى وثيقة اجتماعية أو تاريخية أو نفسية، وإنما نقرؤه كمتلقي لغوي وجمالي لهموم وتطلعات لا يكفي التشكيل اللغوي والحسّ الجمالي وحدهما لتفسيرها أو تبرير وجودها" .
الرواية وقضايا المجتمع
لم تعد الرواية السعودية مرتبطة بالتاريخ أو أمجاد الأمة العربية الإسلامية، وإنما أصبحت تطرح قضايا المجتمع مثل الزواج والطلاق ووضعية المرأة، كما تطرح قضايا الهوية والاختلاف والتعدد، ومنها هوية الأقليات، سواء الأقليات الدينية أو العرقية والإثنية، وأيضًا الأزمات السياسية وما خلفته حرب الخليج على المجتمع، فضلاً عن الحرية والرغبة في الانطلاق والعيش بعيدًا عن المحرمات والممنوعات الاجتماعية، مثل كسر الطابوهات.
لقد رصدت الرواية الجديدة في السعودية مجمل التحولات التي مرت بهذا المجتمع خلال العقود التي تلت تدفق النفط وانتقال المجتمع إلى الرفاهية بكل ما يحمله الواقع الجديد من تغيرات اجتماعية واقتصادية، وأيضًا سياسية، داخل الدولة، أو في علاقاتها مع دول الجوار والعالم. وقد انعكس أثر تلك التحولات على الإنسان السعودي، وخاصة الكاتب المبدع، الذي أصبح أكثر جرأة في اقتحام موضوعات جديدة.
بفضل الدينامية الجديدة التي طرأت على الأدب السعودي المعاصر، لم تعد الرواية مجرد نصوص فنية تعتمل على تنشيط الخيال فقط، أو تجعل الواقع في صلب المتخيل الروائي والسردي، بل أصبحت الرواية موازية للحياة اليومية، بما أنها تكشف عن المسكوت عنه، وتلج فضاءات حقيقية، ووقائع صادمة، ولو على مستوى السرد الروائي، فأحياناً يفضح السرد ما في الواقع من مساحات مظلمة لا يطالها التفكير، فتكون في عداد المنسي أو المهمل والمهمّش.
من التقليد إلى الإبداع والتجديد
إن رواد الرواية السعودية، ومنهم: غازي القصيبي وتركي الحمد، وعبده خال، وأميمة الخميس، وأحمد الدويحي، وأمل شطا، ورجاء عالم، وعبد العزيز الصقعبي، وعلي الدميني، وليلى الجهني، وهدى الرشيد وغيرهم، قد استطاعوا الانتقال بالرواية السعودية من التقليد إلى الإبداع، عبر اقتحام موضوعات جديدة، برؤية مغايرة، وتجديد على مستوى تقنيات الكتابة أيضًا، مما عجّل بظهور تيار التجريب.
يمكن تلخيص اتجاهات الرواية السعودية في ثلاث اتجاهات، نعرضها من خلال الآتي:
- الاتجاه التقليدي، ويهم الروايات السعودية التي حافظت على بنية الرواية التقليدية من حيث اعتمادها على السرد التتابعي للأحداث الخاضع للتسلسل الزمني الطبيعي، وأيضًا مقاربة الموضوعات بطريقة تقليدية لا قلق فيها، بل تراهن على الثبات والاستقرار.
- الاتجاه التجديدي، ويتعلق بالرواية السعودية التي طمحت إلى التجديد عبر كسر بعض قوانين البنية التقليدية الصارمة، وخلخلة بنائها العام، ولكن بشكل همّ الطريقة لا المكونات العامة للرواية (الأحداث والشخصيات، والزمان، والمكان، واللغة..).
- الاتجاه التجريبي، ويهم الرواية السعودية التي عرفت التجديد على مستوى القوانين والمكونات، وبذلك تخلّت عن البنية التقليدية للرواية، وخاضت مغامرة إبداعية شهدت تجريبًا مستمرًا، وبحثًا دائمًا عن أشكال جديدة، فالتجريب ثورة مستمرة، وتحطيم دائم لكل البنيات التقليدية.
ولا ينبغي أن نفهم من مرحلة التجريب أنها تمثل اكتمالاً للجنس الروائي العربي، أو مرحلة نضج يتفق عليها جميع النقاد، ثم نقطعَ صلتنا مع المراحل السابقة إلى غير رجعة، بل إن التجريب نفسه محكوم بالتجاوز والانتقال، يقول الناقد صلاح فضل: "فالتجريب كامن في دينامية الخلق ذاتها، ومؤسِّسٌ لقفزاتها، وليس بوسعنا في هذا السياق المحدود أن نرسم خارطة تحولات التيار التجريبي في جميع المراحل، لأن طرفًا منه سرعان ما يندثر، وطرفاً آخر لا يلبث أن ينتشر ويدخل في نسيج التقاليد المستقرة، ولا يظل بارزًا منه سوى التجارب المنقطعة التي تمثل كشوفًا جمالية ذات خصائص نوعية" . ويبدو واضحًا من خلال وجهة نظر صلاح فضل أن قضية التجريب تظل اتجاهًا خاضعًا للاندثار والانتشار في الآن نفسه، أي اندثار أساليب ورؤى تقليدية، وانتشار أساليب ورؤى جديدة، ثم سرعان ما تندثر وتظهر مستجدات أخرى، وهكذا يسير التجريب في حركة دائرية متصلة ودائمة، فما كان جديدًا في لحظة ما، سرعان ما يتحول إلى تقليدي وقديم مع كثرة توظيفه واستعماله، لتظهر الحاجة إلى تجاوزه فيتم إبداع الجديد والمغاير، ولذلك فإن سمة التجريب يمكن أن تطبع جميع الفنون والآداب والعلوم، وليس الرواية وحدها.
الهوامش:
1 - أكاديمي وناقد أدبي touzani79@hotmail.com
2 - سهام ناصر، رشا أبو شنب، مفهوم التجريب في الرواية، مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية، سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية، العدد 5، المجلد، 36، 2014م، ص 305.
3 - صلاح فضل، لذة التجريب الروائي، نشر أطلس للنشر والإنتاج الإعلامي، القاهرة، مصر، ط:1، 2005، ص: 3.
4 - حمد البليهد، جماليات المكان في الرواية السعودية، دار الكفاح للنشر والتوزيع، الدمام، السعودية، ط:1، 1429هـ، ص: 17.
5 - سعد البازعي، ثقافة الصحراء؛ دراسات في أدب الجزيرة العربية المعاصر، نشر العبيكان، الرياض، ط:2، 1412هـ/ 1991، ص: 160.
6 - المرجع نفسه، ص: 160-161.
7 - المرجع نفسه، ص: 161.
8 - صلاح فضل، لذة التجريب الروائي، مرجع سابق، ص: 4.
تغريد
اكتب تعليقك