تراجيديا التاريخ.. في «الأمير الثائر» الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 11:24:26

محمد عطية محمود

كاتب وناقد مصري

تبدو العلاقة بين الرواية والتاريخ، علاقة مرجعية وثيقة، بحيث تصل درجات التشبع بالتاريخ إلى الحد الذي تتماهى فيه الرواية التاريخية1 مع الواقع التاريخي بحذافيره وتواريخه المثبتة، وتفاصيله؛ لتمثل صفحة موثوقة وموثقة من صحف التاريخ وطرائق حفظه والدفاع عن كينونته، بشكل إبداعي، تدرجًا إلى الرواية التي تعتمد على التاريخ من خلال التناص معه لضرورات فنية، أو بجعله خلفية ثقافية لهذا العمل، أو بالاستئثار بحوادث تاريخية معينة لتضمينها داخل النص الروائي/الحكاية المسرودة داخل إطار الرواية؛ لتصبح جدلية التعامل مع التاريخ دائمًا على محك التساؤلات الملحة؛ فالرواية التاريخية  تعني بعبارة موجزة: "نقل الأخبار والأحداث والوقائع التاريخية والإخبار عنها بصور النقل المختلفة، مثل النقل الشفهي، ونقل الوثائق، ونقل الكتب والمؤلفات"، وفي بداياتها تعد نقلاً يعتمد على الحفظ والذاكرة، ثم جاء التدوين ليضيف إلى ذلك النقل، رواية الوثائق والرسائل المدونة، بحيث تطرق سبيل العلم والمعرفة، ومن ثم تفاصيل التاريخ.

وفي الرواية/النص التاريخي الذي بين أيدينا للدكتور "سلطان محمد القاسمي" "الأمير الثائر"2 ، نجد أنها تدور بأحداثها الحقيقية (خلال القرن الثامن عشر الميلادي) في منطقة الخليج العربي، انطلاقًا من إمارة عربية هي "بندر الرق"، والتي تمثل منابت الصراع في المنطقة، وتتسلسل الأحداث فيها تسلسلًا زمنيًا خطيًا، لا تعترضه التقنيات المعتادة لفن الرواية، بل تعتمد على مرور الزمن والتواريخ التي توثق لهذه الأحداث التاريخية بدايةً بموقعها الاستراتيجي؛ مؤكدةً أهميتها في إدارة الصراع الدائر للسيطرة على المنطقة بأسرها:

"حكم الأمير حمد، "بندر الرق" في بداية القرن الثامن عشر، وبوفاته دخلت الإمارة في صراع على السلطة بين خلفائه، الأمر الذي منع الكثيرين من التجار: عربًا كانوا أم أجانب من الوصول إلى بندر الرق، إلى أن وصل إلى السلطة رجل حكيم يُدعى الأمير ناصر، استطاع بحزمه أن يسيطر على رجال قبيلته، وبلطفه وكرمه للتجار الأجانب كوَّن مركزًا تجاريًا مرموقًا، يستقبل السفن التجارية القادمة من الهند وشرق آسيا، والأخرى القادمة من البصرة محمَّلة بالتمر والفواكه لموانئ الخليج الأخرى"

حيث تمثل الشخصية التاريخية ملمحًا مهمًا لهذه الحقبة، والتي يعتمد عليها السرد التاريخي في تجسيد أهمية المنطقة التي بدأت حركة تجارية واقتصادية ولوجيستية عميقة الأثر في زمانها، وهي السمة التي دفعت بتلك الشخصية كي تخوض غمار حرب الهيمنة والسيطرة بدخولها في منازعات قبلية وإقليمية واتفاقيات وانحيازات مع عناصر الضغط بالمنطقة، متمثلة في "الشركة الشرقية الهولندية" التي كانت تبغي السيطرة على المنطقة، من خلال محاربة مصدر "البصرة" الهام، لحيازة السيطرة والمال والنفوذ.

"كانت هناك مبالغ متأخرة للشركة الشرقية الهولندية على حاكم البصرة التي رفض دفعها لـ "كنبهوزن" إغلاقه الوكالة الهولندية هناك دون مبرر، فطلب "كنبهوزن" من الأمير ناصر أن يساعده بمراكبه لمحاصرة مدخل شط العرب لإجبار حاكم البصرة على دفع تلك المبالغ. وافق الأمير ناصر على ذلك، وكلَّف ابنه الأمير حسين بأن يقوم بتجهيز تلك المراكب لهذا الغرض"   

الأمير ثائرًا

يبدأ نوع من المقاومة على أعتاب هذا التصرف الذي يؤدي إلى ظهور متجدد وفاعل للأمير الثائر "مهنا"، برفضه القاطع والمعارض لهذا التحالف السياسي الاقتصادي لأبيه مع الغرباء، في نزعة قومية، لينشأ الصراع الذي يتسارع دراميًا بمقتل الأمير ناصر، وتآلف الهولنديين مع الأمير حسين، الأخ غير الشقيق، وانقلاب الأمور، وتنصيبه أميرًا خلفًا لأبيه المقتول؛ لتتجلى أسباب الثورة التي ربما انتسبت إلى مهنا، وربما حركها على أنقاض فقده وخساراته وضياع الهيبة والمكانة:

"لم يهدأ الأمير مهنا بعد تلك الهزيمة وإنما أخذ يدعو الناس للاستقلال بالمنطقة وإثارة نخوة العروبة فيهم ونبذ حكم الأجانب من ترك أو فرس، ومحاربة التسلط على تجارة المنطقة من قبل الإنجليز أو الهولنديين فاستطاع خلال ستة أشهر أن يجمع حوله ثلاثمائة مقاتل، وفي ليلة الحادي عشر من ديسمبر 1754م قام بالهجوم على بندر الرق، فاقتحم بيت أخيه الأمير حسين حيث كانت مجموعة من الرجال في بيت الأمير تدافع عنه، قُتل منهم ثلاثون فردًا، وجُرح الأمير حسين حيث وقع أسيرًا في يد أخيه فأودعه السجن"

ليشتعل الصراع أكثر، من خلال التواجد الأجنبي المتزايد بدخول عنصر آخر إلى ساحة الصراع، وهو الشركة الإنجليزية للسيطرة على التجارة، وهو ما أعطى الفرصة للعب على الشقاق بين الأشقاء، كما عمد إلى إثارة القلاقل وإشعال نار الحرب بين كل الأطراف بالسلاح وبالتفرقة بينهم، وباستخدام كل الصلاحيات والإمكانيات الهجومية ضد الأمير الثائر دائمًا بعد تآلبهم مع شقيقه منذ أن أصبح حرًا طليقًا:

"اشتاط الإنجليز غيظًا لما حدث لمقر شركتهم في "بندر الرق" فأرسلوا حملة مكونة من السفينتين الحربيتين "سوالو" و"دريك" لتأديب الأمير مهنا، وصلت الحملة إلى بندر الرق في منتصف شهر أكتوبر 1756 بقيادة "فرنسيس وود" الذي وجد سفنه لا تستطيع الاقتراب من الشاطئ لضحالة البحر هناك، وهو إذا أنزل قواته من السفينتين في مجموعها بين 65 و70 جنديًا فإنها ستواجه قوة الأمير مهنا المكونة من 500 محارب جيد يجيدون القتال من بيت إلى بيت"

ليشهد التاريخ على قوة ومهابة "الأمير الثائر"، وما تحمله الإمارة بسببه من سمات الجسارة والقوة والمنعة التي تجعل منها ملمحًا مضيئًا من ملامح تلك الحقبة، وهو ما يعمق من صورة البطل القومي في الواقع التاريخي، ويمتعه بهذه السمات الجسورة التي ربما كانت عاملًا من عوامل الإثارة والتشويق في الرواية بإشعال الذهن بنتائج تلك التقلبات ما بين النصر والخذلان وبين الحرية والأسر..

الأمير أسيرًا

"في نهاية 1756 كانت رياح العروبة قد هبَّت على ذلك الساحل الممتد من شط العرب حتى بوشهر، وكان الشيخ كايد ابن حيدر حاكم بلدة جناوة والمعلم الأول لابن أخته الأمير مهنا، هو الآخر قد تمرد على الحكومة الفارسية؛ فقررت تأديبه لعدم انصياعه للأوامر الصادرة من الحكومة الفارسية"

يرصد التاريخ بالتوازي مع السرد الروائي، تكالب كل القوى الأجنبية المسيطرة على ربوع المنطقة، ليشتعل الصراع وتشكل أطرافه: الهولنديين والإنجليز والأتراك و(الفرس من قبل ومن بعدهم) في توالٍ مربك لكل الحسابات، حتى يقع الأمير أسيرًا للفرس في توالٍ درامي للأحداث التي بدت بين كر وفر وإقدام وانسحاب، حسب مقتضيات القوة التي لم تصمد كثيرًا في وجه الغرباء، وهي التيمة التي تلعب عليها الرواية التاريخية بوصفها بالأساس استنساخا لأحداث مماثلة.

"قضى الأمير مهنا مدة سنة في سجن شيراز، وكان خلال تلك الفترة يحاول التقرب إلى كريم خان زند ملك فارس بالهدايا والأموال التي كان يجلبها أتباعه، فأفرج عن الأمير مهنا وأخلى سبيله، لكنه بعدما خرج من السجن التفت حوله مجموعة من أتباعه فكان يمشي في أسواق شيراز يتبختر تحفه مجموعة من شباب مزود بالأسلحة. رفع ذلك الخبر إلى كريم خان زند فأراد أن يعاقب الأمير مهنا بطريقة خاصة حيث لأمره بتعيينه حاكمًا لبندر عباس وترافقه مجموعة من الحراس والمستخدمين، وقد مُنع من اصطحاب أي واحد من أتباعه"

حيث تنقل الرواية هنا أحداث الواقع التاريخي إلى منطقة أخرى من مناطق الإمارات المتنازع عليها، والتي تقع تحت سيطرة الفرس (عرب فارس) وهو ما يثير القلاقل وتبدو من خلاله أمارات الصعود والهبوط لهذا الأمير الذي ينهض ليقع في عثرة، ثم ينهض أكثر قوة، ثم يعود أكثر ضعفًا في متوالية عجيبة يتأرجح فيها كل شيء، ومنها استعادته لإمارته القديمة ثم تعثره مرة أخرى، حتى يباغته الحاكم الفارسي مرة أخرى بعدائه ومحاربته للتخلص منه، إلا أن الأمير مهنا ينتصر على الفرس بعد ملحمة كبيرة.

"وفي فبراير 1763م هجمت القوة الفارسية على بندر الرق، فتصدت لها قوات الأمير مهنا، التي كانت منتشرة حول بندر الرق، وما هي إلا ساعات وإذا بالقوة الفارسية تهرب من أمام رجال الأمير مهنا، بسط الأمير مهنا على كل المنطقة المجاورة له.. سيطر الأمير على أكبر منطقة تجارية وزراعية فجلبت له المال الوفير، فلم يعد في حاجة للسلب والنهب فأرسل للهولنديين مندوبين لتسوية الخلافات التي كانت بينه وبينهم"

نهايات تراجيدية

وهكذا سارت الأمور فيما بين جذب وشد وانتصار واندحار حتى استعظم الأمر، وتوجب التخلص من تلك الشخصية الجدلية التي أبت أن تستجيب لكل محاولات التخلص منها بل وتمادت في طموحها، إلى أن جاءت هذه النهاية التراجيدية من بعد مساومات ومهادنات واتفاقيات وعهود وكمائن، وحروب لا ينقطع أثرها عن تاريخ تلك المنطقة وحولها:

"في الثالث من فبراير 1769م وهو اليوم الذي كان المفروض أن يصل فيه الأمير مهنا إلى الزبير، علم حاكم البصرة بذلك؛ فأرسل إلى الزبير أربعين خيَّالاً من الأتراك للبحث عنه، فانطلقوا بعد فجر اليوم الرابع من فبراير على ضفاف خور عبدالله فعثروا عليه مع عبيده على جمال وخيول متجهًا نحوهم"

وهكذا وقع الأمير ومن معه في أسر جديد؛ كنهاية لكل هذه السلسلة من الحروب والجهاد، ليجد نفسه في أحضان أعدائه، ولم تجد كل سبل المساومة التي طرقها الإنجليز كي يقايضوا عليه ويتسلموه ليعود حاكمًا في محاولة/ مقايضة أخيرة لمعاودة الطموح من جديد:

"كانت خطة "مور" أن يقوم بالهجوم على جزيرة خرك ويحتلها ويستولي على الأموال هناك بعد أن يخرج الأمير مهنا من سجن البصرة وينصبه حاكمًا على جزيرة خرك، ويؤسس معه قاعدة تجارية مستقلة عن فارس"

كل هذه الأحلام المعطلة التي ظلت تناوش وعي القائدين الإنجليزي والعربي، ضاعت أدراج الرياح، بعدما سقط الأمير الثائر؛ ربما كحبكة درامية طالت أبعادها وتفاصيلها لتشكل تاريخًا ممتدًا من الجهاد وما ظاهره من مظاهر الخيانة وحفظ العهد والتحالفات وعقود المصالح المشتركة على شرف الزعامة المشتهاة، لتكون النهاية هي اقتسام رأس هذا الأمير الثائر لترضية الجميع كسُنة من سُنن التاريخ الذي لا يرحم في شأن الأبطال التراجيديين، ولتكون النهاية بالفعل، لينتصر التاريخ على الرواية الحالمة:

"في صباح اليوم الرابع والعشرين من مارس 1769م صحا "مور" على ضجيج في شوارع البصرة، فلما خرج إلى الشارع وجد جثة بدون رأس تنهشها الكلاب وتسحبها في شوارع المدينة، فسأل الناس المتجمهرين هناك عن صاحب الجثة، فقيل له: إنها جثة الأمير مهنا، فقد صدر في الليلة السابقة أمر من قبل الباشا التركي في بغداد بشنق الأمير مهنا وإرسال رأسه إلى بغداد ومنها إلى كريم خان زند لتحسين العلاقة بين الحكومة الفارسية وتركيا".

لتشتعل المفارقة من جديد مع التاريخ الذي يصنع بواقعه غرائب، لا يستطيع الفن الروائي التعديل عليها أو استبدالها، وإنما يكون الرضوخ لسنن التاريخ وقوانينه هي الحاكمة في مثل هذه الحكايات التراجيدية/ القدرية.

 

الهوامش:

1 - منهج نقد الروايات التاريخية، محمد بن صامل السلمي، ص10-11

2 - الأمير الثائر، رواية، د. سلطان محمد القاسمي، منشورات القاسمي، 1998، طبعة مكتبة الأسرة المصرية 1999


عدد القراء: 756

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-