قليل من الغبار في العيونالباب: مقالات الكتاب
د. فرح الراجح أكاديمية في جامعة سيسكس بريطانيا |
ترجمة: د. فرح الراجح
توسعت الحياة الأسرية في بيت دولمن ومرت الأيام وكأنها دوامات غير منتظمة. كان من السهل الانزلاق إلى أحضان هذا الزمن الجديد، والانجذاب لأولئك الذين عاشوا هنا، كما لو أن حياة مدينتها كانت مجرد انقطاع عن هذه الأيام التي تنقلها المياه الراكدة والمتحركة، بين النهر والبحيرة وصدى البحر. تخلع سافي حذائها القماشي وتنغمس في مكالمات هاتفية مع أبناء عمومتها، تتسلق الأشجار بأصابع قدميها، رذاذ الماء يتناثر حول دراجتها الهوائية وهي تمر فوق البرك، تطارد الدجاج والكلاب الضالة في أيام كانت تتلألأ مثل النحاس الذي تصقله مع عمتها. هنا تتكشف الساعات أثناء مرورها من أمام الكاتششيري* المليء بمحادثات قضايا المحكمة حيث جمعت قصصًا صغيرة عن الخيانة والسرقة. تسحبها لاحقًا من جيوبها لتناقشها مع رينو في خصوصية غرفتها. هذا بعد ركوب ناعس على مركب شراعي صغير وبعد سباحة متخفية بين الزنابق الزرقاء.
حتى والدتها، التي كانت في السنوات الأخيرة تتأرجح بين القلق والنوم، استسلمت لهذا الزمن الذي لا ينتهي. كانت تجلس على كرسيها الهزاز، وحيدة، تتأمل طيور الماء وحركتها المستمرة والمتواصلة. استرخت سافي. استرخت أكثر من اللازم، كما يقول رينو. لقد استرخت كثيرًا لدرجة أنها بدت لها أنها كبرت وأصبحت شخصًا لم تعد تعرفه بعد الآن. اكتسب جسدها قوة من جراء ركضها من غرفة إلى أخرى، من الحديقة إلى المحراب، من الشاطئ إلى البيت. قبل الإفطار، تهرع إلى سرير رينو وهما يرنمان ليزي بونز لناكيتينا!، تنهرها إياه بسبب قدميها الملطختان بالطين اللتان توسخان أرضية المنزل، تهم بالدردشة في الطابق السفلي حين تجمع البيض الذي لا يزال دافئًا دون الشعور بحدود الوقت.
هنا اكتسبت إحساسًا قويا بذاتها، طاقة ملأتها قبل أن تنهكها، وتعود ليلاً إلى ملاذ سريرها الذي يغطيه نور القمر لتنزلق إلى أحلام منسية تحت النظرة المحدقة لدمى الظل وعيني عمتها الباستيلية اللون. وبعد سنوات، كانت تقرأ عن ماهية الطفولة الضائعة وتعرف بالضبط معاني الكلمات. لقد انزلقت من سيطرة والدتها وسط الصمت المتسع بينهما. والدتها التي كانت ترقد في المركز الذي لا يزال دافئًا، متخفيه بين الأقراص والنوم. ولكن ذات مرة نهضت والدتها لتتحدث. أرادت التحدث.
"سافي، من فضلك أحضري هذا الكتاب واقرأي لي."
لقد كان أمرًا هادئًا، لكنه كان أقوى من النبرة التي قيل بها. لم تجد سافي مخرجًا او عذرًا. كانت رينو بالداخل، مشغولة بدرس الكمان. كانت تتوقف وتعاود العزف في نفس الوقت الذي تضع فيه فيونا أصابعها على البيانو. كان روميش بالخارج مع صديق. مدت سافي يدها من فوق الطاولة لتتناول الكتاب الأزرق الصلب. مررت أصابعها فوق العنوان المحفور على وجه الكتاب.
"أي قصة تريدين؟"
حاولت إخفاء عدم رغبتها في القراءة، مدركة أن هذه هي المرة الأولى التي تطلب منها والدتها أي شيء منذ مدة طويلة.
'"أي واحدة؟ لا يهم. لن تمانعي، أليس كذلك؟"
"قالت بسرعة كبيرة: "لا بالطبع لا"
فتحت الكتاب وتصفحت صفحاته حتى وصلت إلى النقطة التي توجد بها إشارة شريطية. لقد أبقت الكتاب مفتوحًا وقلبت الإشارة المرجعية جانبًا بحيث صارت توازي خطًا طباعيًا واضحًا.
"الزائرة" قالت وهي تجلس في مواجهة الضوء وتضع إحدى ساقيها تحت وركها. واصلت " كانت يداه مرهقتين،" قد يعني هذا شيئًا مثل "مراهقتين" أو "مرهقين" قالت وهي تخفف من قراءتها لطرح كلا الاحتمالين، "على الرغم من أنهما كانتا مستلقيتان طوال الليل على أغطية سريره ولم يحركهما إلا للوصول إلى فمه وقلبه الجامح."
توقفت سافي وأعادت القراءة في صمت ليصل إليها المعنى تدريجيًا وتمس الكلمات المرأة التي كانت خلفها. حجًبت الصفحة وجه وشعر والدتها، ما عدى جانب صغير ظهر فوق الغلاف. وثقت بها لأنها اختارت قصة عن رجل مريض. جلست مغيره وضعيه ساقيها واستمرت بالقراءة.
"جرت عروق من تيارات زرقاء في البحر الأبيض"
لم يكن هذا ما أرادته. أرادت أن تترك القراءة وتذهب. وكان يتوجب عل رينو أن تنهي درسها الآن. نظرت نحو قاعة الطعام فرأت مصابيح الطاولة مضاءة، ثم عادت إلى والدتها التي بدت وكأنها في مكان آخر.
يبدو قويًا جدًا، أليس كذلك؟ هل تريديني أن أستمر؟"
أدارت والدتها نظرها من الماء إلى سافي. حاولت سافي تلافي نظرات والدتها بالتظاهر باللامبالاة. لم تناد والدتها ابنها الوحيد بوثا باسمه، بل كانت تناديه "ابني". علمت سافي أنها ستقول شيئًا قد لا ترغب في سماعه. "اسمعي"، "هذا الشيء في داخلي لن يختفي" كانت دائمًا تتعمد الغموض عند الإشارة إلى مرضها، وهكذا، كان الحديث الذي كان والداها يتمتمان به دائمًا. لقد تجنبت والدتها ذلك الحديث لفترة طويلة، لكن سافي سمعت والدها يقوله ذات ليلة من خلال ستارة غرفة نومها المطرزة بالخرز. نظرت سافي بعيدًا لكن صمت والدتها أجبرها على النظر إلى الوراء.
كانت والدتها حاضرة الآن: "يجب أن نقبل، يجب أن نقبل كما فعلت أنا". إذا قبلت ستجد أنه لا يوجد ما يدعو للخوف. "هذا الشيء الذي تكرهه سافي". سافي تكره "شيء" وتمنت أن يكون له اسم آخر، شيء شخصي يمكن مواجهته. لم تسمح لها عيون أمها، اللامعة في ظلامها، بالذهاب. "شيء" قد غيرها. بدت مختلفة، ووجهها غارق في تناقضات الأشهر القليلة الماضية. كانت بشرتها شاحبة جدًا بعكس عينيها اللامعتان، وشعرها أسود جدًا بعكس رقبتها الهزيلة، وشفتاها ممتلئتان جدًا مقابل زاويتا خديها الغائرتين، وكانت أصغر بكثير من أن تقول الكلمات التي كانت تقولها الآن وهي تمد ذراعيها وتبتسم بطريقة محيرة وغريبة في نفس الوقت تجعل سافي تشعر بأنها على وشك الدوران في الفضاء.
"إنها قصة قمامة. أكرهها" أسقطت الكتاب وركضت إلى المنزل، وصعدت الدرج. توقفت رينو عن العزف ووضعت كمانها جانبًا ورأت اللطخات الترابية التي تبعت سافي وهي تذهب مسرعة إلى غرفتها. فتحت النافذة وغرزت وجهها في أوراق شجره الجوافة، وفي نكهة الفاكهة، تنفست الهواء الأخضر داخلًا وخارجًا، داخلًا وخارجًا، حتى تسلل النمل إلى أذنيها وهزت رأسها للخلاص منه.
لم تتذكر هذه القضبان على النوافذ. تذكرت فقط رائحة الجوافة والملح والطين والشمس على الزنابق المتعفنة. كانت الرائحة الغريبة لكل شيء تصلها دفعة واحدة، ولا تزال موجودة الآن داخل الغرفة. رفعت المقبض وأطلقت الشبكة وشعرت بفقدان الجاذبية للحظة عندما دفعت بوجهها نحو ضوء الظهيرة الساطع.
لقد اختفت الأوراق والشجرة. في مكانها توجد شجرة بابايا رفيعة ذات ثمار صغيرة غير متناسقة الحجم، تكافح للبقاء على الأغصان. يمتد العشب الدافئ إلى القصب الكثيف على ضفة النهر، والظل الداكن لأشجار المانجو عند حافة المياه التي تعكس صورة الزنابق على سطح البحيرة.
اختفت زهور اللوتس في غياهب النسيان بعد ان قطفها بائعون حول المعبد، لكن أوراق الزنبق بقيت ويمكن رؤيتها إذا نظرت غربًا نحو أقصى الضفة الرملية.
الهوامش:
* كاتششيري هي الإدارة الحكومية الرئيسية أو الأمانة التي تدير المنطقة في سريلانكا.
A Little Dust on the Eyes Book By Minoli salgado
بييبال للنشر. طبعة 2015
صفحة 82 – 87
تغريد
اكتب تعليقك