لماذا فشلت الترجمة العربية القديمة لكتاب أرسطو "فن الشعر"؟الباب: مقالات الكتاب
أ.د. عدنان خالد عبد الله أستاذ جامعي عراقي يقيم في تركيا |
شهدت حركة الترجمة في العصر العباسي على وجه الخصوص نشاطًا لم تعرفه حضارة إنسانية من قبل أو بعد، واستمرت أكثر من ثلاثة قرون من ترجمة مختلف المعارف والعلوم من اليونانية والفارسية الهندية، وقد أثارت اعجاب الباحثين شرقًا وغربًا، ولعل ما قاله الباحث ديمتري غوتاس يلخص الموضوع، حيث يؤكد على أن "حركة الترجمة [العباسية]...تمثل إنجازًا مذهلا"(1).
والمذهل في هذه الحركة هو أنها لم تقتصر على مجال محدد من مجالات المعرفة بل ُنقل كل ما وقع تحت أيدي المترجمين من كتب في العلوم البحتة والرياضيات والفلسفة والطب والزراعة والهندسة والطبخ والروائح والأحلام والجنس والجغرافيا والتاريخ والأدب. كما أنها جذبت فئات متنوعة من الشعب ولم تقتصر على النخب المثقفة، فقد رعاها الخلفاء ورجال البلاط الأثرياء والأطباء والوراقون. وشغلت المجتمع بما أدخلته من معارف ومفردات لغوية ومفاهيم غريبة عنه، فانتقدها رجال الدين واللغويون واحتضنها المتشوقون إلى المعرفة من العلماء والمثقفين. ولم يقف المال حجر عثرة أمام الحصول على المخطوطات النادرة، فقد صرف بعض الخلفاء وأهل البلاط والأثرياء مبالغ خيالية من أجل الحصول عليها، لا بل أن الخليفة المأمون قايض أسرى الحروب بالمخطوطات!
ومن الأعمال القليلة في مجال النقد الأدبي التي ترجمت في هذه الفترة كتاب أرسطو "فن الشعر"، وربما كانت ترجمة هذا الكتاب خطأً تاريخيًا نادرًا لأن الترجمة بنيت على افتراض مغلوط هو أن "فن الشعر" عمل فلسفي بحت لا علاقة له بالأدب أو النقد الأدبي. ومما يعزز هذه الفرضية أن مترجمي "فن الشعر" إلى العربية كانوا من الفلاسفة أو ممن امتهنوا الفلسفة أو من المترجمين المحترفين.
ومثل معظم أعمال أرسطو المهمة، فإن "فن الشعر" تُرجم إلى العربية مرات عديدة، إلا أن الترجمة الوحيدة التي وصلتنا كاملة هي لأبي بشر متى بن يونس القنائي (توفي 940م) على الرغم من وجود إشارات إلى ترجمات أخرى لم تصلنا، فابن النديم يقول في الفهرست:
"الكلام على أبو طيقا-معناه الشعر-نقله أبو بشر متى القنائي من السرياني إلى العربي. ونقله يحيى بن عدي، وقيل إن فيه كلاما لثامسطيوس، ويقال إنه منحول إليه. وللكندي مختصر في هذا الكتاب. (2)
وإذا كان القنائي قد نقل الكتاب من السريانية إلى العربية، فمن الذي ترجمه إلى السريانية؟ ويحيى بن عدي (توفي 974م) هو تلميذ القنائي. ولكن المفاجأة هي أن الكندي (توفي? 866م) عمل ملخصًا للكتاب قبل أكثر من نصف قرن من ترجمة القنائي. وهذا يعني أنه كانت أمام الكندي نسخة مترجمة لأنه لم يثبت أنه كان يتقن اليونانية. وملخض الكندي مفقود ولا نعرف عنه شيئًا. وأخيرًا لابد لنا من ذكر معلومة أخرى تزيد من ضبابية الموضوع وصعوبة حسم من ترجم "فن الشعر" أول مرة. ونعود كرة أخرى إلى ابن النديم "وقال أبو زكريا (أي يحيى بن عدي) إنه التمس من إبراهيم بن عبد الله فص[نص] سوفسطيقا وفص الخطابة وفص الشعر بنقل اسحق بخمسين دينارًا، فلم يبعها وأحرقها وقت وفاته" (الفهرست ص313)، وهذا الاقتباس يعني أن المترجم المعروف يحيى بن عدي قد حاول أن يشتري ثلاثة نصوص لأرسطو وأحدها هو فن الشعر مترجمًا بقلم اسحق بن حنين، وهو مترجم ممتاز كأبيه حنين الذي كان يترجم من اللغات اليونانية والسريانية والعربية. وهذه الترجمة أيضًا ضائعة، ولا نعلم إن كانت إلى العربية أم السريانية.
والمترجم هو أبو بشر بن القنائي بن يونس القنائي (توفي 940م) والمولود في دير قنى شرقي دجلة جنوب بغداد، من رجال المنطق المشهورين وعُرف بترجماته عن السريانية، وقد أسس المدرسة الأرسطية في بغداد واشتهر بحلقاته الدراسية ومن تلامذته اللامعين الفارابي(3). وقد تعرض القنائي لنقد عنيف ومقذع أحيانًا على ترجماته عند معاصريه وكذلك في القرن العشرين، وكمثال على ذلك، يقول عبدالرحمن بدوي، الذي ترجم "فن الشعر" إلى العربية بعد (القنائي) بأكثر من ألف عام، بأن تلك الترجمة "رديئة"(4). أما شكري عياد فيقول "والحق أن القارئ لترجمة (القنائي) لا يزال يقف أمام معنى مستغلق، أو لفظ قلق، أو عبارة ملتوية، أو تفكير متناقض" (5)، في حين أن عبد الفتاح كيليطو ينعتها بـشتى الصفات السيئة ويقول عنها: "إنها ترجمة ركيكة منفرة، وكلامها يكاد يكون شبيهًا بهذيان المخمورين والموسوسين(6) ، وعلى الرغم من كل هذا النقد العنيف إلا أن القنائي كان شخصية كبيرة لها حضورها في عالم الثقافة والفكر في بغداد آنذاك، ويهابها المثقفون ويخشون سطوتها، ونحن نعرف هذا من مصدر غير متوقع وهو التوحيدي (ت1023م)، الذي ينقل مناظرة مشهورة بين القنائي والسيرافي (ت979) رعاها الوزير أبي الفتح جعفر بن الفرات (ت 939م)،الذي يدعو الحاضرين، وهم من خيرة مثقفي تلك الفترة، إلى منازلة القنائي ومناقشته في قضايا المنطق واللغة والنحو، فتردد الجميع وحاولوا التملص من تلك المهمة، خوفًا من منزلة القنائي وهيبته، فغضب الوزير وصرخ فيهم "ما هذا الترامز والتغامز اللذان تجلون عنهما؟"(7)، وفي نهاية المطاف أجبر السيرافي (وهو أستاذ التوحيدي) على مناظرة القنائي. وتوبيخ الوزير للحاضرين وحضهم على المنازلة يؤشر على معرفة القنائي بالموضوع وإلمامه به. وهذه المناظرة تعد وثيقة نادرة في التراث العربي عن الترجمة والصراعات الفكرية المحتدمة التي كانت الترجمة تؤججها، وانقسام الطبقات المثقفة حول دور الترجمة في نقل المعرفة.
ولكن إذا كان القنائي منطقيًا معروفًا، فما علاقته بكتاب أرسطو "فن الشعر" الذي يعدُّ أول كتاب في النقد الأدبي؟ الإجابة على هذا السؤال تحل الإشكال الذي يكمن أمامنا وهو أن الترجمة سيئة وانتقدها الكثيرون نقدًا عنيفًا لسببن أساسيين، وهما عدم فهم القنائي لمضمون الكتاب، وثانيهما عجزه عن ترجمة مصطلحات المسرح الإغريقي. وإن كان من السهولة أن ينتقد المرء ترجمة مضى عليها أكثر من ألف عام، فينبغي علينا أن نتذكر أن اللغات تتطور والأساليب تتغير وذائقة الناس الأدبية تتبدل. ومن هذا المنطلق علينا أن نتذكر أن العرب تشبثت بمفهوم محدد للأدب جعل الثقافة العربية لا تقبل بنص أدبي ما لم يكن خاضعًا لمواصفاتها الفنية وشروطها الذوقية، ولذا لم يكن غريبًا أن العرب عزفت عن ترجمة الشعر والأدب اليوناني والأساطير والمسرحيات الإغريقية، وهي كلها لم تترجم إلى العربية إلا في القرن العشرين. ومن أهم الأسباب التي جعلت العرب يترفعون على آداب الأقوام الأخرى القرآن الكريم، فإذا كان رب العزة قد اختار العربية لغة لكتابه الذي (لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ) (فصلت الأية 42)، فإن اللغات الأخرى وآدابها لا يمكنها منافسة العربية في ذلك، ولهذا أخفق المترجمون إلى العربية على مر التاريخ في إثارة اعجاب القارئ بترجماتهم للشعر اليوناني أو الفارسي أو الهندي (وهي لغات الثقافة آنذاك)، فطواها النسيان باستثناء عمل واحد في تراث العربية كتب لصاحبه الخلود، وهو "كليلة ودمنة" الذي أصبح عملاً عربيًا قلبًا وقالبًا على الرغم من وجدود بعض أسماء الأعلام السنسكريتية التي عُرّبت فاقتربت من جرس العربية ونظامها الصوتي، مثل العنوان الذي هو في الأصل "كليلغ ودمناغ" الذي طوعته عبقرية المترجم ليصبح "كليلة ودمنة"(8).
فما هي الأخطاء والعثرات التي وقع فيها القنائي بحيث أصبحت ترجمته موضع هزء وسخرية عند القدامى والمحدثين، وأين أخفق وأين أصاب؟ لكي نكون موضوعيين في حكمنا ينبغي أن نضع نصب أعيننا جملة من الحقائق والمعطيات التي قد ينساها المرء أو يتناساها عند مناقشة ترجمة أنجزت قبل أكثر من قرن وربع. أولا إن الترجمة لم تكن من اليونانية مباشرة بل عن السريانية، أي إنها ترجمة عن ترجمة، وفي هذه الناحية تكمن الكثير من العيوب والمشكلات والمخاطر التي لا يدرك كنهها إلا من عمل في الترجمة أو كابد وعثائها. فالمفردات والكلمات السريانية تعرضت إلى تأثير كبير من اليونانية رغم عراقة اللغة السريانية وقدمها، ولم تكن لغة الآدب أو النقد بل لغة الكهنوت والفلسفة والترجمة الدينية، ولم تعرف المسرح أو المصطلح النقدي ولا علاقة لها بهما. وعلاوة على ذلك، فإن القنائي لم يكن رجل أدب أو نقد ولم يتلق تدريبًا لغويًا على أي عالم لغوي معروف، ومن هنا وقع في مشكلتين: الأولى، عدم ادراكه أن "فن الشعر" ليس عملاً فلسفيًا بل هو في النقد الأدبي ويعالج المسرح اليوناني وهما موضوعان بعيدان كل البعد عن تخصصه واهتمامه، والثاني أنه لم يكن متمكنًا من قواعد اللغة العربية ونحوها وصرفها. وهاتان المشكلتان جرتاه إلى مشكلة أكثر تعقيدًا وهي أن السريان والعرب لم يكن لم يكن لديهما أدنى فكرة عن المسرح ولغته وتركيبه وعناصره. ولننظر إلى هذه الترجمة من افتتاحية الكتاب:
كتاب "أرسطوطالس في الشعراء" نقل أبي بشر بن يونس القُنَّائي من السرياني إلى العربي (932م/320هـ)
"قال أرسطو طاليس: إنا متكلمون الآن في صناعة الشعراء وأنواعها، ومخبرون أي قوة لكل واحد منها، وعلى أي سبيل ينبغي أن تتقوم الأسمار والأشعار إن كانت الفواسس مزمعة بأن يجري أمرها مجرى الجودة. وأيضًا من كم جزء هي، وأيما هي أجزاؤها. وكذلك نتكلم من أجل كم التي هي موجودة التي هي لها بعينها.] ونتكلم [ونحن متكلمون في هذا كله من حيث نبتدئ أولاً من الأشياء الأوائل فكل شعر وكل نشيد شعري يُنحى به إما مديحا أو هجاءً <و> إما ديثرمبو الشعرى، ونحو أكثر أوليطيقس، وكل ما كان داخلاً في التشبه ومحاكاة صناعة الملاهي من الزمر والعود وغيره." (الصفحات 85-86، عبدالرحمن بدوي)
إذا شعر القارئ بغرابة الترجمة وركاكتها فليتذكر بانه يقرأ نصًا في حقل لم تعرفه العرب من قبل وهو الأدب الإغريقي، وعلى وجه التعيين المسرحية، وإذا أضفنا إلى ذلك عدم فهم المترجم للنص وسوء ترجمته فقد تفاقمت المشكلة عدة مرات. ففي الجملة الأولى يخطئ القنائي في ترجمته ويحسب أن موضوع الكتاب هو عن الشعراء في حين أن الصحيح هو "الشعر." وربما يعترض البعض على التمييز بين الإثنين لأن الشاعر ينتج الشعر وعندما نتحدث عن أحدهما فإننا نتحدث عن الآخر، وهذا غير صحيح، فعند أرسطو الشعر صنعة لا تختلف عن أي صنعة أخرى مثل صناعة الأبواب والأقواس والكراسي. والشاعر شخص لا يهمه في كثير أو قليل، بل المهم هو النتاج، أي الشعر. أما الجملة التي تبدأ بـ "على أي سبيل ينبغي أن تتقوم الأسمار والأشعار إن كانت الفواسس مزمعة بأن يجري أمرها مجرى الجودة". فالملاحظ فيها أن مصطلح "حكاية" استبدله (القنائي) بــ"الأسمار والأشعار"، وقد كان بوسعه أن يلجأ إلى مصطلح "الخرافات" الذي كان معروفًا في الجاهلية. أما عبارة "الأسمار والأشعار" فلا تؤدي الغرض المطلوب لأنها أرسطو يُميـّز بين ما يُحكى وما يُمثّل على خشبة المسرح. أما عبارة "على أي سبيل ينبغي أن تتقوم الأسمار والأشعار إن كانت الفواسس مزمعة بأن يجري أمرها مجرى الجودة" فلا معنى لها؛ ولابد أنها حيَّرت قراء "فن الشعر" آنذاك أيضًا، ومفردة "فواسس" التي تعني "شعر" باليونانية لا مبرر لها، لأن (القنائي) يستخدم مفردة "شعر" وليس "فواسس" في الجملة اللاحقة من الاقتباس أعلاه، وتدل جملة "وكذلك نتكلم من أجل كم التي هي موجودة التي هي لها بعينها" على جهل واضح بقواعد العربية وأساليبها التعبيرية السليمة، فكثرة الضمائر وجهلنا بعائديتها يجعلنا نقف عاجزين عن فهم هذه الجملة العويصة التي نقلها عبد الرحمن بدوي بهذه العبارة الموجزة الواضحة: "وكذلك في سائر الأمور التي تتصل بهذا البحث" (1952، ص 51).
أما الجملة التي تبتدئ بـ"ونحن متكلمون في هذا كله من حيث نبتدئ أولاً من الأشياء الأوائل" فالحشو فيها بيّن والعبارة ضبابية المعنى تفتقر إلى الوضوح، في حين تنقل ترجمة عبدالرحمن بدوي المعنى بيسر بقوله "وفي هذا نسلك الترتيب الطبيعي فنبدأ بالمبادئ الأولية". أما الجملة اللاحقة فتمثل تشويهًا للفكر النقدي لأرسطو، حيث إن كتاب "فن الشعر" يقوم على شرح عناصر التراجيديا "المأساة" tragedy ويُعلمنا أرسطو في الوقت نفسه أنه سيعالج (الكوميديا) "الملهاة" comedy في موضع آخر، ولكن المخطوطة الإغريقية القديمة ناقصة وهذا الجزء عن الملهاة مفقود.
ولنتفحص الجملة موضع الخلاف: يقول أرسطو على لسان (القنائي):
"فكل شعر، وكل نشيد شعري يُنحى به إما مديحًا أو هجاء [و] إما ديثرمبو الشعري، ونحو أكثر أوليطيقس، وكل ما كان داخلاً في التشبيه ومحاكاة صناعة الملاهي من الزمر والعود وغيره. وأصنافها ثلاثة وذلك إما أن يكون يشبه بأشياء أخر والحكاية بها، وإما أن تكون على عكس هذا: وهو أن تكون أشياء أخر تشبه وتحاكى، وإما أم أن تجري على أحوال مختلفة لا على جهة واحدة بعينها." (بدوي، 1952، ص 86)
وإذا شعر القارئ المعاصر بالحيرة والاضطراب من هذه الترجمة، فلا بد أن هذا هو ما شعر به القدامى وهم يقرأون هذا الكلام الملغّز. وجوهر الاضطراب ينبع من أن (القنائي) لم يفقه ماهية المسرح، ولم يستوعب كلام أرسطو أو يفهمه إطلاقًا وإلا فكيف نفسّر أن ينقل (القنائي) مصطلحي "التراجيديا" و"الكوميديا" اللذين يقوم عليهما كتاب "فن الشعر" برمته إلى كلمتين لا علاقة لهما بلغة المسرح ومصطلحاته وهما "المديح" و"الهجاء"؟ كذلك الامر مع مصطلح "المسرح" الذي يعرّبه إلى "ثيطرا". وهذا يجرّه إلى المزيد من الأخطاء حيث يترجم عناصر المسرح إلى مفردات لا علاقة لها به، مثل الممثلين والكورس بالخيمة والمنافقين وجوقة المغنيين والراقصين، مما يدل على عدم إدراكه لمعنى هذه المصطلحات المسرحية
بعد أكثر من ألف سنة ترجم عبدالرحمن بدوي الجملة السابقة بالطريقة الأتية:
أرسطوطاليس "في الشعر" ترجمة عبد الرحمن بدوي (1952):
"حديثنا هذا في الشعر: حقيقته وأنواعه، والطابع الخاص بكل منها، وطريقة تأليف الحكاية حتى يكون الأثر الشعري جميلاً، ثم في الأجزاء التي يتركب منها كل نوع: عددها وطبيعتها، وكذلك في سائر الأمور التي تتصل بهذا البحث. وفي هذا نسلك الترتيب الطبيعي فنبدأ بالمبادئ الأولى: الملحمة والمأساة، بل الملهاة والديثرمبوس وجُلُ صناعة العزف بالناي والقيثارة، هي كلها أنواع من المحاكاة في مجموعها." (الصفحات 3-4).
ماهي جوانب القصور والعيوب في ترجمة القنائي؟ أدناه خلاصة سريعة لهذه المعضلات التي اكتنفت الترجمة:
1. يستخدم المترجم مفردات سريانية مثل "قينة" عوضًا عن "أغنية" دونما سبب، وكلمة "الفواس" عوضًا عن "الحيل" وكلمة "دورط" عوضًا عن "الرماح". كما أن المترجم يلجأ إلى أسلوب المترجمين المبكرين الذين كانوا يوظفون مفردات فارسية ويونانية عوضا عن العربية مثل "الدستبند" و"البخت" و"والنيات والسرنيات" و"بالآخرة" (يُقصد بها أخيرًا). واستخدامه المفرط للمفردات اليونانية بلا سبب واضح مثل "أوليسطقس" بدلاً من "الصفر في الناي" و"دراماطا" عوضًا عن "درامي" وكذلك الأمر مع كلمة "إفي" للدلالة على "الملحمة"، وكلمة "فلافسودرا" للإشارة إلى "ساعة الماء".
2. ركاكة اللغة وعدم اتقان النحو والصرف، فيستخدم القنائي مفردات غير سليمة مثل "ننحا" عوضًا عن "ننحو"، و"الرسوم" عوضًا عن "علامات"، و"النشائد" كجمع لكلمة "نشيد"، و"صحراة" عوضًا عن "صحراء"، و"يستدارون" عوضًا عن "يستديرون".
3. من سمات اللغة اليونانية التي انتقلت إلى اللغة السريانية الأسماء المركبة التي تعني عكس الشيء والتي تشتق من المصدر مثل "اللاعتدال" و" اللانجاح" و"اللامتساوي"، كما في الجملة الآتية "ولا أيضًا يميل إلى لا فلاح ولا نجاح بسبب الجور والتعب (عياد، 1976، ص79). كما أن المترجم يلجأ إلى تأنيث الضمير إن كان مؤنثًا في اليونانية على الرغم من أنه مذكر في العربية أو بالعكس، والإسراف في استعمال الاسم الموصول، كما في الجملة الآتية "وأما الذي لهذه الباقية فصنعة الصوت هي أعظم من جميع المنافع، وأما المنظر فهو معزي للنفس غير أنه بلا صناعته، وليس البتة مناسبًا لصناعة الشعر من قبل أنه قوة صناعة المديح وبغير الجهاد، وهي من المنافقين" (عياد، 1967، ص 59،).
4. على الرغم من أن أرسطو عاش في الفترة التي لم تُعرف فيها الأديان السماوية (القرن الخامس قبل الميلاد) وشيوع الوثنية، إلا أن (القنائي) يحشر المصطلح الديني المسيحي في لغة أرسطو حشرًا لا مبرر له. ومثال ذلك استخدامه لمفردة "دير" في الجملة الآتية: "وأما الذي اللامتساوي فكحال إيفيغانيا في الدير المعروف ببنات آوى، وذلك أنه ما تشبهت تلك التي كانت تتضرع بتلك الأخيرة" (عياد 1967، ص 186) أو كلمة "المبشّر" في الجملة الآتية: " بمنزلة ما فيما دون من أمر دوسيا ذلك المبشّر الطاهر".
ولكن هل كان بوسع القنائي أن يتجنب الكثير من الأخطاء والعثرات والارتباكات في تلك الترجمة؟ وحتى لو أدرك أنه يتعامل مع نص مسرحي وليس شعريًا، واختار أن يعرّب المصطلحين على "تراجيديا" و" كوميديا"، فهل كان سينجح؟ من المعلوم أن الأمم واللغات المختلفة قد طورت أنواعًا أدبية تشترك فيها مع بقية شعوب الأرض مثل الشعر والحكاية، فلا توجد حضارة أو ثقافة بدون شعر أو قصص تروى، بغض النظر عن درجة تمدنها. ولكن بعض اللغات طورت أنواعًا أدبية خاصة بها لا تشترك مع غيرها من الأمم، مثل "المسرح" عند الأغريق و"الهايكو" عند اليابانيين و"المقامات" عند العرب. وهذه الأنواع لصيقة بلغتها التي أوجدتها، ويكاد يكون نقلها نقلاً أمينًا إلى ثقافة أخرى مستحيلاً. وحتى مفهوم "القصيدة" العربية فهو ليس شعرًا مثل الشعر الإنجليزي أو الفرنسي أو غيره، فالقصيدة تتمتع بمواصفات تطورت على مدى قرون من الزمن وتقولبت على شكل معين بحيث تبدأ بالبكاء على الأطلال ثم ينتقل الشاعر إلى وصف راحلته وحبيبته ثم يفخر بقومه ...الخ. وهذا النوع من الشعر غير موجود في أي أدب في العالم. وعدم وجود فن أدبي بعينه لا يعيب الثقافة المتلقية ولا يعد مثلبة بل تتميز كل ثقافة بسماتها الخاصة، ولكن الأمم تحاول التعرف على الآخرين وآدابهم عن طريق الترجمة وتحاول أن تطوع النصوص الغريبة عليها إلى الأنواع الأدبية التي تعرفها. فليس غريبًا أنه لم يكن للعرب معرفة ببناء المسارح والممثلين والكورس والموسيقيين، فالعرب كانوا قومًا رُحل ولم يكونوا من أهل البنيان، وكانت القصيدة الفن الأدبي الطاغي عندهم. وحتى لو تعرفوا على المسرح الإغريقي وفنونه، فليس من المتوقع أنهم كانوا سيفتنون به، لأن هناك أدلة تاريخية تدل على مقاومة العربية للآدب المترجم وخصوصًا الشعر.(9) ولعلنا نجد تأكيدًا لفرضيتنا في أن أدباء العربية ومثقفيها اطلعوا على شعر يوناني مترجم ولم يرق لهم، عندما نقرأ نصًا لابن فارس (ت في 395 هـ /م 1004) يهاجم فيه الشعر اليوناني الذي لا بد أنه قرأه مترجمًا بقوله:
وادعوا مع ذلك أن للقوم شعرًا، وقد قراناه فوجدناه قليل الماء، نزر الحلاوة، غير مستقيم الوزن، بلى، الشّعر شِعر العرب، ديوانُهم وحافظ مآثرهم ومقيـّد أحسابهم، ثم للعرب العَروض التي هي ميزان الشعر، وبها يُعرف صحيحه من سقيمه (10).
ويقول الجاحظ أديب العربية الكبير وهو يعبر عن اعتداده بالأدب العربي عمومًا والشعر على نحو أخص، مؤكدًا أن شعر الأمم الأخرى لا يرقى إلى تسمية شعر:
وفضيلة الشعر مقصورةٌ على العرب، وعلى من تكلَّم بلسان العرب. والشعر لا يُستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، والقنائي حُوَل تقطَّع نظمه وبطلَ وزنه، وذهب حسنه وسقطَ موضع التعجب، لا كالكلامِ المنثور، والكلام المنثور المبتدُأ على ذلك أحسن وأوقع من المنثور الذي تحول من موزون الشعر. "الحيوان"(11).
وكلام الجاحظ يدل بكل وضوح على أن افتخار العرب بما لديهم من شعر جعلهم يترفعون عن نتاج غيرهم من الأمم لأنهم عندما يقيسون الشعر الأجنبي بمعايير الشعر العربي وجمالياته ومواصفاته، فإنه كان يفشل فشلاً ذريعًا، وكانت النتيجة أنهم ابتعدوا عن ترجمة الأدب الأجنبي على العموم والشعر على وجه الخصوص.
فترجمة القنائي جهد ريادي واستثنائي لأنه قدم عملاً جديدًا في موضوع جديد إلى ثقافة مغايرة ولكن الثقافة العربية لم تقبله على الرغم من أن رجالات الفلسفة العربية الكبار من أمثال الكندي وابن سينا وابن رشد تصدوا لتلك للترجمة وفي سبيل تيسيرها قدموا ملخصاتٍ وشروحًا وتفسيراتٍ لها لم تفلح في تذييل مشكلاتها أو فك مغاليقها، وهكذا فشلت الترجمة في رسالتها الأصلية وهي تقديم عمل نقدي إلى اللغة العربية تقبل به وتتفاعل معه، وهي لغة عٌرفت آنذاك بانفتاحها على معارف العالم دون تردد أو وجل.
مراجع البحث:
(1) ديمتري غوتاس، "الفكر اليوناني والثقافة العربية: حركة الترجمة اليونانية-العربية في بغداد والمجتمع العباسي المبكر"، ترجمة وتقديم د. نيقولا زياده، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2003، ص30.
(2) ابن النديم. "الفهرست"، بيروت: دار المعرفة د.ت، ص.310.
(3) لمعرفة تفاصيل أخرى عن حياة القنائي، يمكن الرجوع إلى الفهرست (ص322) وابن خلكان. "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"، الجزء الخامس، تحقيق د. احسان عباس، بيروت: دار صادر، 1968، ص 154.
(4) عبدالرحمن بدوي، "أرسطوطاليس، فن الشعر: مع الترجمة العربية القديمة وشروح الفارابي وابن سينا وابن رشد". بيروت، دار الثقافة، 1952، ص 50.
(5) شكري محمد عياد، محقق ومترجم. "كتاب أرسطوطاليس في الشعر: نقل أبي بشر متى بن يونس القنائي من السرياني إلى العربي". القاهرة: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، 1976، (ص180).
(6) كيليطيو، عبدالفتاح. "لن تتكلم لغتي". بيروت: دار الطليعة، 2002، ص .110
(7) أبو حيّان التوحيدي، "الإمتاع والمؤانسة"، مراجعة هيثم خليفة الطعيمي، بيروت: المكتبة العصرية، 2011، الصفحات 88-100.
(8) عبدالله بن المقفع،" كليلة ودمنة"، تحقيق عبدالوهاب عزّام وطه حسين. القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012 (الطبعة الأصلية أصدرتها دار المعارف في عام 1941).
(9) Adnan K. Abdulla, Translation in the Arab World: The Abbasid Golden Age. London: Routledge, 2021, p. 117.
وعدنان خالد عبد الله، "ٌقرآت معاصرة لتراث الترجمة في العصر العباسي"، الشارقة: جامعة الشارقة، 2017.ص 185-87.
(10) ابن فارس، «الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها». بيروت: دار الكتب العلمية، 1997، ص 43
(11) الجاحظ، "الحيوان"، تحقيق عبد السام هارون، الجزء الأول. القاهرة. مصطفى البابي الحلبي، 1955، ، ص70
تغريد
اكتب تعليقك