الله والأسئلة القديمةالباب: مقالات الكتاب
حسين إبراهيم لبنان |
يظهر لنا اليوم أنّ العدد الأكبر من البشريّة مؤمن بالله، ولكن يا ترى كم عدد المؤمنين الذين يستطيعون أن يعلّلوا إيمانهم؟ كم عدد المؤمنين الذين اكتسبوا الإيمان، ولم يرثوه؟ لا يزداد عدد الملحدين في عصرنا لأنهم على حق، بل لأسباب أخرى، أهمّها أنّ الإيمان في مجتمعاتهم أصبح وراثةً، وحقيقةً مسبقةً لا يجوز إخضاعها للبحث والتّفكير؛ على الأقل بالنسبة إلى العامّة. لقد أصبح الإيمان تحفةً أثريّةً تتوارثها الأجيال جيلًا بعد الآخر، وقلّة هم أولئك الذين يفكّرون في نفض الغبار عنها، ليتفحّصوها عن كثب، ويتأمّلوا في تفاصيلها ومضامينها. ولهذا قرّرنا في هذا المقال أن ننبش عددًا من الأسئلة القديمة؛ تلك التي تضع الإيمان تحت عدسة المجهر، وأن نحاول الإجابة عنها مستعينين بآراء بعض المفكّرين والفلاسفة.
الله والكينونة
تبدو الكينونة الإلهيّة حقيقة لا تقبل الشّك، ومع ذلك فإنّ كثيرين قد شكّكوا فيها، وحاولوا دحضها. ومن بين هؤلاء صادق جلال العظم، وقد طرح فكرته على الشّكل الآتي: "أنت تسأل عن علّة وجود السّديم الأوّل (المادّة الأولى) وتجيب بأنّها الله، وأنا أسألك بدوري وما علّة وجود الله؟ وستجيبني بأنّ الله غير معلول الوجود، وهنا أجيبك ولماذا لا نفترض أنّ المادّة الأولى غير معلولة الوجود وبذلك يُحسم النّقاش دون اللّجوء إلى عالم الغيبيّات وإلى كائنات روحيّة بحت لا دليل لدينا على وجودها"1 . ويبدو أنّ صاحب النّقاش كان متلهّفًا إلى حسمه، أمّا نحن فنرى أنّ النّقاش قد بدأ لتوّه.
فلْنفترض أنّ المادّة الأولى غير معلولة، ولْنتخلّص من تلك الغيبيّات التي تنغّص على المفكّر عيشه، ماذا بعد ذلك؟ ما الذي حدث بالتّحديد؟ كيف نشأ هذا الكون؛ بكلّ ما فيه من تعقيدات وتفاصيل شديدة الإحكام والتّنظيم؟
وكان العظم، كغيره من أصحاب الفكر الإلحادي، ليقذفنا بجواب عظيم تُذهل به العقول، ويتلخّص هذا الجواب بكلمة واحدة: الصّدفة. ولْنفترض، مرّة أخرى، أنّ الكون نشأ صدفةً، ثم بعد سلسلة طويلة من الصّدف، تكوّن الحمض النّوويّ (DNA)، ماذا بعد ذلك كلّه؟ كيف تطوّرت هذه الكميّة من الحمض النّوويّ إلى الحياة التي نراها؟ يقول مصطفى محمود "سوف نعود فنقول: بالصّدفة أمكن تشكيل البروتوبلازم، ثمّ بصدفة أخرى تشكّلت الخليّة، ثمّ بصدفة ثالثة تشعّبت إلى نوعين؛ خليّة نباتيّة وخليّة حيوانيّة، ثمّ نتسلّق شجرة الحياة درجة درجة ومعنا هذا المفتاح السّحريّ، كلّما أعيتنا الحيلة في فهم شيء قلنا إنّه صدفة"2.
هل صدفةً يكسر الصّوص البيضة عند أضعف نقطة فيها؟ وهل صدفةً تلتئم الجروح وتخيط شفراتها بنفسها من دون جرّاح؟ وهل صدفةً يدرك عبّاد الشّمس أنّ الشّمس هي مصدر حياته فيتبعها؟ وهل صدفةً تصنع البعوضة لبيضها أكياسًا للطّفو؟3 هل هذه كلّها صدف؟ وهل هذا التّفسير أكثر عقلانيّة من التّفسير الغيبيّ أو الميتافيزيقيّ؟ هل أصبح عقلانيًّا ومنطقيًّا فقط لأنّنا أزحنا عنه تلك الغيبيّات التي "لا دليل لدينا على صحّتها"؟
نحن لا ندري كُنه الخالق، وأقصى ما يمكن أن نقوله في هذا الصّدد إنّه أزليّ، وربّما اخترعنا هذه اللّفظة لنواري بها جهلنا. ولكنّ الجهل بكنهه لا ينفي وجوده، ولمجرّد أنّ عقلنا لا يستطيع تصوّر الميتافيزيقا، فهذا لا يعني أنّها مجموعة من الخرافات والأساطير.
على المؤمنين ألّا يكتفوا بوراثة الإيمان وتوريثه، فقبل أن يؤمنوا، عليهم أن يفهموا ويقارنوا ويحلّلوا، ليكون إيمانهم أكثر صلابة، نابعًا من العقل قبل القلب. وعلى الملحدين أن يعلموا أنّ الإيمان بالله لا يكون دائًما وراثيًّا، فهناك من يؤمن به حين يرى أنّ التّفسير الميتافيزيقيّ أكثر إقناعًا من تفسيرهم الاعتباطيّ. إنّ الله كان الحلّ، هكذا يقول إميل سيوران، وإنّنا لن نجد أبدًا حلًّا مُرْضيًا بهذا القدْر4.
الله والعقل
ثمّة سؤال يراود كثيرين منّا: ماذا لو وُلدنا في مجتمع إلحاديّ؛ كلُّ من فيه يكفر بالله ويلحد به؟ هل كنّا لنشذّ عن القوم ونهتدي إلى الله؟ أم كنّا لنتبعهم في إلحادهم؟ ويسارع البعض إلى الإجابة قائلًا: بل كنّا لنهتدي إلى الله، فليس المجتمع من يهدينا إليه، بل العقل.
وهذا الجواب يذكّرنا بقصّة شهيرة للفيلسوف الأندلسيّ ابن طفيل، اسمها "حي بن يقظان". تدور هذه القصّة حول شخصيّة خياليّة تُدعى حي بن يقظان، وُلدت في جزيرة نائية ومهجورة، فراحت تنمو وحيدة بين الحيوانات، تتأمّل في الطّبيعة والكون، إلى أن خرجت بخلاصات فلسفيّة مهمّة، أهدتها إلى الله، ورسّخت إيمانها به5. وتبدو الفكرة جميلة من النّاحية الأدبيّة، أمّا واقعيًّا فإنّها ضعيفة، وفيها كثير من الطّوباويّة. وقد بات لدينا كثير من الدّلائل التي تثبت ذلك.
في العام 1927، عثر أحد الرّعاة على طفل بشريّ في عرين للذّئاب بالقرب من إحدى المدن الهنديّة، وكان الطّفل يبلغ من العمر عشر سنوات تقريبًا، وقد توصّل الباحثون إلى حقائق مدهشة في شأن هذا الطّفل؛ إذ وجدوا أنّه يسلك سلوك الذّئاب، فينبح مثلهم ويمشي على أربع، وقد يهاجم البشر فيعضّهم أو يعضّ نفسه، وقد تنتابه أحيانًا نوبات من التّوحّش الشّديد6. وهذا ما كان ليحلّ بحي بن يقظان لو أنّه شخصيّة حقيقيّة؛ فإنّ الإنسان الذي يعيش بين الذّئاب، كما يقول علي الوردي، سيصبح ذئبًا وليس فيلسوفًا7.
أمّا ديكارت فقد ذهب إلى ما هو أبعد من تلك الفلسفة الطّوباويّة، فرأى أنّ الله فكرة فطريّة، طُبعت فينا، تمامًا كما تحمل اللوحة توقيع الإنسان8. فإذا كان هذا الرّأي صحيحًا، فلماذا لم يستدل ذلك الطّفل المتوحّش على الله بفطرته، ويصبح مفكّرًا ومتصوّفًا كحي بن يقظان، بدلًا من العواء في البراري والغابات كالذّئاب المفترسة؟
إنّ البشريّة لم تبدأ بطرح الأسئلة الميتافيزيقيّة إلّا بعد أن اجتازت شوطًا من التمدّن والاستقرار، فقد كانت قبل ذلك منهمكة في البحث عن الطعام وما يلبّي غريزة البقاء لديها، أمّا تلك الأسئلة المعقّدة حول الله والوجود، فكانت ترفًا لم تبلغه بعد.
وبالعودة إلى سؤالنا الأوّل، نجيب: إنّ الإنسان الذي يولد في مجتمع إلحاديّ، سيكون في الغالب ملحدًا. وإذا شذّ عن قومه وآمن، فلن يكون إيمانه ناتجًا عن استنتاجات عقليّة مجرّدة وبسيطة، بل عن صراعات واطّلاعات وتأمّلات مكثّفة وطويلة. مثله في ذلك كمثل الملحد في مجتمعاتنا المحافظة، فهو ألحد بعد سنين طويلة من المطالعة والصّراع الفكريّ مع الموروث، وهو ما زال حتّى اليوم يمثّل الأقليّة في هذه المجتمعات. ولهذا علينا أن نعي جيّدًا دور المجتمع في تكوين قناعاتنا وأفكارنا، فنحن اليوم لا نؤمن بالله لأنّنا أذكياء، بل لأنّنا ولدنا في بيئة تؤمن به. أمّا العقل، فهو الوسيلة التي نتحقّق بها من صحّة ذلك الإيمان.
ولسنا نسعى هنا إلى تهميش دور العقل في الاستدلال على الله، ولا نريد استدعاء الجدل القديم بين العقلانيّة والتّجريبيّة، بل كلّ ما نريده هو الإشارة إلى سلطة المجتمع الذي نعيش فيه، ودوره الأساسيّ في بناء عقائدنا، فنعيد النّظر في تلك العقائد، تحت إشراف العقل، وعندها فقط نستطيع التّمييز بين خطئها وصوابها.
الله والدّين
يصعب على بعضنا التّمييز بين الإيمان والتّديّن، فيظنّهما شيئًا واحدًا، إلّا أنّ هناك فاصل كبير بينهما. فالإيمان لا يستدعي التديّن بالضّرورة، على خلاف التديّن، فإنّه يفرض على صاحبه أن يكون مؤمنًا. وبعبارة أخرى: كلّ متديّن مؤمن، ولكن ليس كلّ مؤمن متديّنًا.
وقد يتعجّب البعض من هذا الكلام فيتساءل: إن كان الإنسان مؤمنًا بالله فلماذا لا يتّبع تشريعه الدّينيّ؟ والإجابة بسيطة: لأنّه لا يعتقد بأنّ هذا التشريع هو تشريع إلهيّ. أو لأنّه لا يوافق على مبادئه، بل يلمس فيها الكثير من الثّغرات. ونحن لا نبتغي هنا أن نناقش تلك الثّغرات، أو مواقف اللّادينين، بل نريد أن نفهم أكثر، جدوى الدّين في حياتنا، وأن نعرف إن كان مهمًّا في عصرنا الحاليّ أم لا.
ولكي نبلغ مرادنا، علينا في البداية أن نطرح سؤالًا بسيطًا: ما هو الدّين؟ سنبتعد من التّعريفات المعقّدة والمطوّلة، ونقدّم تعريفًا أكثر عصريّة وإفهامًا. الدّين كما نراه، دستور إلهيّ، وُضع لينظّم حياة الأفراد والجماعات، ويردعهم عن ارتكاب الشّرور، ويجعلهم أكثر قربًا من الله. وقد استخدمنا في تعريفنا الخاصّ لفظة "دستور" لما فيها من تعبير دقيق عن فكرة الدّين. فالدين كالدستور، يحمل بنودًا وموادًا، ويعاقب، في معظم الحالات، كلّ من يتجاوزها.
وقد يبتهج اللّادينيّون لسماعهم هذا الكلام، ففيه ما يخدم أفكارهم ويدعمها، ولهذا سنجدهم يقولون: إنْ كان الدّين دستورًا، فهو دستور قديم بالٍ وُضع لشعوب خلت، أمّا نحن فقد أوجدنا دستورنا العصريّ الخاص، وهو يمثّلنا ويخدمنا بشكل أفضل. وفي الحقيقة إنّه قول معقول، فإنْ كان لدينا دستور يتطرّق إلى مسائلنا العصريّة كلّها، ويخدمنا بشكل عمليّ ومبتكر، فما حاجتنا إلى الدّين؟ لماذا لا نكتفي بذلك الدّستور؟
ما غاب عن اللّادينيّين أنّ هذا الدّستور المعاصر يتطرّق إلى حياتنا العمليّة فقط، ويهمل حياتنا الميتافيزيقيّة. على خلاف الأديان، فإنّها تتطرّق إلى الحياتين معًا. إنّ دستورنا اليوم لا يعاقب على الكذب، والنّميمة، والاستغابة، والخيانة العاطفيّة... أمّا الدّين فيعاقب على ذلك كلّه؛ وإنْ كان العقاب في عالم ميتافيزيقيّ غير عالمنا. إنّ هذه الأفعال التي ذكرناها لا تقلّ خطرًا عن الأفعال التي يعاقب عليها القانون، وبما أنّ القانون عاجز عن ردعها، فلماذا لا نترك الدّين يقوم بذلك؟
سيعترض اللّادينيّون على هذا الكلام بالطّبع، ويسألون: ما أدرانا بوجود عالم آخر من هذا النّوع؟ ولن نستطيع أن نجيبهم بأنّ النّصوص المقدّسة هي التي أخبرتنا بذلك، لأنّهم لا يؤمنون بتلك النّصوص. وكلّ ما يمكننا قوله إنّنا لا نستطيع إثبات وجود هذا العالم عمليًّا، ولكنّنا لا نستطيع نفيه أيضًا. وما دام وجوده يساعد على ردع ما يعجز عنه دستورنا المدنيّ، فلماذا لا نؤمن به؟ ما دام الدّين حلًّا ناجعًا لهذه المشكلة، فلماذا لا نحثّ عليه؟
قد يكون دستورنا الحاليّ أكثر ملاءمة لعصرنا ومجتمعنا، لكنّه يفتقر إلى جانب مهم، والدّين وحده القادر على ملء فراغه. إنّ الواقع اختصاص الدستور، أما الميتافيزيقا فاختصاص الأديان، ولا يصلح أن يقوم أحدهما بعمل الآخر.
وهذا لا يعني أنّ الأديان لا تحمل مغالطات، ولكنّها أيضًا تحمل كثيرًا من الفوائد التي لسنا بغنى عنها. وعليه، لا بدّ من استثمار تلك الفوائد بدلًا من تحويلها إلى سجن ينغّص على المؤمنين حياتهم. فوهمٌ أن نعتقد بأنّ المجتمع يصبح أكثر انضباطًا كلّما كانت أحكامه الدينيّة أكثر صرامة؛ إذ "إنّ الضّغط الدّائم يولّد الانفجار، وانفجار الأفراد والجماعات تحت وطأة الضّبط (الضّغط) المتشدّد، يتأخّر قليلًا لحين استكشاف السّبل الهروبيّة (...) وإذا بالتمرّد النّاجم عن ضرورة الحريّة للإنسان، يزعزع هذه السّيطرة المتوهّمة"9. وليس اللادينيّون سوى أفراد، انفجروا تحت وطأة الضّبط الدّيني المتشدّد، وسوء استثمار الدّين.
الله والشّر
لقد ظلّ الشّرّ سؤالًا جدليًّا تتناقله الأجيال المفكّرة وتحتار حوله: من المسؤول عن الشّر؟ نحن أم الله؟ ويقول الفيلسوف الفرنسيّ ألبير كامو: "فنحن إمّا أن نكون غير أحرار وأن يكون الله القويّ مسؤولًا عن الشّر، أو أن نكون أحرارًا ومسؤولين، ولكنّ الله ليس قويًّا"10. ولا ندري لماذا حصرنا كامو بهذين الخيارين! أليس من المعقول جدًّا أن يكون الله القويّ قد أوجد الشّرّ فينا، ثمّ جعلنا في الوقت نفسه أحرارًا ومسؤولين عنه؟ أم أنّ المسألة لا تصبح واضحة إلّا حين نُلحق بالله إحدى الصّفات السّلبيّة، كالضّعف أو التعسّف؟
أجل، إنّنا نميل إلى هذا الخيار الثّالث، وهنا يتبدّى لنا سؤال جوهريّ: لماذا جعل الله الإنسان شرّيرًا؟ أو بالأحرى، لماذا غرس الشّرّ في الإنسان ولم يكتفِ بغرس الخير فيه؟ ومن المؤسف أنّ أحدًا لم يجب عن هذا السّؤال بشكل دقيق وشافٍ، اللهم إلّا بعض المفكّرين القلائل.
يقول ابن القيّم: "والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل الشرّ والسّوء، والربّ تعالى هو الذي جعله فاعلًا لذلك، وهذا الجعل منه عدل وحكمة وصواب (...) وهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشّيء موضعه لما في ذلك من الحكمة البالغة التي يُحمد عليها، فهو خير وحكمة ومصلحة، وإن كان وقوعه من العبد عيبًا ونقصًا وشرًّا"11.
فما هي هذه الحكمة القابعة خلف كلّ فعل شرّير يرتكبه الإنسان؟ لقد رفض الله أن يعرب عنها لملائكته، واكتفى بالقول: (إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ )12 (البَقَرَةِ 30) . ولعلّه بذلك يريد منّا أن نتفكّر ونتأمّل ونصل إلى الإجابة بأنفسنا. وحاول ابن القيّم أن يقدّم لنا إجابةً، فقال: "لولا خلق الله القبيح لما عُرفت فضيلة الجمال والحسن، ولولا خلق الظّلام لما عُرفت فضيلة النّور، ولولا خلق أنواع البلاء لما عُرف قدر العافية"13.
ولكن ما حاجة الإنسان الذي يعيش في عالم مليء بالحسن والجمال والأمن والنّور والعافية والحبّ... إلى معرفة فضائل هذه الأمور؟ بماذا ستفيده تلك المعرفة؟ إنّ عالمًا كهذا لا يحتوي شرًّا، وهو يخلو من الطّمع والجحود والتكبّر وكلّ ما هو سلبيّ. إنّه عالم مكوّن من الخير وحده، فأيّ فائدة تؤدّيها تلك النّقائض، وأيّ حكمة؟ إنّ هذا أشبه بقولنا لرجل يلتهم حلواه المفضّلة: عليك أن تمضغ التّراب عوضًا عنها، لتدرك ما فيها من لذّة، علمًا أنّ الرّجل لم يتذمّر يوما من تلك الحلوى، ولن يتذمّر، فهو يحبّها ولا يستطيع إلّا أن يحبّها.
ولذلك لا نرى في هذا التّفسير حكمة عظيمة. ولكي نرى الحكمة الحقيقيّة، علينا أن نتساءل أوّلًا عن مصيرِ هذا العالم الخيّر االمثالي، إلى أين سيصل بمثاليّته تلك؟ وفي الواقع ثمّة مصير واحد ينتظره: الرّكود والجمود. إنّ عالمًا من هذا النّوع، لن يتقدّم ولن يتطوّر، لأنّه يفتقر إلى أدوات التّقدّم والتطوّر؛ أي إلى الصّراع والتّصادم والنّزاع. ففي مجتمع خيّر لا يسوده إلّا الحبّ والسّلام، لن يتنازع أحد مع الآخر، وهذا تحديدًا ما سيبقيه جاثمًا مكانه، من دون أيّ حركة. ولهذا يرى أرنولد توينبي أنّ المدنيّة مسرح الشّيطان ومجاله الذي تخصّص فيه، فهي على حدّ تعبيره، نتاج التّنازع بين الله والشّيطان، ويعتقد توينبي أنّ الله قد خلق الشّيطان عمدًا وسلّطه على الإنسان لكي يسيّره في سبيل المدنيّة14.
وهذا رأيٌ وجيه، فيه كثير من الصّواب، فإنّ أعظم الحضارات وأعظم الأمم قامت على دماء المتقاتلين فيها أو عليها. إنّ التّاريخ ليس إلّا سيرورة من الصّراعات الدّامية، تنقلنا باستمرار، من البداوة إلى الحضارة، ومن التخلّف إلى التقدّم. ولهذا نجد علي الوردي يقول: "إنّ التقدّم يكلّف المجتمع غاليًا، فهو ليس فكرة مجرّدة تراود أذهان الفلاسفة، إنّه بالأحرى نتيجة التّفاعل والتّصادم المرير بين قوى المحافظة وقوى التّجديد"15، بين قوى الخير وقوى الشّر.
إذًا، إنّ الله قد خلق الشّر فينا لنتنازع فيما بيننا، فحين نتنازع تتحرّك عجلة المجتمع وتنفض خلفها غبار الرّكود، وعندئذ ننتقل جميعًا من حالة اجتماعيّة متأخّرة إلى حالة اجتماعيّة متقدّمة.
الله والثّورة
في ظلّ واقع مشحون بالمآسي، وحياة تفيض بالمظالم، يذهب بعضنا إلى التّساؤل: أين الله من كلّ ما يحدث؟ لماذا لا يحرّك ساكنًا؟
يقول أحدهم "إنّنا نعود إلى الله فقط لنحصل على المستحيل، أما بالنّسبة إلى الممكن فالبشر يكفون"16. ولكن كثيرًا منّا يعجز عن التّمييز بين الممكن والمستحيل. فقد أصبح الانتصار على الظّلم والفساد أمرًا مستحيلًا بالنّسبة إلى كثيرين، وصار التّغيير حلمًا تقتات عليه الشّعوب البائسة في أوكارها المظلمة. لقد بات النّحيب والتحسّر والشّكوى، كلّ ما تجيده هذه الشّعوب، وقد يحلو لها في لحظات من اليأس المرير، أن تلوم ربّها، وتعاتبه على سكونه.
على سبيل المثال، ما يحدث اليوم في فلسطين، وما كان يحدث فيها دائمًا، دفع بعض العرب إلى الغضب والتمرّد على الله. والغضب هنا ردّة فعل بديهيّة ومطلوبة، ولكن ما نفعها حين تُسلّط على السّماء بدلًا من الأرض؟ ولماذا التمرّد على الله وليس على الأنظمة العربيّة الخائرة والمستسلمة؟ هل أصبحت فلسطين قضيّة خاسرة؟ وهل بات تحريرها هدفًا مستحيلًا، يدفعنا إلى اللّجوء إلى الله، على حدّ تعبير الرّأي السّابق؟ ألم تنتصر فيما مضى دول مستعمَرة، وتحقّق استقلالها؟ فلماذا لا تستقلّ فلسطين أيضًا؟
على السّؤال الأوّل أن يُطرح بهذا الشّكل: أين نحن من كلّ ما يحدث؟ ولماذا لا نحرّك ساكنًا؟ إنّ الله لم يخلق لنا الأيادي للدّعاء فقط، وإنّما للعمل أيضًا. ولم يخلق لنا الألسن للشكوى فحسب، وإنّما للمجاهرة بالحقّ كذلك. ومهما دعونا وشكونا فإنّ الله لن يُرسل جيوشًا من الملائكة لتحرّر أرضنا وشعبنا، لأنّنا نحن وحدنا جيوش الله، والتّغيير رهن نهضتنا.
ليس السّجود والرّكوع هما العبادة الوحيدة، وليس الإضراب عن الطّعام والشّراب هو العبادة الوحيدة، وليس الطّواف حول الكعبة أو السّفر إلى الفاتيكان هما العبادة الوحيدة. العبادة الحقيقيّة هي الانطلاق إلى تحرير أنفسنا ومجتمعاتنا، بدلًا من الجلوس في بيوت الله والاتّكال عليه.
***
هذه إجابات قصيرة، عن بعض الأسئلة الكبيرة والقديمة، أردنا بها نماذج حول كيفيّة اكتساب الإيمان. وقد لا تُقنع هذه الإجابات جميع المؤمنين، عندئذ عليهم أن يعثروا بأنفسهم على الإجابات التي هي أكثر إقناعًا لهم. فليس من الصّواب أن نكتفي بالإجابات القديمة، بل علينا البحث دائمًا عن إجابات جديدة تحمل في طيّاتها المزيد من الحجج والإثباتات المقنعة، "فأسلافنا يرضيهم أن نتفوّق عليهم أكثر ممّا يرضيهم أن نفاخر بهم"17.
الهوامش:
1 - صادق جلال العظم، نقد الفكر الدّيني، ط11، بيروت، دار الطّليعة، 2018، ص 20.
2 - مصطفى محمود، رحلتي من الشّك إلى الإيمان، القاهرة، دار المعارف، 1970، ص 87.
3 - م.ن، ص 88.
4 - إميل سيوران، مثالب الولادة، ط1، بيروت، منشورات الجمل، 2015، ص 141.
5 - راجع: ابن طفيل، حي بن يقظان، القاهرة، هنداوي، 2012.
6 - علي الوردي، مهزلة العقل البشري، ط3، بغداد، دار الورّاق، 2011، ص 164.
7 - م.ن، ص 165.
8 - جوستاين غاردر، عالم صوفي، ط1، عمان، دار المنى، 2017، ص 252.
9 - يوسف زيدان، اللّاهوت العربيّ: وأصول العنف الدّيني، ط2، القاهرة، دار الشروق، 2010، ص 224.
10 - ألبير كامو، أسطورة سيزيف، بيروت، منشورات دار مكتبة الحياة، 1983، ص 66.
11 - ابن القيم، شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتّعليل، ط2، مج1، الرّياض، دار الصميعي، 2013، ص 983 – 984.
12 - البقرة: 30.
13 - ابن القيم، م.س، ص 1138.
14 - علي الوردي، م.س، ص 20 – 29.
15 - علي الوردي، وعّاظ السّلاطين، ط2، لندن، دار كوفان، 1995، ص 103.
16 - ألبير كامو، م.س، ص 42.
17 - عبدالله القصيمي، لئلا يعود هارون الرشيد، ط2، بغداد، منشورات الجمل، 2006، ص 60.
قائمة المصادر والمراجع:
- القرآن الكريم.
- ابن القيم، شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتّعليل، ط2، مج1، الرّياض، دار الصميعي، 2013.
- ابن طفيل، حي بن يقظان، القاهرة، هنداوي، 2012.
- زيدان، يوسف، اللّاهوت العربيّ: وأصول العنف الدّيني، ط2، القاهرة، دار الشروق، 2010.
- سيوران، إميل، مثالب الولادة، ط1، بيروت، منشورات الجمل، 2015.
- العظم، صادق جلال، نقد الفكر الدّيني، ط11، بيروت، دار الطّليعة، 2018.
- غاردر، جوستاين، عالم صوفي، ط1، عمان، دار المنى، 2017.
- القصيمي، عبد الله، لئلا يعود هارون الرشيد، ط2، بغداد، منشورات الجمل، 2006.
- كامو، ألبير، أسطورة سيزيف، بيروت، منشورات دار مكتبة الحياة، 1983.
- محمود، مصطفى، رحلتي من الشّك إلى الإيمان، القاهرة، دار المعارف، 1970.
- الوردي، علي، مهزلة العقل البشري، ط3، بغداد، دار الورّاق، 2011.
- الوردي، علي، وعّاظ السّلاطين، ط2، لندن، دار كوفان، 1995.
تغريد
اكتب تعليقك