الكذب والحقيقة الروائيةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-27 00:49:03

عادل عطية

مصر

في مقال له بعنوان: "سلطة الكذب"، يرى ماريو فارغاس يوسا، صاحب رائعة "حرب نهاية العالم"، أن الأدب هو "مملكة اللبس" بامتياز. والحقائق التي يأتى بها هي دائمًا حقائق ذاتية، أو "نصف حقائق"، أو "حقائق أدبية"، أي أنها ليست صحيحة تمامًا، وبالتالي يمكن القول إنها أكاذيب تاريخية.

وكمثال على ما يقول، يشير إلى فيلم "البؤساء"، المستوحى من الرواية الشهيرة لفيكتور هوجو، الذي يقدم لنا صورة عن معركة "واترلو"، إلا أن هذه الصورة ليست صورة تلك المعركة التي هُزم فيها نابليون بونابرت، وإنما هي المعركة التي نجح المؤلف في صياغتها اعتمادًا على خياله.

وفي رواية "تيران لوبلان"، للكاتب جوانو مارتورال، هناك تصور لغزو عربي لبريطانيا. إلا أن هذا الغزو، كما نحن نعلم، لم يحصل أبدًا. مع ذلك يجعله المؤلف ممكن. ومعنى هذا أن "الأدب يروي الحكاية التي لم يكتبها التاريخ الذي كتبه مؤرخون لا يعرفون هذه الحكاية ولا يحسنون روايتها".

ویرى ماريو فارغاس يوسا، أن "الأدب لا يكذب اعتباطيًا"، بل أن مبالغاته وحيله غالبًا ما تكون وسيلة "التعبير عن حقائق عميقة ومثيرة للحيرة، ولا يمكنها أن ترى النور إلا من خلال كل هذا".

وفي الرواية ذاتها "تيران لوبلان"، نقرأ أن الأميرة كارميسينا كانت "بيضاء حدّ أنه بإمكاننا أن نرى النبيذ يسيل في حنجرتها". وطبعًا ليس هذا صحيحًا. غير أن متعة قراءة الكتاب تجعله ممكنًا وحقيقيًا.

ويضيف ماريو فارغاس يوسا، قائلاً بأن القصص التي تحكيها الروايات غالبًا ما تكون كاذبة مقارنة بالحقائق التاريخية، مع ذلك نحن نحتاجها لأنها تمكننا من أن نحصل على تلك الحقائق المخفية التي غيّبها المؤرخون أو هي غابت عنهم.

ويضيف أيضًا صاحب "البيت الأخضر"، قائلاً بأن الناس ليسوا في حاجة فقط إلى الحقائق التاريخية، بل هم في حاجة أيضًا إلى الأكاذيب، إلى تلك الأكاذيب التي يبتكرونها بحرية وليست تلك التي تفرض عليهم. لذلك فإن التخيلّ يثري الحياة، ويكملها، وربما يمنح الناس القدرة على تحمل أعباء الحياة الصعبة التي يعيشونها، كأن يجعل الناس يحلمون بالحصول على أكثر مما يحصلون عليه في الواقع والحقيقة.

وبحسب ماريو فارغاس يوسا، فإن "الحياة في الكذب والكذب في الحياة"، حق مشروع. وعلينا أن ندافع عنه دون تردد أو تعفف أو خجل. وأن الأدب "إدانة مرعبة للحياة تحت أي نظام أو سلطة. وهو شهادة ملتهبة عن الجوانب المنقوصة فيها، وعن عجزها عن إرضائنا. لذلك فإنه - أي الأدب ـ عامل مدمر يهاجم كل السلطات التي تعمل على أن يتلاءم معها الشعب، ويستجيب الجميع طموحاتها وأفعالها التي تهدف الى إرضاخه وتدجينه".

أما الكاتب والمفكر الفرنسي رينيه جيرارد، فإنه في كتابه: "الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية"، يقدم لنا نظريته التي أطلق عليها: "مثلث الرغبة"، والتي تقول: إن رغبات البشر كلها ترتبط بمثلث يتكون من الراغب، وموضوع الرغبة والوسيط. وأن العلاقة بين الثلاثة هي التي تحدث الصراع في العالم. ومن ثم يطبق هذه النظرية على شخصيات بعض أبرز الروايات العالمية التي كتبها ثيرفانتس وستاندال وبروست وفلوبير، ودوستويفسكي، وغيرهم.

ففي رواية "دون كيخوته دي لا مانشا" للكاتب الإسباني ثيرفانتس، يرى جيرارد أن دون كيخوته أخفق في أن يصبح فارسًا ليس لضعف إمكانياته بل لأنه خرج ليحقق رغبات الآخرين، كان مجرد مقلد للفرسان الحقيقيين ولم تكن رغبته في الفروسية رغبة أصيلة. وحتى تابعه أو رفيق رحلته سانشو - والذي قد يبدو هو الشخص الواقعي مقابل الشخص الواهم دون كيخوته، يرى أنه أيضًا ضحية مثلث الرغبة والوسيط فيها هو دون كيخوته نفسه، لأنه خرج معه مدفوعًا بكونه: مثلاً ونموذجًا يحتذيه!

ويرى جيرارد، أن إخفاقات الحب التي تعرضت لها إيما بوفاري في رواية "مدام بوفاري"، لجوستاف فلوبير، لها علاقة بهذا الأمر. أنها لم تكن تبحث عن جوهر الحب، بل عن قصص عاطفية ومغامرات تشبه ما قرأته في القصص الرومانسية، وترى أن حياتها في القرية لا تشبه ما تحلم به مما تقرأه في الصحف عن الحياة في باريس.

وهكذا يستمر جيرارد في تفسير العلاقة بين الراغب، وموضوع الرغبة، والوسيط، ويتأملها في تناولاتها في روايات أخرى لستاندال وبروست وغيرهما. موضحًا أن الصراع هو النتيجة الحتمية لهذا المثلث، ودور الكاتب الذي اختلق هذه القصص، أن يكشف الحقيقة خلف هذه الكذبات الرومانسية.

وهذا هو بالضبط دور الرواية أن تقدم الحقيقة، أن تكشف كذبات البشر، ليس فقط على الآخرين، بل وأساسًا على أنفسهم. لهذا سنرى كيف أن الكاتب الروسي العظيم دوستويفسكي كان بارعًا في كشف الذات الإنسانية في مراحل كذبها على ذاتها، بسبب قدرته على تصوير الصراعات النفسية المركبة للشخصيات والحيلّ النفسية التي قد يرتكبها الشخص ليعالج هذا الصراع، عبر الأسئلة المتولدة من القصص الخيالية المختلقة.

وقد نتساءل: إذا كان الروائي كاذبًا؛ فلماذا نعيش كذبته؟، بل لماذا تصبح حقائق؟، حتى أن راسلنيكوف، بطل "الجريمة والعقاب" لديستويفسكي، يحيا بيننا حتى اليوم بكل أفكاره، وأفعاله، وحتى لا يمكن لأي مصري ألا يصدق في أن "سي السيد"، الذي اخترع شخصيته نجيب محفوظ في "الثلاثية"، لا يعيش بيننا نموذجًا سلوكيًا أخلاقيًا على الذكورية والتناقض في حياتنا!

الإجابة؛ لأنها ابتدعت بمفهوم الكذب السردي، بغية الوصول للحقيقة. وهذا هو الفارق بين أي كذب، وبين الكذب السردي. الكذب في الحياة، يتأسس على وهم، لذلك يُنسى. ويقال دائمًا أن الكذاب ينسى كذباته، بينما الكذبة السردية لا تُنسى؛ لأنها تحقن بعناصر الخيال، أو التخييل.


عدد القراء: 671

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-