«مرايا آخر المشهد» لأحمد حسين حميدان.. جماليات اللغة السردية والإبداع القصصيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 21:53:25

عزيز العرباوي

كاتب وناقد - المغرب

تتفاعل عملية الإبداع السردي القصصي بالدرجة الأولى مع عملية التلقي داخل مجتمع يمكن تعريفه على أنه مجتمع أدبي وثقافي، حيث تتشكل ملامحه الجديدة هذه انطلاقًا مما تنشره نخبه المبدعة من صحف ودوريات وكتب سردية وتقوم العملية التواصلية فيه على ضمان استمرارية الإبداع الأدبي حيث ينشأ السرد الأدبي على أنقاض المرويات السردية التراثية لخلق مناخ سردي أدبي يؤسس لمجتمع الثقافة والأدب. ومن هنا انبثقت القصة والرواية وأشكال السرد الحديث والمعاصر التي شكلت نقلة نوعية في هذا المجال الأدبي وأغنت الساحة الأدبية والثقافية العربية بالعديد من النصوص المتميزة.

إن الحديث عن تمثيل المرجعيات الثقافية في القصة القصيرة العربية الحديثة والمعاصرة يرجع بنا إلى الحديث عن أهمية المادة التخييلية وعلاقتها بالمرجعيات الثقافية، حيث يستثمر السرد القصصي مكونات هذه المرجعيات كقرائن يعتمد عليها التخييل على مستوى الأحداث والوقائع والمواقف والشخصيات والفضاءات الزمنية والمكانية إضافة إلى الصيغ والأساليب السردية. وفي هذا الإطار يمكننا الحديث عن ما قامت به تجربة السرد العربي الحديث من استثمار أساسي وتمثيل بارز للمرجعيات النفسية والتاريخية والهوياتية والدينية، والقيم الاجتماعية المتعارف عليها والأعراف الاجتماعية، ومثلت موضوعات الحياة والثقافة والطبيعة، والتربة الاستعمارية والاستبداد السياسي المتسلط، وقمع الحريات والمنفى والاغتراب مما أغنى التجربة السردية العربية ومنحها غنًى وتنوعًا وتعددًا على مستوى الأسلوب والموضوع، وجعلها تساهم في الحراك الثقافي والاجتماعي في الوطن العربي.

وتبقى القصة القصيرة الجنس السردي الذي لا يمكنه أن يُعد قصة إلا إذا كان سجلًا مملوءًا بالأحداث وبحركات متتابعة وبتدرج غير متوقع بتقنيات أسلوبية وفنية يستعملها السارد قصد بعث التشويق والتأمل في نفس القارئ المتشوق للقراءة. إن القصة القصيرة سلسلة من المشاهد، تتطلب حضور شخصيات تحاول أن تحل نوعًا من المشاكل من خلال بعض الأحداث التي يمكن اعتبارها الأفضل لتحقيق الهدف، حيث تتعرض هذه الأحداث لبعض العوائق والصعوبات والمشاكل حتى تصل إلى النتيجة المطلوبة. إنها في النهاية، حسب عبدالرحيم الكردي، "نوع أدبي غير منته وغير محدد المعالم فهو متصل بالقوة العقلانية غير المتوافقة أي قوة التخيل، وهي غير خاضعة لقانون أو مبدأ معين، إنما هي محتكمة لعوامل لا يمكن الإمساك بناصيتها كعوامل الانفعال والتأثر، ومع هذا فلا يمكن تحديدها لأنها لا تسلم بقانون ثابت" . وفي هذا الصدد تأتي مجموعة الكاتب القاص أحمد حسين حميدان "مرايا آخر المشهد" التي تحمل داخلها العديد من عوامل الانفعال والتأثر بالأحداث الاجتماعية والسياسية والثقافية الرائجة في مجتمعه حيث التعدد والتنوع على مستوى الوعي بها وعلى مستوى فهمها وإدراك نتائجها. يقول في قصة "القيامة الصغرى":

"... قال الملازم لعناصر المجموعة التاسعة: يا شباب انتبهوا، ليس لدينا وقت كثير للكلام، فكما تشاهدون الحرب بدأت ومهمتنا تدمير مركز المراقبة للعدو عند ذلك التل- وأشار بسبابته باتجاه المكان- وأكد لهم أن تنفيذها غير صعب على رجال مثلهم، ثم دعاهم بحماس: هيا يا شباب اليوم يومكم... لكن هذا لم يبدد الخوف من قلوب المجموعة المسكونة بالحذر والرهبة وهي تعبر الأسلاك الشائكة" .

اللغة السردية وجمالياتها

ليس بالضرورة أن تحكي القصة القصيرة مغامرات الذات الكاتبة أو الساردة في النص، بقدر ما إنها تجعل من الكتابة مغامرة إذا ركبها المتلقي سيجد تيهًا في دهاليزها ويأخذ نصيبه من القراءة، فلا فرق بين الوصف والسرد والمونولوج والحوار المباشر أو غير المباشر، ولا حواجز بين العوالم الداخلية والخارجية، بل لا وجود مطلقًا لخيط سردي منطقي ينير طريق المتلقي الذي يريد كل شيء جاهز. وبهذا الشكل الخاص يمكن للقصة الجديدة، حسب حسن المودن، أن "تدفع القارئ إلى أبواب الوعي، إلى أقصى حدود الوعي، إلى ضد الوعي، وهذه عملية هامة لأنها تنجح في إعادة إحياء فعل القراءة" . فالكتابة القصصية العربية الجديدة قد تمكنت من تجديد عناصرها ومكوناتها الفنية والجمالية، بل استعادت قوتها من خلال عملها على تقوية اللغة السردية وتأكيدها على أهمية اللغة في القصة نظرًا لأنها تحتاج إلى التكثيف، وبالتالي إلى إيصال الفكرة ومعالجة القضية والموضوع في عدد قليل من السطور أو الكلمات أو حتى الصفحات.

إن القصة القصيرة عند القاص أحمد حسين حميدان، تعكس في العديد من موضوعاتها، مشاكل اجتماعية وثقافية، وقضايا فكرية متعددة يعرفها مجتمعه، خاصة تلك المشاكل الاجتماعية الناتجة عن العلاقات الإنسانية المتشابكة وقضايا الوطن ومشاكله اليومية وصراعات نخبه السياسية والثقافية والدينية، خاصة في إطار الحصول على أهدافها وغاياتها الكبرى؛ والتي غالبًا ما تؤثر سلبًا على استقرار الوطن وتماسك المجتمع وأفراده. كما أنها قصص تعكس مدى عنايته الكبيرة بلغته السردية من خلال اختياره الموفق للغة سردية مفعمة بالبساطة والوضوح المغلف بالرمزية والإيحائية.

ونجد في قصص حميدان تلك الإشارة الذكية لعدة أفكار ومواقف سياسية وثقافية وفكرية مرتبطة بوعي الشخصيات وإدراكهم للحياة وعلاقاتهم الاجتماعية مع الناس؛ حيث تحيل كلها على قضية يفكر فيها ويحاول إيصال موقف حولها إلى القارئ دون أن يفصح عنها مباشرة، يقول في قصة "دماء على صدرها":

"أهل القرية قالوا: أخيرًا فعلها رحمو... "زينة" التي أخذت عقله وقلبه انتزعت جسدها من يدي الوكيل وفرت عندما حاول شدها إلى فراشه... خرجت بثوبها الممزق والدماء على صدرها... كانت تصرخ... وأمه كانت تولول... تضرب على رأسها وتصيح: أين ابني... أين رحمو... ماذا فعل به هؤلاء الظُّلاَّم؟" .

يمثل الوكيل المغتصب الذي اغتصب زينة، وبالتالي يمثل من اغتصب الوطن، واغتصب حقوق الناس تحت عناوين ما أنزل الله بها من سلطان؛ بينما يمثل رحمو شخصية البطل الذي يحارب الطغيان والاستبداد والظلم ويريد إراحة الوطن وأهله من الاغتصاب والاستعباد والطغيان.

إن البحث عن جمالية اللغة في نصوص المجموعة "مرايا آخر المشهد" يسهّل الوصول إلى الاعتقاد بأن القاص أحمد حسين حميدان يرغب في تحقيق ما قلناه سابقًا، والانزياح بلغته السردية نحو التكثيف واستخدام صور مبتكرة ومبدعة مكثفة توصل المعنى المراد من خلال الوقوف على أحداث يومية ووقائع حاصلة مغلفة بتخييل مسهب يغري القارئ ويثير حفيظته القرائية والتأويلية. فإضافة إلى لغة الحكي والسرد والسؤال يعتمد القاص على لغة السخرية، السخرية من الواقع ومن أشخاص معينين ومن أحداث اجتماعية بعينها، وحتى من مواقف إنسانية مسيئة للفرد والجماعة داخل مجتمعه. ويمكننا من خلال عنوان كل نص على حدة أن نعرف موضوع القصة، فهو مفتاحها الأساس والطريق السالكة لمعرفة الصورة الكاملة حول النص، بل إنه كمفردة في غالب الأحيان، يكاد يوصلنا إلى المعنى الأولي للنص القصصي، لأنه يقدم لنا دلالات خاصة أقرب ما تكون إلى ما يقدمه النص بأكمله من دلالات حينما ننتهي من قراءته. يقول في "سفر آخر الليل":

"ولم يخطر له أن يكلمها عن مدى الخيبة التي كانت تستولي عليه من تجاهل إعلانات العمل في الصحف لخبراته وهي لا تكل من البحث عن مصففات الشعر وسكرتيرات حسناوات المظهر لفندق وعمال المطعم... كل العذابات غابت وهو يقترب منها... وكل المرارات بدأت بالزوال مذ جاءه مالك بيوت الإيجار ليعيد الاعتبار له ولشهادته الهندسية بتعيينه مشرفًا على تنفيذ مخططات بيوته الجديدة فأشرقت له الشمس بعد غروب وابتسمت أمامه أبواب الرزق العبوسة من دون إعلان موعد... وها هو الآن يعود إلى بيته مفعمًا بالفرح" .

ولا بد أن نقول هنا إن القاص أحمد حسين حميدان قد راهن على اللغة باعتبارها رسالة تواصلية بينه وبين قارئه، حيث برزت بشكل واضح عنايته الكبيرة بلغته، ومحاولته الواضحة في الابتعاد عن المباشرة والتقريرية، فعمل على تكثيفها بأسلوب شعري ملفت، حتى يخال القارئ المتفحص وهو يقرأ قصصه أنه أمام قصائد شعرية تنتمي إلى قصيدة النثر الجديدة. إن لغته القصصية في مجموعة "مرايا آخر المشهد"، لغة شعرية تتخطى المباشرة والتقريرية لتدخل غمار اللغة الفنية والغنائية المرتكزة على إيقاع معين. فالكتابة القصصية في المجموعة قد اعتمدت على العديد من الوسائل الجديدة من الناحية الشكلية والموضوعية معًا، باعتبارها قد ساهمت في انتهاك المألوف سرديًا نحو عوالم سردية مختلفة وخطابات قصصية متعددة، وذلك بجرأة كبيرة من المبدع نفسه، لأنه يدرك قيمة التجديد الذي يساير متطلبات العصر ومتغيراته على جميع المستويات.

 

الهوامش:

1 - عبدالرحيم الكردي، البنية السردية للقصة القصيرة، مكتبة الآداب، بيروت، ط. 3، 2005، ص. 57.

2 - أحمد حسين حميدان، مرايا آخر المشهد، قصص، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط. 1، 2009، ص. 31.

3 - حسن المودن، "اشتباكات الكتابة في نصوص الأمين الخمليشي"، ضمن كتاب جماعي: القصة القصيرة بالمغرب: دراسات في المنجز القصصي، إعداد وتقديم: جمال بوطيب، سلسلة الورشة النقدية، منشورات التنوخي، ط. 1، آسفي، 2008، ص. 11.

4 - أحمد حسين حميدان، مرايا آخر المشهد، المصدر السابق، ص. 39 - 40.

5 - أحمد حسين حميدان، المصدر السابق، ص. 55.


عدد القراء: 691

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-