الرواية العربية من الأحادية إلى البوليفونيةالباب: مقالات الكتاب
جواد عامر المغرب |
سلكت الرواية العربية عبر تاريخها مسارات كعادة الفكر والأدب حينما يتأثر بالمتغيرات التاريخية والثقافية والسياسية والإيديولوجية وغيرها فلا يلبث أن يستجيب لها في صور إبداعية شتى تظهر فيها تفاضلات المبدعين وتفاوتاتهم، ولعل التأثير الغربي ظل قوي الأثر على الثقافة العربية التي أخذت في ممارسة المحاكاة بعدما تلقف الشرق العربي إنتاجات الأوروبيين الرومانتيكية مع المسرحي "وليام شكسبير" والكاتب الإنجليزي "شافنتسبري "والألماني "غوته" وغيرهم والواقعية عند زولا وبلزاك ومن سلك مسلكهم، فأخذت الأقلام في إنتاج النص الروائي بعد "زينب" 1913 مع محمد حسنين هيكل وهي الرواية التي أسست للمشروع الروائي العربي، فالتفتت العيون إلى الخطاب الروائي الذي بدأ العمل على إنتاجه على قدم وساق في وقت كان الغرب يشهد فيه توسعًا نظريًا ومنهجيًا في الدرس النقدي والأدبي مع الشكلانيين في روسيا والبنيويين في فرنسا وما سيشهده من امتدادات في أوروبا وخارجها، وتأسيسًا للدرس اللساني مع محاضرات في اللسانيات العامة لفردناند دي سوسير وما سينتجه ذلك من توسع كبير في دراسة اللغة والخطاب لتظهر مدارس وفروع جديدة ستعمل على التنظير للغة التي ستدرس لأول مرة في التاريخ الفلسفي للإنسان كمدرسة براغ وكوبنهاغن المدرسة التوليدية في أمريكا وغيرها، إذ كان الفكر الحداثي الأوروبي مع نزوع جديد في تاريخه تجاوز الطروح التقليدية للفلسفة التي كانت قائمة على النسق المثالي والميتافيزيقي في اتجاه فلسفة العلوم ودراسة الإنسان من حيث هو شخص فكان لدراسة الكلام الإنساني أبعد الأثر في ترسيخ فهم لساني جديد في تاريخ اللغات الطبيعية، وما سينتج فيما بعد من تفرعات مدرسية كان لها أبعد الأثر في دراسة الخطاب كالسيميولوجيا وجماليات التلقي ولسانيات النص، كل هذا الزخم المعرفي كان سائرًا في خط مواز للإنتاج الروائي الذي كان يتلقف ويعي محتويات هذه النظريات الأدبية واللسانية فكان الروائيون الذين سايروا حقيقة في العالم العربي هذه التنظيرات وامتلكوا نوعًا من الوعي الابستيمي قادرين على توظيف الأدوات المنهجية والإجرائية التي جاءت بها في رواياتهم فسلكوا بها مسلكًا جديدًا نحو التجريب الروائي مبتعدين عن الأنساق التقليدية التي ظلت مهيمنة في الرواية العربية لعقود طويلة امتدت إلى حدود سبعينيات القرن الماضي.
لقد كان للرواية الغربية تأثيرها الكبير على الرواية العربية من حيث التيمات والأنساق فوجد الروائيون العرب في التيار الواقعي الاجتماعي المهيمن في أوروبا نموذجًا صالحًا للاحتذاء مثلما تأثر بعضهم بالمد الرومانتيكي من قبل لكن الواقعية أرخت بظلالها على التوجه الروائي العربي لما كانت تقدمه من صور متشابهة لم يجد فيها روائيو العرب أي اختلاف بين ما كانوا يعيشونه في واقع عربي مرير يسوده الظلم والاحتقار وتغيب فيه أبسط الحقوق الإنسانية فظهرت بصمات الغربيين في أعمال الحكيم خاصة "عودة الروح" و"زهرة العمر" وفي "قنديل أم هاشم" ليحيى حقي وفي أعمال طه حسين خاصة روايته "أديب" فالمجتمع العربي متسم بالهشاشة والانحطاط لا يختلف كثيرًا عن نموذجه الغربي في مراحه التاريخية المظلمة التي سادت فيها الطبقية الاجتماعية في روسيا والدنمارك وفرنسا وانجلترا والمانيا وغيرها فكان أدب هذه البلدان تجسيدًا حقيقيًا للواقع الحالك، فكتابات الروس كتشيكوف وتولستوي ودوستويفسكي والدنماركي "هانس كريستيان أندرسون" والفرنسي فيكتور هوجو والإنجليزي "تشارلز ديكنز" وغيرهم كتابات التقطت شخوصها من الهامش الاجتماعي الضيق وعكست بجلاء واقعًا أوروبيًا هشًّا من حيث القيم الإنسانية ومختلاً معرفيًا ومترديًا اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وكان للترجمات دور كبير في التعريف الثقافي بالمنتج الروائي الغربي الذي جعل الروائي العربي يطلع من كثب على الواقع الغربي بتفاصيله التي لا تختلف البتة عما يعيشه الإنسان العربي الذي ظل يئن من وطأة الاحتلال وما أنتجه الفرق الحداثي بين الغرب والشرق من تباعدات وتمزقات أنطولوجية، ذلك أن المجتمع الغربي سينعتق من ربقة الواقع الهش مستفيدًا من الفلسفات الحديثة التي رسخت لمفهوم الإنسان ومنحته قيمته لا ككائن بشري وإنما كشخص يمتلك الإرادة ووجود بالمعنى الذي بينه اسبينوزا تحت مسمى "الكينونة الانسانية"، لكن المجتمع العربي سيعيش أحلك الظروف بعدما تذبذب موقفه من الحداثة فأخذ بها الشرق العربي لتنطلق دعوات الاصلاح والتحديث وما ولده ذلك من صراع فكري فلسفي بين دعاة الحداثة ودعاة المحافظة بدءًا من الشيخ محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وشكيب أرسلان وغيرهم، غير أن المد التركي والاستبداد السياسي الممارس في شرقنا العربي آنذاك لم يكن مسعفًا في تحقيق الحداثة المطلوبة التي ظلت معطوبة بشكل لافت، وكان الوضع في المغرب أكبر حدة لأن التعامل مع التحديث اتخذ قرارات المؤسسة الدينية عبر فتاوى الفقهاء الذين اعتبروا الغرب بلاد الكفر وأن التعامل معهم هو إخراج من الملة فأفتوا في تحريم منتجاتهم الحديثة كالتلغراف والفونوغراف ومنهم من حرّم السيارة وخط سكة الحديد لأنه يوصل بين أرض الإسلام وأرض الكفر بل منهم من أفتى في تحريم الصابون لأنه مصنوع من شحم الخنزير وغير ذلك من المواقف الفقهية كثير في هذا الباب، لذلك ظل التحديث نائيًا عن المغرب لفترات حتى دخل المستعمر مثلما دخل بلدانًا عربية كثيرة في زمن الضعف السياسي ممارسًا نزعته الامبريالية على الشعوب العربية، فكان لابد للأدب من أن يتأثر ويساير هذا المتغير الجديد فزخرت الساحة الأدبية بروايات الوطن والهوية والمقاومة في المغرب والجزائر وتونس وأذكر على سبيل المثال لا الحصر "دفنا الماضي" لعبدالكريم غلاب و"الريح الشتوية" لمبارك ربيع و"وليلة السنوات العشر لمحمد صالح الجابري وروايات تعري الواقع الاجتماعي والسياسي كأعمال نجيب محفوظ وحنا مينة السوري وغيرهما وأعمال أخرى كثيرة في المغرب العربي منها "التوت المر" لمحمد العروسي المطوي والمعلم علي لعبدالكريم غلاب و"عرس بغل" للروائي الجزائري الطاهر وطار.
إن الرواية العربية سواء تلك التي تنبش في الذاكرة الوطنية وتناغي روح المقاومة وتناهض الاحتلال صناعة للوعي الجمعي في مرحلة تاريخية أخذت على عاتقها النخبة المثقفة زمام الكفاح الفكري، أو تلك التي أدخلت القارئ العربي إلى الدروب والأزقة والغرف وجلت الحقائق والدقائق التي لا يمكن للمؤرخ البتة أن يسبر أغوارها والتقطت شخوصها من الهوامش الضيقة فنقلت المشهد السياسي والاجتماعي وكشفت النقاب عن سمات القيم وأنماط السلوك والتفكير في واقع شديد التأزم يبحث فيه العربي عن لقمة عيش يسد بها الرمق في الوقت الذي ينعم فيه القلة من طبقات الأعيان بالرفاهية ورغد العيش، هذا النوع من الروايات التقليدية ظلت موجهة بنفس واحد سواء في الشرق العربي أو في المغرب، تكنفها نفس الرؤية وتوحدها ذات النظرة تسير في خط أحادي يرمي فيه السارد دوما إلى جعل إيديولوجيته مهيمنة في الخطاب الروائي وإن حاول أن يمارس نوعًا من التمويه في عالمه الروائي، يظل فيه صوت السارد واحدًا وتبقى الخطية السردية صبغة ظاهرة في المعمار الروائي.
لقد ظل هذا النسق مهيمنًا على الرواية العربية حتى تفتحت مدارك بعض الروائيين العرب في سياق تاريخي أخذ فيه الأدب يشهد تحولاً ثوريًا وتمردًا على الأنساق التقليدية في اتجاه التجريب الروائي الذي أخذ في شق طريقه بتؤدة وهو يستلهم النظرية النقدية الأدبية من خلال روادها الكبار كميخائيل باختين من خلال كتابيه: "الخطاب الروائي" و"شعرية دوستويفسكي" وما قدمه من رؤية واضحة للنسق الروائي البوليفوني الذي يعتبر دوستويفسكي رائده الأول في عمله الشهير الجريمة والعقاب، فقراءة بعض الروائيين العرب وتتبعهم لهذا المسار النقدي التنظيري في الغرب سيمنحهم منظارًا جديدًا يرون عبره الرواية العربية فيعملون على تجاوز الأنساق التقليدية السائدة في إطار محاولات تجريبية جديدة تتجاوز خطية السرد وأحادية الخطاب إلى تعددية الأصوات في الرواية الحديثة، وهذا ما ستترجمه الرواية منذ السبعينيات مقدمة للقارئ العربي نموذجًا روائيًا لا يقف به عند حدود الرؤية الواحدة وكأنها أخذت تنزع إلى نوع من الممارسة الديمقراطية لمنح الحرية للقارئ كي يختار في صلب الرواية ما شاء من رؤى تتلاءم مع توجهه الفكري ومن هنا انبثقت تلك الممارسة السردية الخالقة لتعدد الأصوات في مستويات مختلفة تمنح النص الروائي بعده البوليفوني القائم على تعدد اللغات فلا مجال في الرواية الحديثة للغة أحادية تقوم على التوصيف والسرد والحوار وإنما هي لغات تسمح للعامية بما تمتلكه منن بلاغات وقدرات تعبيرية في مواقف تواصلية وعلى ألسنة شخصيات غالبًا ما تكون غير متعلمة بالتعبير بواسطتها وتظهر اللغة الأجنبية المعبرة في الغالب عن التبعية للآخر أو المتوافقة مع الفضاء الذي تروج فيه وتظهر لغة الشعر في المواقف العاطفية داخل المتن الحكائي ولغة الصحافة في المواقف الحجاجية وغيرها، مثلما تظهر التعددية في تداخل الأجناس خاصة وأننا بدأنا نتحدث في الأدبيات الحديثة عن عدم وجود الأجناس الصافية لما يمارسه النص من عمليات الامتصاص لنصوص سابقة أو معاصرة وهو ما يعرف عند الشكلانيين والبنويين بالتناص الذي ينسب إلى باختين قبل أن تتناوله جوليا كريستيفا بمزيد من التفصيل، فتحضر القصيدة الشعرية والملحمة والأسطورة والرسالة وغيرها من الأشكال الأدبية لتنصهر في المعمار الروائي الحديث، وتتعدد الشخصيات ومواقفها المتباينة خالقة نوعًا من الصراعات المختلفة بين درامية وثقافية ودينية وفلسفية وفكرية، وفي خضمها يتنامى العالم الروائي فيكون القارئ مخيرًا بتبني موقف ما من جملة المواقف التي توافق رؤيته الفكرية وتوجهه الفلسفي أو نظرته للحياة بعيدًا عن الطرح التقليدي الذي كانت فيه الرواية تجر فيها قارئها إلى إيديولوجية يظل السارد عاملاً بجهد على حبكها من أجل إقناع القارئ بها ليتبناها دون تفكير، كأنما يمارس عليه نوعًا من السلب الفكري من حيث لا يشعر وهو ما تجاوزته الرواية التجريبية التي منحت القارئ حرية الاختيار، ويتعدد الرواة داخل الرواية البوليفونية فلا وجود لصوت سردي واحد وإنما يمنح السارد خيوط السرد لرواة متعددين قد يكونوا شخوصًا في الرواية يتكلمون بألسنتهم عن أنفسهم أو عن غيرهم، وقد يكون راوي الرواة فيعمل على تنظيم لعبة السرد فيكشف أحيانًا ذلك المخبوء والمستور الذي لا تستطيع الشخصية كشفه إما لشعورها بالحرج لاستحيائها من الموقف مستحضرة البعد الوجودي السارتري "الآخر جهنم"، أو لنسيانها وسهوها أحيانًا أخرى، ومن ثم تتعدد المنظورات السردية والاستعمالات الضمائرية مما يجعل الرواية البولوفينية مصطبغة بالحوارية التي تتعالى على المنطق المونولوجي الذي ماز الرواية التقليدية.
إن الرواية الحوارية متعددة الأصوات تتعالى فعلاً بأنساقها الجديدة على الرواية التقليدية التي شكلت اللبنة الأولى للعمل الروائي في العالم العربي، وهي رواية لها من القيمة الإبداعية ما لا يمكن لعاقل أن يبخسه إذ يكفيه أن ينظر إلى ثقل العناوين سواء التي تحولت إلى مشاهد سينمائية وتلفزيونية ليبصم لها بالعشرة على نجاحها في العالم العربي غير أن واقع التحديث الذي كانت دماؤه تسري في العالم العربي وضرورة مواكبة مستجدات النظريات الأدبية والنقدية في الغرب كان مدعاة لدخول الرواية العربية غمار التجريب من الباب الكبير عبر محاولات مختلفة الأنساق والأبنية والتيمات، تنسجم وقناعات الكاتب الروائي مما منحنا نحن - القراء - تنوعًا إبداعيًا لتجارب مختلفة من المشرق إلى المغرب، غير أن القواسم المشتركة ظلت تتجاذب الخطاب في تشكلاته البنيوية عبر هذه التعددية التي رسمت ملامحها اللغة المهجنة والأسلبة والتداحلات الأجناسية والتناص واستحضار أنماط من الخطابات المتباينة دينية وفلسفية وشعرية وغيرها، وطبعتها تعددية الرؤى والمواقف والشخوص وأنماط الوعي التي تعبر عنها بناء على حمولاتها الثقافية وتعدد الرواة والمنظورات، كل هذا منح الرواية البوليفونية تشكلاً جماليًا جديدًا وجد فيه القارئ العربي ضالته في واقع سياسي أخذت فيه بوادر الديمقراطية والتحرر تتشكل بعد مخاض عسير كان فيه الصراع محتدما بين الفعل الثقافي والسلطة في غالب المجتمعات العربية.
تغريد
اكتب تعليقك