إيجاز اللفظ وإشباع المعنى الأَمْثَالُ السَّائِرَة بَيْضَةُ مَنْطِقِ الْعَرَبالباب: مقالات الكتاب
د. عبد الكريم الفرحي أستاذ وباحث - المغرب |
تقديم:
الأمثال في الثقافة العربية من أَنْبَلِ الكلامِ وأَفْضَلِه، وأَجَلِّ الخطابِ وأَجْمَلِه، بالنظر إلى مُحْكَمِ مَلْفوظِها وحِكْمَةِ مضمونِها. وقد فطن العرب إلى أنها قابلة للنفاذ إلى أكثر تصاريف الكلام، لذا حرصوا على إخراجها في أرشق صيغة ليخف استعمالُها، ويسهل تداولُها، وتعم فوائدُها. ولا يكاد يخلو كلامُ خطيبٍ مصقع أو شاعرٍ مفلق أو أديبٍ أريب من استدماجها في أثناء المخاطبات أو الأشعار أو المسامرات، توكيدًا للحُجَّة، أو بيانًا للمَحَجَّة، أو اعتبارًا لفَائقية عوائدِها الاستدلالية، أو استدراجًا لنَبَاهَةِ المتلقيين إلى جمالياتِ المقايساتِ التشبيهيةِ القائمةِ على بنية التمثيل، أو استنهاضًا لهمة المخاطبين وفطنتهم لعلهم يظفرون باستنباط الكامن من دقيق بدائعها، فيُسَرُّونَ باستجلاء المخبوء من الدرر في بحر معانيها.
1. في الحاجة إلى الشاهد والمثل:
يقول العسكري في مقدمة كتابه "جمهرة الأمثال" تعظيمًا لبلاغة القول السائر: "ثم إني ما رأيت حاجة الشريف إلى شيء من أدب اللسان بعد سلامته من اللحن، كحاجته إلى الشاهد والمثل والشذرة والكلمة السائرة، فإن ذلك يزيد المنطق تفخيمًا، ويكسبه قبولاً، ويجعل له قدرًا في النفوس، وحلاوة في الصدور، ويدعو القلوب إلى وعيه، ويبعثها على حفظه(...) وإنما هو في الكلام كالتفصيل في العقد، والتنوير في الروض، والتسهيم في البرد"(1). بشرط ألا يُسْتكثر منه، فيَظْهَر تَكَلُّفُ صاحبِه وتَصَنُّعُه. بل تكفي منه لُـمَعٌ تُسْتَظْرَفُ في موضع دون موضع، ولُـمَحٌ تُسْتَطْرَفُ في سياق دون آخر.
2. الأمثال في صنعة الإعجاز:
ويكفي بلاغةَ الأمثال جلالةَ قدرٍ وفخامةَ فخرٍ -وفق ما ذكر الميداني صاحب "مجمع الأمثال"- "أن كتاب الله عز وجل -وهو أشرف الكتب التي أنزلت على العجم والعرب- لم يَعْرَ من وشاحها المفصل ترائبُ طوالِه ومُقَصَّرِه، ولا من تاجها المرصع مفارقُ مجملِه ومُفَصَّلِه، وأن كلام نبيه (صلى الله عليه وسلم) -وهو أفصح العرب لسانًا، وأكملهم بيانًا، وأرجحهم في إيضاح القول ميزانًا- لم يَخْلُ في إيراده وإصداره، وتبشيره وإنذاره، من مثَلٍ يحوز قصب السبق في حلبة الإيجاز، ويستولي على أمد الحسن في صنعة الإعجاز"(2).
وحفظًا لهذا الأمثال من الضياع، وحرصًا على ما به يكون الانتفاع، فقد نَسَّقَ المصنفون القدامى دُرَرَهَا في نظام مخصوص، وأَلَّفُوا فيها التآليف، وصنفوا التصانيف، لِضَمِّ نَشْرِهَا، ونَظْمِ شَذْرِهَا، وشَدِّ أَزْرِهَا، وتقييد شواردها، وتخليد فوائدها، والإنباه إلى بدائعها وغرائبها... ويكفي أن نذكر من تلك الذخائر: "أمثال العرب" للمفضل الضبي، و"الأمثال" للأصمعي، و"الفاخر" للمفضل بن سلمة، و"النوادر" لعلي بن حازم اللحياني، و"الأمثال السائرة" لأبي عبيد القاسم بن سلام، و"المنمق" لمحمد بن حبيب البصري، و"الوسيط" للواحدي، و"مجمع الأمثال" للميداني، و"الدرة الفاخرة" للأصبهاني، و"جمهرة الأمثال" للعسكري، و"المستقصى" للزمخشري...
3. من الجمال إلى الاستدلال:
أما عن المزايا الجمالية والاستدلالية للتمثيل، فنكتفي بإيراد ما ذكره عبدالقاهر الجرجاني في "أسرار البلاغة"، إذ قال: "واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصيلة إلى صورته، كساها أُبَّهَةً، وكسبها مَنْقَبةً، ورفع من أقدارها، وشبَّ من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار من أقاصي الأفئدة صبابةً وكلفا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبةً وشغفا"(3). وإنما كان لها كل ذلك بالنظر إلى استئثارها بجُمْلةِ خِلَالٍ، لعل أهمها: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه.
والأمثال -على جهة الإجمال- كلماتٌ سارت على مر الدهر، لذا فقد اشترطوا فيها أن تُحْكَى على المنوال الذي نسجت عليه، فنقول في سياق التمثيل للتفريط في الحاجة وهي ممكنةٌ ثم تُطْلَبُ بعد فوات أوانها، مُحِيلِينَ إلى حكاية دختنوس وعمرو بن عمر بن عدس: "الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَن". ولا يجوز لمقتبسها أن يتصرف في صيغتها مُغَيِّرًا بحسب أحوال المخاطبين (إفرادًا أو تثنية أو جمعًا، أو تذكيرًا أو تأنيثًا). وفي هذا ذكر العسكري: "الأمثال تُحْكَى؛ يَعْنُونَ بذلك أنها تُضْرب على ما جاءت عن العرب، ولا تُغَيَّرُ صيغتُها"(4). ووافقه الزمخشري، فقال: "والأمثال يُتكلَّم بها كما هي"(5). فليس لك أن تَطْرَحَ شيئًا من علامات التأنيث في قولهم "رَمَتْنِي بِدَائِهَا وانْسَلَّتْ" (وهو مثل يضرب في سياق تَعْيِيرِ الرجلِ صاحبَه بعيْبٍ هو فيه) وإن كان المضروب له مذكرًا. ولا أَنْ تَسْتَبْدِلَ اسمَ المخاطَبِ بعمرو في قولهم "هَذِهِ بِتِلْك، فَهَلْ جَزَيْتُكَ يا عَمْرو" (وهو مثل يضرب للمساواة في المكافأة).
4. بين التحقيق والتخييل:
وتقوم الأمثال -من وجهة بلاغية- على قاعدةِ رَدِّ شيءٍ إلى شيءٍ من طريق المماثلة، بِضَرْبٍ من التلطُّف والتأويل... لذا فإن منها ما يقربُ مأخذُه، ويسهلُ طريقُ الوصول إليه، ومنها ما يدقُّ ويغمضُ حتى يحتاج إلى طولِ تَأَمُّلٍ وفَضْلِ رويةٍ ونباهةِ فكر. ومنها ما يَسْتَضْمِرُ من الطرائف واللطائف ما يجعل منه سرديةً خاصة جديرة بأن تروى، بالرغم من أنه يصعب أحيانًا الفصلُ بين حدود التحقيق وآفاق التخييل في رواياتِ أخبارِها واستقصاءِ مصادرِها وجِهَاتِ نسبتِها.
ومن ذلك -على جهة التمثيل لا الحصر- ما يُروى عن مَثَلِ "أَنْ تَسْمَعَ بِالْـمُعَيْدِيّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاه"؛ فقد ذكرتْ بعضُ المصادر -ومنها "فصل المقال في شرح كتاب الأمثال"(6) لأبي عبيد البكري- أن هذا المثل إنما ضربوه للصَّقْعَبِ بن عمرو النهدي، قاله فيه النعمانُ بنُ المنذر، والصقعب هذا (ويعني الطويل) هو الذي يُضْرَبُ به مثلٌ آخر، فيقال: "أقتلُ من صيحة الصقعب". زاعمين أنه "صاح في بطن أمه صيحةً سُمِعَتْ، وأنه صاح بقوم فهلكوا عن آخرهم...". وليس يَخْفَى ما في هذه الرواية من جموح في التخييل. بيد أن ثمة روايةً أخرى في "جمهرة الأمثال"(7) تقول: إن النعمان بن المنذر قاله لرجل من تميم، يقال له ضمرة. وكان ضمرةُ هذا يُغِير على ثغور النعمان، حتى إذا عِيلَ صبرُ الملك كتبَ إليه أن اُدْخُلْ في طاعتي، ولك مائة من الإبل، فقبلها وأتاه. فلما نظر إليه اقتحمتْه عينُه وازدراه، فقال: "أَنْ تَسْمَعَ بِالْـمُعَيْدِيّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاه". فقال ضمرة (المستصغر بالمعيدي، نسبة إلى معدّ): أيها الملك، إن الرجال لا تُكَالُ بالقُفْزَان (القفيز من المكاييل)، ولا تُوزَنُ بالميزان، وليست بمُسُوك يُسْتَقَى بها الماء، وإنما المرْءُ بأَصْغَرَيْهِ قَلْبِهِ ولِسَانِه، وإن قَالَ قَالَ ببيان، إن صَالَ صَالَ بجنان... فأُعْجِبَ المنذرُ بما سمع منه وقال: صدقت لله درك! فهل لك علمٌ بالأمور ووُلُوجٌ فيها؟ فقال ضمرة: والله إني لأُبْرِمُ منها المسْحُول، وأَنْقُضُ منها المفْتُول، وأُجِيلُهَا حتى تَجُول، ثم أَنْظُرُ إلى ما تَؤُول. وليس للأمور بصاحبٍ من لم ينظر في العواقب. قال النعمان: صدقت. فأخبرني ما العجزُ الظاهر، والفقرُ الحاضر، والداء العَيَاء، والسَّوْأَةُ السَّوْآء؟ قال ضمرة: أما العجز الظاهر فهو الشاب القليل الحيلة، اللَّزُوم للْحَلِيلَة، الذي يَحُومُ حولها، ويسمع قولها؛ إن غضبت ترضَّاها، وإن رضيت تفدَّاها. وأما الفقرُ الحاضرُ فالمرءُ لا تشبع نفسُه، وإن كان ذهب خِلْسُه. وأما الدّاءُ العَيَاء فجارُ السوء، إن كان فوقك قَهَرَك، وإن كان دونكَ هَمَزَك، وإن أعطيتَه كَفَرَك، وإن منعته شَتَمَك؛ فإن كان ذلك جارَك فأَخْلِ له دارَك، وعَجِّلْ منه فرارَك، وإلا فأَقِمْ بِذّلٍّ وصَغَار، وكن كَكَلْبٍ هَرَّار. وأما السَّوْأَة السَّوْآء فالحَلِيلَةُ الصَّخَّابَة، الخفيفة الوَثَّابَة، السَّليطة السَّبَّابَة، التي تعجب من غير عجب، وتغضب من غير غضب، الظاهر عيبُها، المخوف غيبُها، فزوجها لا تصلح له حال، ولا ينعم له بال، إن كان غنيًا لم ينفعه غناه، وإن كان فقيرًا أَبْدَتْ له قِلَاه، فأراحَ اللهُ منها بعْلَها، ولا متَّع بها أهلَها. فأعجب النعمانَ حسنُ كلامه وحضورُ جوابه، فأحسن جائزتَه، وقال: أنت ضمرةُ بنُ ضمرة. فسماه باسم أبيه تعظيمًا له. وكأنه يقول: أَنْتَ أَنْتَ... بتعبيرٍ يُسْتَشَفُّ منه الإقرارُ له بالتفرد توكيدًا وتخصيصًا ومبالغةً في المدح، وعدولاً عن الزراية والتحقير والاستهانة والتصغير... أُخمن أنه لو لم يَسْبِقْ قولُ النعمان بن المنذر: "أَنْ تَسْمَعَ بِالْـمُعَيْدِيّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاه"، (كما "سَبَقَ السَّيْفُ العَذَل" في حكاية ثأر ضبة لابنه سُعَيْد المذكور في قوله "أَسَعْدٌ أَمْ سُعَيْد")، لَعَدَلَ النعمان بعد التَّرَوِّي إلى القول: "أَنْ تَسْمَعَ بِالْـمُعَيْدِيّ... وأَنْ تَرَاه"، كي نَسْتَنْطِقَ من لسانه أَحْكَمَ الكلامِ وأَفْضلَهُ وأَعْدلَهُ وأَلْمَحَهُ وأَوْجَزَهُ وأَفْصَحه...
خاتمة:
وإنما سُقْنا حكاية "المعيدي" أنموذجًا للدلالة على أن أمثال العرب لم تكتسب صفة "السائرة" و"الشاردة" إلا من جهة كونها -على وفق ما ذكره الزمخشري في "المستقصى"(8)- قُصارى فصاحة العرب العرباء، وجوامع كَلِمِهَا، ونوادر حِكَمِهَا، وبيضة منطقِها، وزبدة حوارها، وبلاغتها التي أعربت بها عن القرائح السليمة؛ حيث أَوْجَزَت اللفظَ فأَشْبَعَت المعنى، وقَصَّرَت العبارة فأطالت المغزى، ولَوَّحَتْ فأغرقتْ في التصريح، وكَنَّتْ باللمح واللمع فأغنتْ عن الإفصاح والتطويل...
الهوامش:
(1) - جمهرة أمثال العرب، لأبي هلال العسكري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، وعبدالمجيد قطامش، دار الجيل بيروت، ط2، 1988، ج1، ص4.
(2) - مجمع الأمثال، لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني، تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد، مطبعة السنة المحمدية، ج1، ص1.
(3) - أسرار البلاغة، عبدالقاهر الجرجاني، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، ص115.
(4) - جمهرة الأمثال، ج1، ص7.
(5) - المستقصى في أمثال العرب، لأبي القاسم الزمخشري، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، ط1، 1962، ج1، ص. هـ. من المقدمة.
(6) - فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، لأبي عبدالبكري، تحقيق إحسان عباس، وعبدالمجيد عابدين، دار الأمانة، بيروت، ص135.
(7) - ينظر جمهرة أمثال العرب للعسكري، ج1، 266 و267.
(8) - المستقصى في أمثال العرب، للزمخشري، ج1، صفحة: ب، من المقدمة.
تغريد
اكتب تعليقك