قراءة في رواية «نشيج الدودوك» لجلال برجسالباب: مقالات الكتاب
إبراهيم الحمزي اليمن |
الكتاب: "نشيج الدودوك"
المؤلف: جلال برجس
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
سنة النشر: 2023
عدد الصفحات: 224 صفحة
ضجيج جواني
من هروب النوم إلى حكايات الجدة، هكذا بدا الضجيج الجواني للكاتب جلال برجس في روايته نشيج الدودوك، علمًا بأن الدودوك هي آلة موسيقية أرمينية، الأرض التي ارتبطت بمخيلة الكاتب منذ البداية وما نشيجها إلا ضجيج دفعة نحو عوالم عديدة، عالم التساؤلات العميقة التي ليس لها أجوبة سوى في الاستماع إلى موسيقى الحياة، موسيقى الحيارى الذين يتوسدون الليل دون أن تغمض لهم عين، يستمعون إلى حكايات الجدات التي هي بمثابة خيوط تتسلل منها أرواح باتت تحت الثرى لكنها لم تموت من الذاكرة، أنين الليل وصوت نباح الكلاب يقودان الكاتب للاستماع إلى صوت الضجيج الذي يسامره، هذا الضجيج الذي هو رمز للانطلاقة نحو مسارح الإبداع في مسيرته الأدبية، طيور شلوى وفريستهم كانت مليئة بمواعظ الجدة وحكمة القدماء الذين يقدمونها بطريقة سرد عجيبة، رغم أنهم لم يقرأوا لكتاب الأدب العالمي لكنهم موهوبين بالفطرة، المبدع يسافر بخياله حتى ولو كان قاعدًا على شجرة، بدأت فكرة أديبنا الكبير بملاحظات ملموسة دفعته للرحيل نحو عالم القراءة ثم الكتابة والسفر، يقول في الصفحة الثالثة عشرة "وقتها شعرت بأن المسافر يحمل معه ما أراد من الحقائب لكنه لا يحمل معه كامل حزنه" ربما المعاناة هي السبب الأول للإبداع، الحزن، الألم، مرارة الفراق، السفر نحو المجهول، التجارب المليئة بالقسوة التي تبعث الفن من أقلام الكتاب، هكذا كان ضجيج جلال الجواني، الذي دفعة للرحيل، الرحيل عن الأماكن المألوفة لتجربة السفر عبر طرق الحياة المتعرجة.
اعترافات على كرسي المتوسط
كطائر حزين يهطل بانغامه الموسيقية، يبدأ الكاتب بوصف حُزنه الداخلي، والأسى الذي ينبثق من رمادية الغروب، هكذا وصف يوم ميلاده، في شهر حزيران لعام 1970، اليوم الأول الذي لامس فيه الحياة التي كانت على خلاف ما توقعها، حياة مليئة بالحزن والمعاناة واحلام أصبحت بلا أهمية، الحلم الوحيد الذي يراوده أن يعود إلى مسكنه الأول، المسكن الذي يحتوي الإنسان بدون مقابل، الرحم، رحم الأم الذي نكبر فيه لنشعر فيما بعد لو كان لنا القدرة على الرجوع اليه لرجعنا، اذا كانت الأرض لا تتسعنا الآن فكيف سيتسع الرحم أحلامنا ومطامعنا وتطلعاتنا وأفكارنا وارتباكنا وأوهامنا، إنه شرود الزمن وغوغائه الحياة التي تكشر أنيابها في وجوه المخلوقات، لكن قلم الكاتب كان أعظم من رسم الحياة ولم ينحني أمام أثقالها، ومع القلق الوجودي، لا يلبث الكاتب إلا أن يسافر نحو طرف أفق لن يصله كما يقول، كانت وجهته الجزائر ورواية الغريب العدمية التي تثير العبث وتكتض بالأسئلة، تلك الرواية التي هي غربة عن الروح وعدم الانتماء للأم، يستلم رسالة وفاة والدته دون ردة فعل، إنها الغربة عن الذات والتخلي عن كل ما يربط الإنسان بماضية وحاضرة وأمومته وطفولته.
لا يلبث جلال إلا أن يربط بين المعاناة والكتابة، يتضح أكثر أن الكتابة ماهي إلا نشيج لبكاء الأعماق، صوت الضجيج الجواني الذي شعر به في بداية لأمر "في الكتابة أشير إليّ وإلى العالم ونحن في خضم عاصفة من التيه" إنه القلق والخوف الذي يسكن الإنسان، الكاتب كائن قلق وخائف، والروح تدفعه إلى البحث عن الحقيقة في السفر والترحال.
سافر جلال يبحث عن الأسرار، واسئلة الوجود، أقلعت به الطائرة ليجد نفسه أمام فتاة تمتم بالدعاء، ذاهبة من أجل الدراسة في بريطانيا، احتمت به من خوف السفر إلى المجهول، فكان لها المرشد الذي يبحث عن نفسه أولاً، وما لبثت الفتاة حتى أدلت سؤالها لما صرت كاتبًا؟ ليقول لها "أنه العازف الذي يعكف على حلم بنهار جديد، إنه من ذلك اليوم يشع موسيقاه في داخلي".
رافقه في السفر إلى الجزائر ميرسو في رواية الغريب، يفكر بعبثية كامو وإيمانه باللاجدوى، ثم يفكر ماذا لو لم يكن كاتبًا ليجب عما تدور من أسئلة الناس حول الكتاب "لو لم أكن كاتبًا لكنت مطمئن، أنفق أوقات حياتي مستمتعًا" الكتابة تولد الحزن، إنه أمر خارج عن إرادة الكاتب، أن تكون كاتب هو أن ترى ما لا يرى العامة، ولهذا سيظل الحزن يرافقك في الطرقات والمسافات والسفر والأطلال والاغتراب.
لا يهدا الحنين إلى "حنينا" الأرض التي نشأ وترعرع عليها، يعود إليه مرة أخرى ليصف لنا النساء والقهوة وحكايات الجدة والضيف وكيف يكون للقهوة معاني عدة عند البدو، وكيف لنظرة إلى جسد المرأة العاري التي وقف أمام طفل لا يعلم ما سر هذا الجمال بالألم والوجع واللذة وما علاقة الشعراء بمفاتن النساء، وكيف لجسد امرأة أن يشكل جغرافيا بديعة مكتظة بالحنين والمشاعر والشعر. ومازالت تلك المرأة ترافقه في خيالات المراهقة، يمسك بالقلم فيراها أمامه على السطر كما لو كانت حقيقة، النظرة الأولى للطفل لا تغيب، تبقى صورتها معلقة على جدار الذاكرة، كلما ذكرت المرأة أمامه، تذكرها بكل التفاصيل.
اتجهت به الطائرة إلى الجزائر ورفيقة الوحيد الغريب وعدميته، وضجيجه الجواني الذي يدفعه نحو تساؤلات وحيرة "الحيرة هي الصوت الذي يهمس لي بأن لا حلول سوى انتزاع الكلمات من مراقدها السرية، وزراعتها في أرض الورقة لتصبح أشجارًا في حقول الأخرين" هذه هي حيرة الكاتب التي ليس لها حلول سوى ترويض القلم للكتابة.
الضجيج الداخلي للكاتب، حط رحالة في الجزائر، وبحث هناك في المطار عن مكان قصي يدخن فيه حزنه وألمه حتى أصيب بالدوار من فعل الدخان، اتجه مع السائق إلى الفندق، ليحل في الطابق الرابع، حيث نام حتى المساء ووضع كل تعبه في حوض استحمام بارد ثم ذهب لإعداد فنجان قهوة وسيجارة وقعد هناك على الشرفة يشاهد حب ناضج في أوج تفتحه، وما يلبث حتى يخبرنا بأن الكتابة ماهي إلا وسيلة للبحث عن الحب فيقول "إن وقعنا في الحب، فإننا نسعى إلى لؤلؤة لها أن تدحر العتمة بجسارة كبيرة، وفي الكتابة أحلم بتجاوز الهوة، والمضي في طريقي نحو اللؤلؤة".
لقد كانت الحياة بشكل عام للكاتب مسرح عظيم يحتمي منه بالقراءة، حزن غائم يقتم في روحه يدفعه لتحويل المحسوسات إلى قصيدة والأماكن إلى روايات، يبحث عن السكينة في الحبر لكنه لم يجدها ليظل يصارع الحياة والقسوة، وبما أن روح الشاعر والكاتب مرهقة ومرهفة يصبح كما لو أنه كائن سقط من حيث النقاء، يحس بما لم يحس به الآخرين، ويرى الناس والأشياء من زاوية غير متوقعة. لكن لكل هذه الهالة العظيمة مازال جلال هو ذلك الإنسان المتواضع الذي يجيب عن أسئلة القراء في المعرض بكل حب، ويخاف لو ينتابه جنون العظمة والغرور، وما هذه إلا شرف يتشرف به الكاتب.
يعود بنا جلال إلى حكاية جدته عن تحول الإنسان إلى نجم في كبد السماء بعد موته، ليثير أسئلة أرقت الطفل وظلت محبوسة في عقله لكي لا ينال عقاب ما، حضر جنازة رجل وهو يفكر هل ذلك الرجل سيصبح نجم لامع في السماء، وماهي العلاقة بين النجوم والأموات، هي اسئلة وجوديه بمعاني مختلفة ليس لها أجوبة غير الأجوبة الدينية التي تظل مانع بين الإنسان وفكره، أصبح عروة ابن الورد، ببنطاله الممزق وفروسيته وسيفه الذي أصاب به ابن عمه، ونقاءه قلبه ودهائه من حفظ الأبيات الشعرية من المرة الأولى.
يعود مرة أخرى الكاتب لتوضيح ما دفعه للتعليم ويقول "امران جعلاني أتعلق بالمدرسة: الأول لأقرا القرآن لأمي التي لا تعرف القراءة ولا الكتابة والثاني لقراءة مكاتيب عمه المغترب. ربما جميعنا نتشابه في الأمر، وجميعنا تعلم من أجل والدته، أتذكر أمي عندما بدأت المدرسة في سنتي الأولى قالت لي: تعلم القراءة من أجل أن تحفظني القرآن. تعلمت القراءة لكن ذاكرة أمي أصبحت تخونها، حاولت أن أحفظها لكنها كانت تنسى كما نسيتنا الأيام والحياة. من أول يوم في المدرسة إلى أول كلمة تعلم نطقها ولملمة حروفها، إلى أول حقيبة حملها ممتلئة بأحلامه، وإلى أول رسالة ومكتوب قرأه، حتى وصل إلى أول طبشور تناوله وبدأ يكتب على الجدران، ينقلنا جلال من الجزائر حتى الطفولة، لا يلبث إلا أن يروي لنا كيف تشكلت خارطة ذهنه واكتسبها حرفًا حرفًا لتصبح قصيدة ورواية بحجم دفاتر الوراق. لقد كانت نفسه تواقة إلى السفر، قلقة في المكان الجغرافي الواحد، يقول "كلما رأيت طائرة تحلق في السماء تجتاحني قشعريرة ورغبة جامحة في اجتياز المسافات نحو أماكن بعيدة.
يعود بي جلال إلى حنينا، وذكريات المنزل الأول، البيت السابق الذي أصبح كومة أحجار وحنين معلق في ذاكرته، الحداثة العمرانية لا تعني النسيان، يظل هناك ركن دافئ لمنزل ترعرعت فيه الأحلام وسقيت في أركانه الأمنيات، عاد عمه عزيز مع امرأة مختلفة، امرأة شقراء، أصبحت تحفة فنية في قارئة محافظة، أصبح الحديث عنها على السنة أهالي القرية، عاد عمه إلى الأبد بسبب موقفه السياسي، ليعيش في عزلة وقسوة وما لبث أن نصح جلال برواية البوساء التي قال عنها "لقد جعلتني مواضبًا على قراءة أفضت بي إلى كتابة منحتني جناحين لأصعد إلى رأس الشجرة، ومن ذلك اليوم واضبت على زيارة المكتبة العامة وبت في أول طريق الإدمان للكتب وملمسها ورائحتها، وكلماتها". فقد كانت القراءة بمثابة الدواء للكاتب لطرد ضجيجه الجواني وكذلك من أجل أن يزيد شغفه بالمدن والناس الذين تحكي عنهم الروايات والكتب. وبعد أن أكمل المدرسة فقد كان راعي للغنم بشكل مؤقت، إنه الوحي الذي يشبه وحي الأنبياء، الوحي الذي دفعه إلى تأمل الحياة والكون والفلسفة والطائرات ليحلم بالسفر والترحال والكتابة والحياة.
بعد جولة مع عائشة في بعض المناطق الجزائرية، وشواطئها ومعزل البير كامو، أخذنا بنقلة سريعة على الطائرة التي كانت سبب في عودته إلى الله، لقد عرف الله في وقت أصعب مما توقع، عند الموت، يعود الإنسان إلى فطرته، إلى اليقين الذي يبحث عنه، عاد إلى الفندق ليلملم جراحه وحزنه ويغادر الجزائر.
محاولة جادة لأول درس بمزاج إنجليزي
اتجه من الجزائر نحو بريطانيا ثم عاد بنا مرة أخرى إلى المدرسة والقرية وسيرته وولعه وشغفه الذي لا ينتهي مع القراءة، ترك واجباته المدرسية وذهب يقلب صفحات خياله وروايته وكتبه ويكتب رسائل حب لم تصل إلا في وقت متأخر، ويرسم قلوب في منتصفها سهم موجه إلى أمنية لم تتحقق كما تحققت لزملائه في المدرسة، كتب رسائل لزميله لتصل إلى امرأة التقت به في إحدى المكتبات في وقت متأخر من سنة 2015 لتقول له "انتظرت أن تسلمني رسائلك بيدك، لكن العمر مضى ولم تأتِ".
كل الأسئلة في ذهني أجاب عنها الكاتب في نشيج الدودوك، وأنا أقرأ الرواية راودنا سؤال هل الكتابة هروب من خوف خفي يلازم الإنسان؟ وبعد قراءة مطولة وجدت إجابة السؤال قائلاً "انا اكتب لأنني خائف، خائف من كل عواصف الفوضى وما يستحسنه القراء عندي هو مجرد احتماء بالكلمة".
تخرج من المدرسة بمعدل جيد، إرادة والده كأي أب يتمنى أن يكون ولده دكتور، أرد أن يدخل كلية الطب لكنه قرر ان يذهب إلى الجامعة العسكرية ولم يقبل. وأنت تسير معه في الطريق إلى كنغتنون تشعر بحاجة ملحة إلى الموسيقى، إلى فن يبدد ملل الطريقة وضجيج الآلات، بدا يستمع إلى مقطوعات شوبان، بعد خسارته الأولى في دراسة الطب قال: "كدت أن أهوي إلى القاع لولا الكتابة" ويوضح أكثر أنه لم يكن يخطط أن يصبح كاتبًا، كل ما في الأمر أنه أراد أن يرتاح من ثقل الشعور بعد أن يكتب ما يريد قوله "رأيت الصفحة يد تقتلع أشواكًا من دواخلي فتعفيني مؤقتًا من الألم". تخصص في هندسة الطيران، رغم أنه لم يحلم به وقد كان هذا التحول الأعظم في مسيرته نحو عالم الكتابة، التحق بالتدريب العسكري الصارم، وتدريبات شاقة، تعرف على أناس شاركوه لياليه الموحشة ومع كل هذا فقد كان يدون يومياته رغم كل العمل الشاق والتعب المتواصل أثر التدريب، وذهب لكتابة أول رسالة إلى عائلته ليتعرف على صديقه علي الشنيتات الذي أصبح رفيقه في الشعر والكتابة.
ذهب إلى ويلز، تحديدًا (راندور) وفي يديه رواية موسم الهجرة إلى الشمال الطيب صالح، يقرأ فيها مصطفى سعيد الذي يبحث عن الانتقام من المستعمر الذي ترك في أعماقه بقع مظلمة، تلك البقع التي دفعت النساء إلى الانتحار بسببه وإلى قتل زوجته التي كانت تمثل الحضارة المستعمرة بنسبة لمصطفى، ذهب جلال إلى ويلز لتعلم مبدأ جديد في الهندسة، لكن تأمله في الطبيعة وفي العشب والسماء والسحاب والأرض والينابيع والأنهار والصفاء والسكينة، لقد كان يبحث عن إجابات الأسئلة التي تحيره، أسئلة إنسان أتى من صحراء مترامية الأطراف واسعة كسعة مخيلته التي دفعته للسعي وراء الشمس لينظر إلى مسكنها خلف الجبال الشاهقة.
تعرف الكاتب على (مارغريت) التي أحبت رجلاً بعد طلاقها من زوجها الأول الذي أنجبت منه بنتًا، كانت تقرأ هربًا من الماضي والحاضر الذي حاول فيه الرجل أن يقتل ابنتها، بعد أن يترك الكاتب السيدة يعود إلى توضيح مهمة الرواية، أو القراءة بشكل عام ويقول: "إن من مهمات الرواية الكبرى أن تجعل قراءها يبنون روايتهم الخاصة ويستعيدون حيواتهم، نحن لا نقرأ لكي نتسلى، نحن نقرأ لنعثر على أنفسنا، فنستمر مؤمنين بالحياة والحرية" لتعود له مارغريت قبل أن يسافر ناحية لندن وتدلي له بحكمة أن شيئنا تسميتها أو ربما قاعدة حياة، قالت له: "هذه الحياة مثل الكلب أن خفت منه هجم عليك وآذاك، وأن لم تخاف منه يصبح صديقك الودود ". اتجه ناحية لندن تاركًا خلفه الضباب والهدوء والغيوم والاخضرار والبرد القارس والحنين إلى السكون.
وهو يؤدي واجبه العسكري تحولت غرفته في الصحراء إلى مكتبة، وأنت تقرأ (نشيج الدودوك) يتراءى أمامك جدول للقراءة وضعه الكاتب، بدا بالأدب الروسي من الكاتب ديستوفيسكي مدرسة النفس البشرية، تمر في الغرفة فترى أشعار وعبارات كتبها بينما هو يستمع إلى محطات الإذاعة، ثم إلى أول رواية كتبها اسماها "الحالة" والتي اعتبرها تمارين غير ناضجة جعلته يقلع عن السعي إلى كتابة الرواية وزاد من نهمه إلى القراءة. منحته الصحراء عزلته عاش فيها ما عاشوا الأدباء والكاتب السابقين، لقد جعلته يستمع إلى ضجيجه الجواني الذي دفعه إلى الكتابة التي عبر عنها بأنها يد كونية حمته من السقوط، لقد صقلت الصحراء مخيلته وتأمله وفكره وعوالمه ليبتكر عوالم تقف بوجه قسوة الصحراء فحول الألم إلى قصائد وحرارة الشمس الملتهبة إلى نساء عرايا يرقصن وسط غابات خضراء من وواحات ممتدة كامتداد خياله ورواياته.
شارك اول قصة قصيرة في أحد نهارات 1994 في رابطة الكتاب الأردنيين بعد أن قرأ إحدى اعلانات المسابقة في الجريدة، لقد دفعه أمله إلى المشاركة واستحق إثر ذلك شهادة احتفى بها ليعود إلى رئيس الرابطة مونس الرزاز محملاً بقصصه المكتوبة بخط يده، كان خائف من خيبة الأمل الأولى التي يخاف أي كاتب منها، إلا أن الرزاز كان له اليد الأولى في زرع الأمل في روح جلال ليقول له: "الكتابة مغامرة، والمغامرة بحاجة إلى جرأة كبيرة، فكن جريئًا وكن حرًا "لقد ربط بين الحرية والكتابة وكأنه يوضح بأن الكتاب هم وجه الحرية، هم الذين يعلمون كيف تأتي الحرية، لكنهم يعيشونها في الكتب والمخيلات، أما واقعنا العربي من البحر إلى البحر أصفاد وقيود.
يعود بنا جلال مرة أخرى إلى لندن المدينة التي لا مجال فيها للملل، مدينة حيوية، ذهب الى مقهى (Yellow Submarine) وبصحبته مصطفى سعيد وموسم الهجرة إلى الشمال، يتفحص الحزن الساكن في أعماق مصطفى سعيد ويميط اللثام عن فوضاه الداخلي وموسيقى روحه المنبثقة من الأفق، ليجد نفسه أسير بشكل موجع في فوضاه الداخلية لينتحر في النيل كما وضحه الراوي ويظل الطيب صالح بالبحث في أوراقه ومقتنياته ليفتش عن السر ويحاول الانتحار هو الآخر، لقد ذهب بي جلال إلى البحث في أعماق موسم الهجرة إلى الشمال بجانب البحث في أعماق ضجيجه الجواني الذي مازال يدفعه إلى الكتابة والكتابة.
كأي كاتب صاعد كان يحضر الندوات والأنشطة الثقافية، لكنه كان نهم في الاستماع والتدوين وخجول في طرح الآراء والمشاركة، جلوسه مع جمال ناجي ومناقشة أفكار (غاستون باشلار) وكيف غادرو الطفولة، لم يعيره جمال ناجي الاهتمام في تلك الليلة حتى اتصل به في عام 2015 يمدح روايته (أفاعي النار) ثم صاروا أصدقاء ليعتذر له عما حصل في بيت الشعر الذي لا يتذكر الحدث تمامًا. يعود بنا جلال مرة أخرى إلى لندن المدينة التي لا مجال فيها للملل، مدينة حيوية، ذهب الى مقهى (Yellow Submarine) وبصحبته مصطفى سعيد وموسم الهجرة إلى الشمال، يتفحص الحزن الساكن في أعماق مصطفى سعيد ويميط اللثام عن فوضاه الداخلي وموسيقى روحه المنبثقة من الأفق، ليجد نفسه أسير في بشكل موجع في فوضاه الداخلية لينتحر في النيل كما وضحه الراوي ويظل الطيب صالح بالبحث في أوراقه ومقتنياته ليفتش عن السر ويحاول الانتحار هو الآخر، لقد ذهب بي جلال إلى البحث في أعماق موسم الهجرة إلى الشمال بجانب البحث في أعماق ضجيجه الجواني الذي مازال يدفعه إلى الكتابة والكتابة.
حالة بملامح غير مرئية
يعود مرة أخرى جلال من بريطانيا إلى عمان ثم وحيدًا إلى المدينة، لا يرى ولا يسمع شيئًا سوى موسيقاه الداخلية، رغم الضجيج من حوله إلا أنه كان يحلق في عوالمه الخاصة، صعد إلى جبل (نيبو) وحيدًا، يتأمل السماء والنجوم والبحر الميت، يسمع أعماقه، يحاول أن يعرف مصدر حيرته، يتصالح مع العزلة والوحدة، لا رياح ولا سماء ولا مساء غير السيجارة التي رافقته في أحلك أوقاته عتمة، يهاجمه الخيال والبكاء والموسيقى الداخلية التي ترافقه منذ البداية حتى هذه اللحظة، أنها وحشة إنسان يريد أن يسطر اللحظة على أوراق بيضاء تحتوي مخاوفه وحزنه وأرقه.
سر الموسيقى، سر النشيج (أرمينيا)
سافر نحو أرمينيا وبيده (داغستان بلدي) لرسول حمزتوف الذي طلب منه أن يكتب تقرير عن بلده فتعجب كيف أستطيع أن أكتب بلدي في تقرير فكتب تلك الرواية او ديوان الشعر ليتجاوز الـ800 صفحة، ويقول في مقدمته "أيها المسافر، إذا لم تعرج على منزلي فليسقط البرد والرعد على رأسك، البرد والرعد.
أيها الضيف: إذا لم يرحب بك منزلي فليسقط البرد والرعد على رأسي، البرد والرعد "إنها روح نقية وسخية، حمزتوف شاعر كما يقول جلال "من طراز يوجعك جمال ما يقوله". هبطت الطائرة في (بريفان) كانت أرمينيا من البلدان التي عانقت روح الكاتب منذ البداية ومن البلدان التي تمنى زيارتها وها هو يصل إليها مع رسول حمزتوف، استقبلته فتاة في العشرين من عمرها لتصطحبه إلى الفندق الذي يقام فيه (مهرجان أرمينيا للأدب)، أقلته السيارة من المطار وذهب يتأمل جمال اخضرار المدينة وهدوئها ووردية منازلها لكن الصحراء تداخلت في مخيلته التي كتب فيها الشعر يتوسل الأشجار والينابيع والضهيرات الرائقة أن تقف ضد الهجير، لكن حين غادرها تفاجأ بأنها تتبعه، أنه الانتماء إلى الأرض الأم التي لا تغادرنا حتى ولو سافرنا مشارق الأرض.
في 2007 علا اسم جلال برجس معظم الصحف وانتشر له قصائد ومقالات وفي العام الذي يليه نشر ديوانه الأول (كأي غصن على شجر)، كتب الإهداء الأول وذهب إلى عمه عزيز الذي أهداه أول رواية البؤساء، قبله عمه قائلاً "الآن دخل اسمك التاريخ"، لكنه لم يكن يفكر أن يخطئ إنسان مثله نحو التاريخ رغم أنه قال: "كنت أقرأ هربًا واكتب هربًا" لقد كانت القراءة بمثابة الهروب من الواقع والكتابة الهروب من الضجيج الجواني الذي مازال يجثم في صدره. في نفس العام توفي عمه محمد ولحق به عمه ضيف الله، ربما كان عام الحزن بنسبة للكاتب.
لخصت الكاتبة والناقدة كاتيا الطويل النهاية بقولها "ومن الطبيعيّ أن يُنهي الكاتب نصّه هذا بأرمينيا وبالموت وبالحزن على فقد الأحبّاء. من الطبيعيّ أن يلتقي العنوان بالمضمون في الفصل الأخير الذي يسرد الفترة العمريّة الأقرب إلى زمن الكتابة. يجد الكاتب نفسه في هذا الفصل الأخير جالسًا إلى مائدة الخسارات والفقد والموسيقى الحزينة والأشجان. بعد مرور سنوات من الهرب إلى القراءة والكتابة والكلمات، يكتب جلال برجس: "أكتب لأهرب، وأحيانًا أشعر أنّي أعدو إلى الكتابة بحثًا عن أسلحة لم توجد بعد لأهزم تلك الوحوش، وأفتّت طبقة الحزن، وأدحر عنّي ضجيجي الجوّانيّ." (ص: 204).
(نشيج الدودوك) هي رواية السفر الداخليّ والجغرافيّ والزمنيّ. هي رواية السفر في الزمان وفي المكان وفي الأدب وفي الذات. فيصحبنا الكاتب في سفر طويل إلى ذكرياته وإلى مدن زارها وإلى كتب قرأها وإلى علاقاته بآخرين تغيّروا مع مرور الأيّام. ولا بدّ من القول مجدّدًا في هذا الموضع أنّ هذه الرواية هي رواية الهرب. هرب جلال برجس الفتيّ والخمسينيّ من الواقع ومن الآخرين ومن الحزن ومن الخيارات الصعبة التي لا مفرّ منها. ليكون الحلّ الذي يجده الكاتب لشجنه ولحزنه بعد سنوات طوال من الدراسة والعسكريّة والمسؤوليّات تجاه العائلة هو الأدب."..
تغريد
اكتب تعليقك