مراجعة كتاب الثّقافة والمنهجالباب: مقالات الكتاب
أوكفيل عبد الحكيم الجزائر |
الكتاب: "الثقافة والمنهج"
المؤلف: د. عبد الوهاب المسيري
الناشر: دار الفكر المعاصر
سنة النشر: 2023
عدد الصفحات: 392 صفحة
سعدنا بهذه المبادرة والتي مآلها مراجعة كتاب وجدناه درّة من الدّرر التي وجب إيصال معانيها ومراميها لكلّ عقل واع، ونحن نقرأ فيه تشبّعنا بالمعارف والفوائد التي أتى بها الكتاب، أدركنا الحياة في جوانب منها كما لم ندركها من قبل.
الباب الأوّل - الفصل الأوّل - التّكوين
هو الدّكتور عبد الوهّاب المسيري، ولد في دمنهور، محافظة البحيرة، في مصر، بتاريخ 08 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1938م، بدأت مسيرته الفكريّة الأدبيّة بين ثقافة، فنّ وسياسة، فبات ذو معرفة موسوعيّة، تقلّد مناصب كثيرة في فترة التّكوين هاته، فتحصّل على الماجستير وبعدها الدّكتوراه في الأدب الإنجليزي والأمريكي المقارن، درّس الأدبين والنّظريّة النّقديّة في الجامعة، ثمّ في جامعات عربيّة عديدة، تقلّد منصب مستشار ثقافيّ لوفد الجامعة العربيّة ومستشارًا أكاديميًّا في المعهد العالمي للفكر الإسلاميّ، مؤلّفاته كانت في الفكر الصّهيونيّ الإيديولوجيّة القصيّة الفلسطينيّة، دون نسيان المؤلّفات الفكريّة الأخرى والأدبيّة.
نشأته الرّيفيّة دعت منه باحثًا مثابرًا، فاكتشف في مرحلة بحثه الأولى ما يسمّى بالمجتمعات التّقليديّة والمجتمعات الحديثة، الأولى التي نشأ في واحدة منها، يحكمها العرف والتّقاليد والعادات، وقبلها القيم الدّينيّة والأخلاقيّة، أمّا الحديثة فتلك التي لا تماسك فيها وإنّما تنبني علاقاتها على أساس العقد والقانون وحسب.
إنّ المجتمع التّراحميّ (التّقليديّ) في نظره لا زال مبنيًا على أساس كلمة الشّرف والمفاهيم الإسلاميّة الحنيفة، فيما غرق المجتمع التّعاقديّ (الغربيّ) في سلطة القانون والعقد دون تنازل ودون اعتبار للظّروف الإنسانيّة، والحقيقة كما قال المسيري، أنّ الإنسان قيمة تتخطّى المادّة، بل يتعدّى وجوده إلى ارتباطه بالقيمة البطوليّة وليس الماديّة وحسب، وقصد من القيمة البطوليّة الدّفاع عن الضّعيف وإنصاف المظلوم، وإحقاق الحقّ وإبطال الباطل والتّعاون والتّكاتف، كما أنّ مفهوم الأسرة الممتدّة التي تعيش في مكان واحد يجمع أفرادها ساعد على جعل الرّوابط الأسريّة قويّة في المجتمع التّراحميّ.
كانت له نزعة طقوسيّة كما صرّح بذلك، وهي نوع من العادات التي يقوم بها في كلّ حدث او شيء مهمّ في حياته متى وقع، وكأنّه يجعل لتلك اللّحظات رمزيّة خاصّة متميّزة، في مرحلة الثّانويّ ساعده الأساتذة والأصدقاء على تكوين فكر شبه متكامل، بفضل التّواصل وتبادل الأفكار والآراء، أمّا في الجامعة فصار خياله متشبّعًا وقدرة التّوليد لديه متطوّرة، وأدرك أنّ المعرفة لا تكون إلاّ بالجمع بين التّجربة الجديدة والتّراث، أي ما نسمّيه نحن بالجمع بين الأصالة والعاصرة في جانبيهما الإيجابيّ.
تأثّر بإدوارد سعيد وكافين رايلي (مؤرّخ أمريكيّ معاصر)، ونمت فيه النّزعة الماركسيّة، وبعد تأسيس المنبر الاشتراكي باتت مناقشة قضايا العالم ممكنة من المنظور اليساريّ.
يذكر المسيري دفاع أحد أساتذته (ديفيد وايمر) في الولايات المتّحدة أين درس وقتما خرج عن العرف والتّقليد هناك وكشف أنّ شاعر الدّيمقراطيّة وولت ويتمان ليس كما زعموا، بالطّبع فقد كان أصل الصّراع في الحقيقة بين مدافعين عن الدّيمقراطيّة اللّبراليّة وممثّل عن الشّيوعيّة الماركسيّة في بلد يمقت هذه الأخيرة.
من أعزّ أصدقائه الذين تكلّم معهم في الفلسفة والدّين محمّد حسين هيكل، وكان منفتحًا على تلامذته الذين أخذ منهم أيضًا، الدّكتورة هبة رؤووف، الدّكتورة جيهان فاروق، الدّكتور ياسر علوي، وكذلك زوجته الدّكتورة هدى حجازي.
أمّا عن أعدائه آنذاك فكان كلّ من يمثّل الصّهيونيّة المعادية.
كانت سنوات الدّراسة في الرّياض، بالمملكة العربيّة السّعوديّة أجمل سنوات حياته، في هذه الفترة شدّد المسيري على قوّة الذّاكرة كملمح بازر في الشّخصيّة الفكريّة، وفي كتابه "رحلتي الفكريّة" كتب قصّة حياته التي سمّاها بالسّيرة غير الذّاتيّة، ذلك لأنّها تقديم تجربة للآخرين يمكن لأيّ أحد عيشها، وكان ديوان "أغاني الخبرة والحيرة والبراءة" تكملة لكتاب الرّحلة ذاك.
كانت دراسة العمل الأدبيّ من خلال الصّورة تتمّ، أمّا مصادر المعرفة بالنّسبة له فكان كتاب المصباح و المرآة لأبراهام ماير إرامز، في تاريخ النّقد الغربيّ، كتابات نورثروب فراي، وخصوصًا قصائد ناظم حكمت التّركيّ والتي كانت مليئة يالهرطقة والكفر، لكن أيضًا بكثير من الإيمان بأنّ الإنسان حرّ نابذ للظّلم متمرّد عليه، كما تأثّر بكتيّبين للمفكّر الفلسطينيّ إسماعيل راجي الفاروقي، أحدهما يتكلّم عن اليهوديّة والآخر عن الصّهيونيّة.
تأكّد إدراكه بأنّ اليهوديّ في الغرب ما هو إلاّ إنسان ماديّ ولا دخل لليهوديّة كديانة في سلوكيّاته وممارساته.
تأثّر المسيري بعلم الاجتماع الألمانيّ، وكان ماركسيًّا في الستّينيّات، اهتمّ بكتابات روجيه غارودي، والذي كان أهمّ منظّر ماركسيّ في الغرب الشّيوعيّ الفرنسيّ قبل دخوله الإسلام.
العودة الحقيقيّة إلى الإسلام بالنّسبة للمسيريّ كانت باكتشافه في الغرب، بفضل مستشرقين كتبوا فيه وعدلوا، كذلك مؤلّفات كتّاب ومفكّرين أمثال سيّد حسن نصر، مالك بن نبيّ، فضل الرّحمن وما أخرجه المعهد العالمي للفكر الإسلاميّ، لكن كانت مؤلّفات علي عزّت بيتشوفيتش وخصوصًا "الإسلام بين الشّرق والغرب" (ترجمة محمد عدس) أكثر تأثيرًا وتوجيها لفكره.
بعد دراسة وتحليل توصّل إلى أنّ الإنسان كظاهرة كائنة هو مستقلّ عن الطّبيعة وعليه يمكنه أن يتجاوز صعوباتها ومعوّقاتها، كما يرى أنّ الشّهرة والمال من الذّنوب التي وجب تخطّيها وتركها.
يسمّي "الهيجلي المعلوماتي" الرّغبة الجامحة والتي لا يمكن كبحها في البحث الدّائم والمستمرّ عن الأفضل لبلوغ القمّة، هو أيضًا ذنب آخر بحسبه، وجب وضع حدود منطقيّة له حتّى يكون في إطاره المقبول والمشروع، كما فرّق بين "الكمال" والاكتمال"، فالكمال هو أمر محال الوصول إليه بجسد فان وعقل قاصر وإرادة تنتهي بالزّوال حين الموت، وإنّما المطلوب من الإنسان أن يبحث عن تكملة نفسه بالعلم والمعرفة وكلّ ما يسهّل به حياته ويطوّرها، وهذا ما سمّاه بـ "الاكتمال".
إعادة النّظر فيما يكتب بعد المراجعة من بديهيّات البحث والتّدقيق، إلاّ أنّ عدم الرّضا كان يلازمه رغم اجتهاده ومثابرته للخروج بالمادّة في أحسن صورة.
تكلّم عن التّعليم في مصر كنموذج، وصرّح أنّ من أسباب تراجع مستواه انطلاقًا من منتصف السّبعينيات هو الانفتاح غير المدروس والذي ترك المجال لمفاهيم ومدركات غريبة فاسدة تلوّث هذا الميدان، إضافة إلى انقلاب منظومة القيم في مختلف المجالات إثر هذا الانفتاح اللّامحدود بشروط أو قواعد، كما أنّ تراجع الاهتمام بالتّعليم كان من أسباب هذا التّقهقر، وقد رأى أنّ من بين أهمّ الحلول لهاته المعضلة أن تتمّ الاستعانة بباحثين شبّان ذوو طاقات وقدرات إبداعيّة للنّهوض مجدّدًا بالتّعليم، إضافة إلى التّخلّي عن أسلوب التّلقين وتكريس "الببّغائيّة" في أخذ العلوم والمعارف.
رغم النّقائص وسوء الحال، كانت هناك جهود معتبرة ونماذج بارزة تدعو إلى العدالة والإصلاح، أمثال السيّد عويضة المسؤول في الحزب، الدّكتور حمزة البسيوني علي صبري فرغلي، وجوزيف نادر بولص.
الفصل الثّاني - التّحوّلات
بدأت بالتّدرُّج، في مسيرة البحث عن الحقيقة وانتقاله بين كبار مفكّري عصره، بدأ يساريًّا معجبًا بالحضارة الغربيّة فصار ناقدًا لها متبنّيًا الإسلام ورؤيته للكون فهو البرنامج الكامل الشّامل لإصلاح العالم.
دراسته للحركة الرّومانتيكيّة (الرّومنسيّة) في الشّعر الإنجليزي والأمريكيّ زاد من شكوكه بخصوص النّموذج الماديّ الغربيّ، كذلك محاربته لمبادئ البورجوازيّة المكرّسة للطّبقيّة والظّلم والعنصريّة رغم انتمائه الأوّل لها، ومنه خلُص إلى نتيجة أنّ نموّ الغرب كان بالضّرورة مؤسّسًا على نهب ثروات العالم الثّالث ونقلها إلى أوروبا وأمريكا الشّماليّة.
أدرك أنّ التّاريخ لا يمكنه تزويدنا بقيم تتجاوز المادّة، فهو نفسه نتيجة تفاعل العناصر الماديّة فيما بينها، بل إنّ الأهداف الاستعمارية كانت ماديّة نفعيّة، ما أحدث الحروب والمقاومات التي صنعت جلّ أحداث التّاريخ الحديث.
من أهمّ الأعمال الأدبيّة الغربيّة التي ساهمت في نقد النّموذج الغربيّ الماديّ والتي تأثّر بها المسيري قصائد ويليام وردزورث الذي هاجم فيها القيم النّفعيّة المتوحّشة في الغرب، استمرّ على هذا المنوال إلى غاية تأليفه كتاب "الفردوس الأرضي" (نقصد المسيري) والذي نقد فيه منطق التقدّم الدّائم غير المقنّن وتسليع الإنسان.
وصل المسيري إلى الله من خلال دراسة الإنسان كظاهرة مستقلّة في ثنائيّة بينه وبين الخالق: خالق ومخلوق، كما أنّه تأكّد وانتهى إلى أنّ الإسلام أكثر العقائد ابتعادًا عن الحلوليّة وعن توحّد الخالق بمخلوقه، فمن الإيمان بالإنسان إلى الإيمان بالخالق.
ارتبط اسم المسيري بالصّهيونيّة واليهود واليهوديّة والأعمال الفكريّة والسّياسيّة على حساب أعماله الأدبيّة والنّقديّة التي رأت النّور متأخّرة، و سبب ذلك هو اهتمامه الشّديد بالحركات الصّهيونيّة والمخرجات السّياسية المتعلّقة بالقضيّة الفلسطينيّة، والمنطلق كان من إشكاليّة جعل اليهوديّة قوميّة ودينًا في نفس الوقت في مفهوم النّزعة العلمانيّة وهذا ما أوقع المدافعين عنها في تناقض، لأنّ من المسلّمات في العلمانيّة "فصل الدّين عن الدّولة" وهذا الذي برّر انهماك المسيري بالسّياسة وبالقضيّة وضرورة كشف اللّبس هذا على حساب الأدب و ميادينه.
مرض المسيري بعدها بالميلوميا (نوع من أنواع سرطان الدّم) وقد كانت ردّة فعله بالقبول والهدوء، ما جعله يفكّر مليًّا في الحياة والموت، ويحسّ أكثر بالمرضى ومعاناتهم، ما غيّر نظرته للواقع، تجارب النّجاح والفشل، القدرة والعجز، وكلّ إيجابيّ وسلبيّ بنته وكوّنته ثمّ علّمته أنّ أهمّ شيء يقاوم به مصائب الدّنيا هي الثّقة بالقدرة البشريّة بعد التوكّل على الله، والرّغبة في المقاومة للوصول إلى العطاء والإبداع.
الفصل الثّالث - الجنس، الحبّ والأسرة
المنظور الغربي للجنس متعلّق بالتحرّر بحسب المسيري، وهذا التحرّر زاد إلى أن انتهى إلى "اللّاقيد" وإلى تعرية المرأة وفضحها لجذب الزّبائن بعد استعمالها للكسب والجني في الحركة الاقتصادية، اعتمادًا طبعًا على وسائل كالمجلاّت والأفلام الإباحيّة والإعلام الحرّ، بات الجنس قضيّة فكريّة لها مرجعيّة ثابتة في المجتمع الذي يتعاطاه، بل هو مسألة إنسانيّة مركّبة، فرديّة، اجتماعيّة، روجيّة، نفسيّة وعقليّة وليس فقط إشباعًا للشّهوة بالمنظور الماديّ الغربيّ، فالحضارة الغربيّة الحديثة بحسب المسيري جلّها حضارة جسد.
سبب هذا الانفجار والتوجّه نحو التّحرّر الجنسي غير المقيّد بقيم والرّغبة في اللّذّة ودم قبول تكوين أسرة لما ينجرّ عن ذلك من مسؤوليّات اتّجاه الزّوجة والأبناء، وخصوصًا تقليص الحريّة المطلقة التي يشدوها الفرد الغربيّ، هذا ما أوصل إلى ما يسمّى بـ"السّعار الجنسيّ"، وهو الانغماس في اللّذة الجنسيّة وفقدان المعنى واليقين.
من الأسباب أيضًا غلبة التّوجيه الماديّ بمختلف الوسائل الإعلاميّة على الطّبيعة البشريّة والإحساس الطّبيعي بالخطأ والصّواب، تغييب الفطرة وتعويضها بهذا التّوجيه المقنّن والمخطّط له حتّى فقد الإنسان بوصلته الفرديّة وطالب بهذا التّوجيه خوفًا من الضّياع فضيّع به القيم والأخلاق، وظهر على إثر ذلك ما يسمّى بـ "الجنس العابر أو العرضي"، جنس فيه استهلاك خارج عن ماهيته الطّبيعيّة، فحضارة الجسد حوّلت المرأة إلى مجرّد شيء يتمتّع به الرّجل، وحتّى حركات تحرير المرأة لم تعارض (مشارة في هندسة هاته السّياسة)، بحسب المسيري، تأسيس الأسرة يتطلّب الإحساس بالمسؤوليّة وهذا الذي فقده الفرد الغربيّ.
الفصل الرّابع - الثّقافة والأدب والفنون
بحسب المسيري العمل الأدبيّ ليس مجرّد وثيقة فكريّة أو اجتماعيّة، بل بناء له حدوده المستقلّة ومنطقه الخاصّ وقوانينه، بحيث لا يمكن تجاوز ثنائيّة الواقع الإنسانيّ في مقابل الواقع الأدبيّ، تأرجح مفكّرنا بين السّياسة، الفكر والأدب، وانتهى إلى إمكانيّة الفصل بين حداثة الشّكل وحداثة المضمون في المادّة الأدبيّة العربيّة، كون يمكن ان نعبّر بلغة حديثة وألفاظ مستحدثة عن بيئة قديمة أو مندثرة، و العكس، يمكن توظيف لغة من الأثر العربيّ الأوّل (كالشّعر العموديّ المنطوق بالعربيّة الرّاقية شبه الخالية من التّدجين) للتّعبير عن رغبات آنيّة متعلّقة بالزّمن الحاضر، كما أنّ حريّة الإبداع والتّعبير ليست مطلقة، فالمطلق نوع من أنواع العلمنة الشّاملة، تستخدمها هذه الأخيرة لتحقيق أيديولوجيتها وأجندتها.
للاستعمار أيضًا دور في الغزو الثّقافيّ الغربيّ، فعلى كلّ واحد أن يقاوم هذا الغزو في مجاله الذي يبرع فيه، كما أنّ مشاركة الأثرياء في تخصيص جوائز للأعمال الأدبيّة والفكريّة أمر ضروريّ لمواجهة هذا المدّ ولتشجيع الشبّان على الإبداع وعدم الانجراف أمام المغريات الغربيّة والتمسّك بالثّقافة العربيّة والدّفاع عنها.
للترجمة دور مهمّ في النّهضة الأدبيّة والفكريّة، والانفتاح على العالم بحذر قصد الاستفادة من التّراث الحضاري والثّقافي والفكري للحضارات العريقة دون الوقوع في شراك العولمة الحديثة.
بحسب المسيري، ينقص التّرجمة العربيّة الأمانة في نقل المفهوم والمضمون، حاملاً نفس الشّعور والإحساس بتلك الكلمات (في ميدان الأدب وخصوصًا الشّعر)، أمّا الكتابة بلغة غير اللّغة العربيّة فبالنّسبة له ليست مشكلاً طالما أنّ المضمون خادم للثّقافة العربيّة وقيمها الأخلاقيّة والدّينيّة، المشكلة فيمن يتكلّمون ويكتبون بالعربيّة ويحملون أفكارًا غربيّة سامّة ينشرونها في أوساط المجتمع خدمة للغرب بلغة العرب.
المسيري ومنذ صغره اهتمّ بالفنّ، إلاّ أنّه تعرّف على الفنّ الغربي الحديث قبلاً، أحبّ – على حدّ قوله- الاستماع إلى الموسيقى العربيّة والغربيّة الكلاسيكيّة واهتمّ بالطّبيعة أيضًا.
أجّل الكتابة الرّوائيّة بسبب انشغاله بالسّياسة والفكر، نقد أفلام الكرتون الأمريكيّة التي تروّج للعنف والكراهيّة، ووجّه طفليه توجيهًا مخالفًا قصد غرس القيم الإنسانيّة الحضاريّة الإسلاميّة فيهما، بنقل المعارف المفيدة بلغة يفهمونها ويدركونها، فالطّفولة العامّة العالميّة لا وجود لها، لأنّ كل مجتمع يكوّن ويُخرج أطفاله بحسب ما يطمح إليه في المستقبل.
الباب الثّاني - الفصل الأوّل - المنهج
كما عرّفه المسيري، هو مجموعة من إجراءات البحث، أدوات يستخدمها الباحث لتفسير ظاهرة ما، من شروط بناء الرّؤية المنهجية أن تكون نابعة من إدراكنا السّليم لهويّتنا والأبعاد العرفيّة والوجوديّة في تجربتنا، مع الابتعاد قدر المستطاع عن الاقتباس والأخذ غير المدروس وتطبيق تلك المناهج بشكل مباشر في نشاطاتنا أعمالنا.
من المهمّ أن نذكر نوعين من أنواع الخطاب الذي ذكرهما المسيري في حواره، فـ "الخطاب التّعبويّ" هو خطاب موجّه لتعبئة الجماهير دون تفسير الظّاهرة التي عُبّئوا لها أو ضدّها، أمّا "الخطاب التّفسيريّ" فهو الذي يتّسم بالوضوح والتّفسير -دون تأليب النّفوس وشحنها- للوصول إلى حقيقة الأمر، و هذا الأخير هو المطلوب، كما أنّ إطلاق الأحكام القيميّة (عمل جيّد، مفيد، نافع، ناقص، يحتاج اجتهادًا...) على الظّاهرة المدروسة لا يكون إلاّ بعد تفسيرها وتحليلها وإبراز الإيجابيّات والسّلبيّات التي تكتنفها، وهذا له الأثر البالغ في البحث العلمي ومنهجيّة البحث.
ما يذكر من "الحقائق الكاذبة" والتي هي حقائق صحيحة موجودة غير أنّها ليست كاملة، تفتح المجال لكلّ التّأويلات الممكنة، ولربّما تكون أغلبها خاطئة، وقد ضرب المسيري مثالاً على ذلك بالآية الكريمة:
(لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ )، ونتوقّف عند هذا الحدّ الذي يكرّس فهمًا خاطئًا للآية المبتورة من التّتمّة، فلا يكتمل معناها ولا يُفهم كما أريد للآية أن تُفهم إلاّ بعد ﵟوَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰﵞ، فهذه الطّريقة التي يتمّ بها التّلاعب بعقول النّاس قد طبّقت فيما يخصّ القضيّة الفلسطينيّة والتّواجد الصّهيوني في فلسطين.
العقل كما وصفه المسيري كيان توليديّ، وليس وعاء ماديّا، وهاته فكرة أساسيّة في المنظومة الإسلاميّة، تؤثّر مباشرة على المنهج، فالباحث مطالب بالخروج من الفكر المضمونيّ (الجزئيّ المحدّد في موضوع واحد أو ظاهرة واحدة)، فإن خرج عن هذه الحدود ضاع بين العلوم والمعارف، ولا يستطيع توسعة المفاهيم لتشمل أخرى مشابهة أو مساوية لها، فالرّؤية الجديدة للمنهج تستلزم الإبداع والتّنوّع، والتّعميم والتّجريد مهمّان بالنّسبة للفكر، لأنّه من المستحيل أن نصل إلى كلّ النّتائج بتجربة كلّ ما هو موجود في هذه الدّنيا كلّ أمر على حدة، وبهذا ما يعارض المنهج التّجريبي البحت والذي لم يعد يفي المعرفة حقّها.
الفصل الثّاني - الخريطة الإدراكيّة والنّماذج
هي صورة في عقل الإنسان تعكس له الواقع بحسب فهمه له، من خلالها يرتّب المعطيات التي تأتيه، يسمّى أيضا بـ"النّموذج الإدراكيّ"، والذي افتقر الغرب لأدواتها، فغلب الجهل ونقص المعلومات وطغت المصالح الإستراتيجيّة على الرّغبة في فهم العالم العربيّ الإسلاميّ، وهذا أمر مفتعل، لدفع الحركة الاستعمارية قدمًا بمساعدة الإعلام ودوره في "التّعبئة الجماهيريّة" ضدّ العرب والمسلمين، هذا الإعلام الذي يؤثّر من هناك فيجعل إعلامنا نحن تابعًا له، ينقل ما يقول دون إعمال عقل، هذه التّبعيّة الإدراكيّة تأثّرنا بها كثيرًا على حدّ قول المسيري. ولن يتغيّر هذا الواقع إلاّ بعد تخطّي هاته الخريطة وتبيين قصورها، فكلّ فعل إنسانيّ بعده المعرفيّ الذي يؤثّر على النّاس إيجابيًّا أو سلبيًّا، كما تكلّم عن صياغة النّموذج الذي يبدأ بفترة ملاحظة طويلة للواقع، استجابة له، معايشته، التّفاعل معه، دراسته، التّأمّل فيه ثمّ تجريده للوصول إلى خطّة يتمّ اختيارها وإثراؤها ثمّ إعادة اختبارها للوصول إلى الهدف المنشود، كما ميّز بين ثلاثة أنواع من النّماذج:
"المثاليّ"، والمتضمّن الكمال في كلّ شيء، غي ممكن في أرض الواقع لعجز القدرة البشريّة على تحقيقه، ثمّ "الفعّال"، وهو الذي يطبّق في أرض الواقع ويتعامل به النّاس، وأخيرًا "الفرديّ" وهو المنهج الذي يتفرّد به مجموعة من الأفراد يخالفون فيه من اتّبعوا المنهج الفعّال.
الرّؤية الانتقالية (الترانسفيريّة) أثّبتت على المجتمع الأمريكيّ سلبًا أكثر من تأثيرها إيجابًا عليه، كونه مجتمعًا ماديًّا فصارت المعاني والمفاهيم تصبّ في وعاء المصلحة الذّاتيّة، كانتقال مفهوم "البيت" من كونه مأوى تجتمع فيه الأسرة لتنعم بالدّفء والأمان مع استمرار كينونته، إلى "مشروع استثماريّ" يمكن بيعه وشراؤه متميّزًا بالتّحوّل وعدم الثّبات، وخصوصًا تناسي قيمة الأسرة وضرورة الاستكانة لضمان استمراريّتها.
الفصل الثّالث - التّحيّز والمصطلح
على المستوى اللّغوي، تظهر إشكاليّة التحيّز في عدم وجود لغة واحدة تحمل كلّ المعاني الإنسانيّة والحضاريّة الموجودة في الواقع ممثّلة لها بمفرداتها، وعليه وجب احتيار لغة و"التحيّز" لها متى وفّرت لنا إمكانيّة التّعبير عن الواقع بكفاءة متى تطلّب الأمر ذلك، التغيّر السّريع، التطوّر والحداثة تفرض ذلك على البشر.
وجب إخضاع النّفس وما حولها للتّحليل والتّفسير قبل إصدار الأحكام النّابعة من مفاهيم معيّنة، كما أنّ المشكلة هي في نقل مقولات ومصطلحات ومفاهيم الحضارة الغربيّة دون إدراك للنّموذج الكامن فيها والهدف منها، كما أنّ للتحيّز أنواعًا، فطبيعيّ ماديّ على حساب الإنسانيّ، ومحدود على حساب اللّامحدود، والبسيط والواحديّ على حساب المركّب والتعدّديّ، ثمّ الموضوعيّ على حساب الذّاتيّ.
ما يؤخذ علة مفهوم التقدّم الغربيّ هو ارتباطه بالماديّة على حساب الإنسانيّة والطّبيعة والبيئة والمحيط، إنّها غلبة النّزعة الاستهلاكية بحسب المسيري، كما أنّ خطورته الكبيرة تكمن في كونه مستمرًّا غير نهائيّ موجّه توجيهًا ماديًّا وحسب، وهذا الذي أثّر على مجتمعاتنا الإسلاميّة أيضًا فباتت تعيش مرحلة تبعيّة استهلاكيّة مرعبة، سواء بدافع الضّرورة في مقابل ضعف الإنتاج المحليّ، أو تفاخرًا وأبّهة – كما ذكر ذلك ابن خلدون في مقدّمته، أنّ المغلوب أبدًا مولوع بتقليد الغالب)، وهذا الأمر أبعد الشّعوب المسلمة عن ارّوحانيّة وأغرقها في الماديّة، الحلّ هنا هو البحث عن مؤشّرات للتقدّم أكثر إنسانيّة بإحلال مفهوميّ "التّوازن" و"العدل" بين النّاس عوض التقدّم الماديّ.
لا يمكن تجاوز التحيّز (الميل لجهة أو لنزعة أو للغة أو لثقافة معيّنة) بشكل كامل، وإنّما وجب توجيهه ثمّ التخلّص من الإحساس بمركزيّة الغرب، ولا يكون ذلك إلاّ من خلال دراسة الحضارة الغربيّة لإيجاد حلّ يحرّرنا من هذه القيود التي تربطنا بهم، هذا لا يعني نبذ الانفتاح، وإنّما الانفتاح يكون على شكل حوار وتفاعل مع كلّ الحضارات وليس الغربيّة فقط، ومنه نأخذ النّافع ونترك الضّار، وذلك بعد إدراك الإنسان هويّته وتراثه ومشروعه الحضاريّ النّابع من تاريخه وحاضره وتطلّعه للمستقبل.
المصطلح كما عرّفه المسيري هو ما اتّفق عليه جماعة من النّاس ليدلّ على شيء، يعبّر عنه بواسطة كلمات (في اللّغة) يفهمونها ويدركونها، فهو يعكس طبيعة المجتمع وأفكاره، والمشكل الآخر هو استيراد المصطلحات وعدم توليدها، كما أنّ هذا الاستيراد يكشف معضلة أخرى في ترجمته، فوجبت بذلك معرفة مدلول المصطلح وكلّ المؤثّرات التي حوله، وهكذا تغلغل المصطلح الصّهيوني في خطابنا نحن، فصرنا نقول – كما قال المسيري- "الشّعب اليهودي" و"اليهود" بدل "الصّهاينة"، ونقول "مستوطنة" المشتقّة من كلمة "وطن" و "موطن" عوض توظيف الأصل الذي هو "مستعمرات استيطانيّة"، وهذه صورة من صور التّطبيع والقبول، الحلّ هو دراسة المصطلح الغربي في سياقات وروده الأصليّة ومعرفة مدلوله تمام المعرفة وتوليد (إنتاج) مصطلح من داخل المعجم العربيّ لا يكون ترجمة حرفيّة له بل تعريفا للظّاهرة تلك من وجهة نظرنا نحن.
الفصل الرّابع - المجاز والحرفيّة
الصّور المجازيّة ليست زخارف بل وسيلة إدراك بطريقة مختلفة أكثر جماليّة، النّصوص الدّينيّة بذاتها فيها مجاز لا يُدرك إلاّ بهذه الطّبيعة المجازيّة دون تحويلها إلى مدلول حرفيّ.
نبع سوء فهم في التّمييز بين "الحرفيّة" و"الأصوليّة"، فالحرفيّة جعل الوصول إلى المعنى سهلاً مباشرًا، صريحًا لا يستدعي إعمال العقل كثيرًا لإدراك المدلول، أمّا الأصوليّة فدعوة إلى العودة إلى الأصول ومحاولة تفسير اجتهادات الأوّلين والصّالحين تفسيرًا حديثًا يعتمد على النصّ والعقل السويّ، ما يجعله يتجدّد كلّ عصر دون أن تغيّر أسسه ومبادئه.
التّفسير الحرفيّ للنّصوص يعكس أزمة حضاريّة تتعلّق بمحاولة اللّحاق بالغرب وفقدان الثّقة بالنّفس.
الصّهيونيّة المعروفة هي يهوديّة فُسّرت حرفيًّا فأدّى ذلك إلى علمنتها بحسب المسيري.
يمكن استخدام المجاز في المجالات السّياسيّة (الخطب السّياسيّة والمقالات)، بل ذلك يعزّز أثرها في المتلقّي.
الفكر الماديّ يرى المنهج على أنّه قوانين تنظيميّة بين أفراد متناحرين، لهذا تشبّه الدّولة بالتنّين الذي يبرم معه البشر عقدًا حتّى لا يؤذيهم، ويوفّر لهم قدرًا من الأمن ليعيشوا.
المفكّرون العرب استخدموا المجاز للتّعبير عن رؤيتهم المركّبة، وضرب لنا المسيري مثالًا على ذلك بالمفكٍّر جمال حمدان الذي أقرّ أنّ الوجود اللاماديّ (قيم العروبة والإسلام) أكثر استقرارًا ودوامًا من الأثر الماديّ (ما تركه الفراعنة من أهرامات وتماثيل وآثار) وهو الذي يمثّله بالفعل.
تغريد
اكتب تعليقك