«محمد الفاتح» و«مارتن ميستري» التباين الحضاري في الرسوم المتحركة الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-27 01:02:44

محمد الحارثي

السعودية - جدة

كان عالم الرسوم المتحركة أو ما يعرف بأفلام الكارتون باعتباره صناعة غربية صرفة منطقة مجهولة وعالم مبهمًا بالنسبة للعالم العربي والإسلامي كما هو حاله مع كثير من منتجات الحضارة الغربية وثقافتها لأسباب كثيرة ليس المقام يتسع لذكرها، إلا أنه بالإضافة إلى ذلك فقد تعمق انصراف العالم العربي والإسلامي عن الالتفات إلى عالم الكرتون وذلك لأنها في نظر البعض مواد مرئية لا تشكل قيمة مادية أو معنوية، فهي ليست سوى تسالي الأطفال بما بها من تصاوير مفعمة بالألوان، كما هو حال الدمى والألعاب وصور الكاريكاتير.

غير أن هذا التَّصور قد يكون مستساغًا بعض الشيء خصوصًا في بداية صناعة الكرتون؛ إذ أن صناعة الكرتون في بداية أمرها كانت تقدم نفسها بوصفها موادًا ترفيهيةً للأطفال لا أكثر، وبالتالي فقد تلقَّفتها الاستهلاكية العربية كما تلقَّفت غيرها من صادرات الثقافة الغربية دون أن تتم الرقابة الفعَّالة على تلك المواد فضلاً عن دراسة محتواها دراسة علمية دقيقة، غير أنه بعدما تطورت صناعة الكارتون وبلوغها مرحلة معينة،  تبيَّن بما لا يدع مجالاً للشك أن تلك المواد الكرتونية  ليست كما كان يعتقد حيالها من أنها منتج ترفيهي أو مادةً مسليّة  فحسب، بل إنها كانت بالإضافة إلى ذلك أوعية لرسائل ومضامين حضارية وثقافية.

حتمية التحيز:

قد يقال ما الضير في أن تكون أفلام الكرتون حاملة لمضامين حضارية تخصُّ النموذج الحضاري الذي صدرت عنه كما هو عمل الفن في الجملة من حيث هو وسيلة من وسائل التعبير عن الذات، وأحد أشكال العرض الإبداعي لسردية نماذج الحضارات وثقافاتها، وهذا الرأي الوديع  منقود من وجهين أولهما: أن المحتوى المتضمن لتلك المواد الكرتونية يحمل في طياته تحيُّزات حادة للنموذج الحضاري الغربي، والتي يتم تسريبها للمتلقي بطريقة غير مباشرة، الأمر الذي يخلق لديه مع مرور الوقت شعورًا بالانتماء لتلك التحيزات، وعن مفهوم التحيز يقول عبدالوهاب المسيري "إن خلف كل نموذج معاييره الداخلية، التي تتكون من معتقدات وفروض ومسلمات وإجابات عن أسئلة كلية ونهائية تشكل جذوره الكامنة وأساسه العميق، وتزوّده بالبعد الغائي وهي جوهر النموذج، والقيمة الحاكمة التي تحدد النموذج وضوابط السلوك وحلال النموذج وحرامه .. وباختصار فهي المرجعية النهائية للنموذج، التي تجيب على الأسئلة الكلية والنهائية (ما الهدف والغاية من الوجود في الكون، هل الإنسان مادة وحسب، او مادة وروح، أين يوجد مركز الكون كامنً فيه أم مفارقًا له؟)[العالم من منظور غربي، عبدالوهاب المسيري  ص17]

و الوجه الثاني: أن تلك التحيزات التي تتضمنها أفلام الكارتون للنموذج الغربي تتَّصف  بالعدائية العميقة للتصور الصحيح للإنسان عن الوجود والمرجعية النهائية والنظرة الشمولية للكون والحياة، وذلك من خلال تمظهرات عدة أهما  اعتبار الوجود مادة وحسب، وأن القيم ليست سوى القيم النفعية، وأن استحقاق البقاء يكون للأقوى، وأن مفاعلات الحياة ومحركاتها لا تخرج عن المحرك الاقتصادي والمحرك الجسماني، وأن معايير الجمال والذوق هي المعايير الشهوانية ذات الأصل  الغريزي، وأن الغاية تبرر الوسيلة، وأن الأخلاق هي الأخلاق المصلحية باعتبارها القيمة العليا في النموذج، وأن الطبيعة إله والعلم التجريبي رسولها.

الحضارات.. سلم أم صراع؟:

لقد تعددت الآراء حول طبيعة العلاقة بين الحضارات، وانحسرت تقريبًا في أربعة اتجاه رئيسة أولها: أن العلاقة بين الحضارات منتهية بصدام لا مفر منه، وثانيها: أن الصراع الثقافي قد بدأ في داخل الحضارة الغربية نفسها وأنها بصدد التقوض من الداخل، وثالثها: أن الحضارة الغربية المتمثلة في صيغتها الأمريكية هي نقطة نهاية التاريخ وآخر محطات التدافع الإنساني، ورابعها: أن السلم بين الحضارات احتمال ممكن إذا سلك الناس مسلك الديموقراطية العلمانية [انظر: صراع الحضارات بين عولمة غربية وبين بعث إسلامي، جعفر شيخ إدريس. 25]

وبغض النظر عن الترجيح بين هذه الاتجاهات ، إلا أنه على  افتراض أن ثمة مساحة للسلم والتخادم بين الحضارات وبعضها البعض، إلا أن طبيعة العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية مع وجود بعض التفاهمات بين الحضارتين حيال جوانب معينة، إلاَّ أنها علاقة تعارض وتناقض لا يمكن أن تنتهي إلا بصدام واسع النطاق؛ وسبب ذلك لا لأن  الحضارة الغربية حضارة  ذات مرجعية مادية متوحدة  منكرة للمطلقات ومنكرة للمعايير المتجاوزة فقط، وإنما لكونها  حضارة إبادية اقتلاعية نتزع نحو الصراع واجتثاث الآخر من سياقه الحضاري والثقافي خصوصًا إذا كان هذا الآخر يشكُّل حالة تهديد وجودي لمصالحها (غير المشروعة) غالبًا،  كما أنها تقوم  بتدويل نموذجها على العالم بغية أن يكون العالم كله  تحت هيمنتها وسلطانها،  مستخدمةً في ذلك حشدًا من الوسائل والأدوات المؤثرة مثل  التبشير بالفردوس الأرضي، والقضاء على كافة المشكلات وتنمية قطاع اللذة. وما الإمبريالية بشقَّيها الاستعماري والاستشراقي، والعولمة بشقيها الثقافي والاقتصادي، والتسرطن الرأسمالي في حياة الفرد، وبناء أسطورة الرجل الأبيض أوضح أدلة على ذلك "مشكلتنا أن الحضارة الغربية ليست راضية حتى بالقليل الذي تبقى لنا من الحضارة الإسلامية، بل تريد لنا ولغيرنا ألا نكون عقبة في طريق مصالحها القيمية أو المادية، بل أن كون تابعين لها في كل ذلك…. فقادة الحضارة الغربية يخشون على حضارتهم من كل بادرة إحياء لتلك الحضارة التي كانت سائدة، ومما يزيد خوفهم قول المختصين منهم في التاريخ الإسلامي، إن للإسلام مقدرة عجيبة على العودة كلما هزم "[صراع الحضارات بين عولمة غربية وبين بعث إسلامي، جعفر شيخ إدريس ص 46]

النموذج والنموذج المضاد:

لقد تمكَّن النموذج  الغربي بفضل أدواته من اختراق  الثقافة العامة للمنظومة  العربية والإسلامية، قاصدًا بذلك تطبيق رؤيته التي تهدف إلى تطويع المنظومة وإخضاعها وتوظيفها لخدمة مصالحه الخاصة به، وقد كان تصدير المحتوى  الثقافي عبر القنوات الثقافية أهم تلك الأدوات التي تم استخدامها في عملية الاختراق، وقد حققت نجاحًا بنسب متفاوتة على بعض المستويات يصعب إنكاره، إلا أنه في المقابل تكونت جيوب مقاومةٍ رفضت عملية التصدير التي يمارسها النموذج الغربي لمنتجاته الثقافية باعتبارها سلبًا لذاكرة الحضارة الإسلامية وهويتها وأداة للهيمنة عليها وعلى مقدراتها، ولم يكن دور تلك الجيوب  مقتصرًا على الحد أو التخفيف من تلك الاختراقات والحفاظ على ما تبقى من  مكونات الهوية  العربية والإسلامية فقط، وإنما تقديم بدائل صحية  خالية من التحيزات التي يتضمنها المنتج الغربي، وغنية  بالتحيزات للنموذج العربي والإسلامي بكل مكوناته الحضارية، فنجمت عن ذلك حالة من التَّضاد والاشتباك ظهرت على أسطح فضاءات متعددة من ضمنها  فضاءات الإبداع  والفنون في زاويتها  المتمثلة في صناعة أفلام الكارتون والرسوم متحركة.

ولدراسة هذه المفاصلة الحضارية بين النموذجين الغربي والإسلامي في فضاء الرسوم المتحركة، فقد استحضرت شخصية محمد الفاتح بطل فيلم "فتح القسطنطينية" وشخصية مارتن ميستري بطل مسلسل "مغامرات مارتن". وسبب اختيار هاتين الشخصيتين هو أن كلا  الشخصيتين قد عبرتا عن النموذج الحضاري الكامن فيهما وفيما تضمنته قصتهما بكفاءة عالية، مع التَّنويه إلى أن التفرقة بين  شخصية محمد الفاتح بوصفها شخصية حقيقية وشخصية مارتن  بوصفها متخيلة تفرقة غير مؤثرة على نتيجة الدراسة، بالإضافة  كذلك  إلى انعدام جدوى التفرقة بين "فتح القسطنطينية" باعتباره فيلمًا، ومسلسل "مغامرات مارتن  باعتباره  مسلسلاً؛ لأن هذا الأخير وإن كان مسلسلاً من عدة حلقات إلا أن كل حلقة تقريبًا وحدة مستقلة ومتماثلة مع غيرها من الحلقات  من حيث العناصر والأدوار والحبكة الدرامية، والاختلاف يكون في قصة كل حلقة  فقط.

أ) مارتن ميستري:

بطل مسلسل "مغامرات مارتن" الصادر عن شركة "مغامرات مارتن" هو مسلسل كرتوني مستند إلى القصص المصورة الإيطالية "مارتن ميستري" التي أنشأها ألفريدو كاستيللي. أنتج المسلسل بواسطة Marathon Media وImage Entertainment Corporation، وعُرض لأول مرة في عام 2003. تدور أحداثه حول مارتن ميستري، مراهق يعمل مع أخته غير الشقيقة ديانا وصديقهم رجل الكهف جافا في التحقيق في الظواهر الخارقة وحل الألغاز الغامضة ومصارعة القوى الشريرة لصالح منظمة سرية تدعى "المركز".

 بداية فمن حيث ملامح  الشخصية نجدها شخصية شاب أبيض ذكي جدًا وظيفته استخدام عقله كأداة مركزية في التغلب على الوحوش الشريرة دون أن تكون لديه خصائص ذاتية خارقة عن العادة كأن يكون لديه مقدره على الطيران أو التخفي مثلاً، ولكنه مع ذلك ينتصر على القوى الشريرة انتصارات خارقة، تفتقر إلى نسقية  منطقية معقولة بحيث، وهذه الجزئية من الشخصية تعبر عن حالة الغرور في النموذج الغربي المتمثلة في ادعائه  السيطرة على الطبيعة ، كما تعتبر عن  مركزية الرجل الأبيض وفوقيته من زاوية احتكاره للعقل والتفكير في إطار من العنصرية الصارمة، الأمر الذي تجليه شخصية  مساعد "مارتن"(رجل الكهف)  وهو رجل ملون كثير شعر الجسم، يتسم بالغباء وعدم البيان ويظهر في  بعض لحظات الغضب وهو يضرب بقبضتيه على صدره كما تفعل الغوريلا.

ومن سمات شخصية مارتن أنه فتى وسيم جدًا (وفق معايير النموذج الغربي) وعصري في مظهره وهندامه، مرتديًا بنطال جينز وقميصًا جذابًا، ومتقلدًا قلادة حول عنقه، وشعره مسرَّح على طريقة المراهقين الأمريكيين، وكل ذلك يقبع تحته التأكيد على محورية الموضة الغربية، ووجوب الاستمساك بها كأسلوب أوحد للملبس والمظهر الأنيق، ناهيك عن توظيف العري والمشاهد الخارجة باعتبارها شكلاً من أشكال التفوير الغريزي، الذي هو بدوره أحد أذرع تنمية قطاع اللذة إحدى الركائز الأساسية في النموذج الغربي.

كما تظهر شخصية "مارتن" متناقضة في تضاريسها وسماتها العامة، فهي شخصية محوريِّة يفترض أن تكون ذات سمت وانضباط أخلاقي وسلوكي، وفي المقابل تحظى بتقدير واحترام من قبل الوسط الاجتماعي المحيط، لكن العكس صحيح فهي شخصية مغرقة في الرقاعة والتهتك، ودائمًا ما يتملق الفتيات اللواتي يقابلنه بالتزرية والإهانة، وهو في المقابل يتلقى ذلك بالقبول والرضا. هذه الفوضوية في رسم الشخصية الرئيسية يقف خلفها مفهوم السيولة الشاملة التي عبر عنها المسيري وجيزموت باومن في أن ما بعد الحداثة قد أتت على المفاهيم والثنائيات الصلبة وقامت بتذويبها وخلطها مع بعضها البعض، فارتفع مفهوم التناقض، وانعدم المعنى في التفرقة بين الأضداد كالتفرقة بين الخير الشر، والمروءة والسفالة، وليس ظهور هذه السيولة محصورًا في هندسة الشخصية المحورية للبطل، وإنما تتجلى كذلك في أسلوب كتابة القصص الذي هو عبارة عن خليط غير متجانس من الكوميديا والرعب والإثارة والفنتازيا.

ويلاحظ أن الدين أو المقدس لا وجود له في المضمون القصصي لحلقات المسلسل، وإن كان ثمة ظهور للدين فيظهر كجزء من أسطورة قديمة، أو يظهر كوسيلة تستخدم للتعاطي مع قوى شريرة سواء من شخصية تحمل ذات الوصف، أو من شخصية تتسم بالسذاجة والسطحية، علاوة على أن خلط الدين بالسحر والشعوذة من العلامات الفارقة في المضمون القصصي للمسلسل. هذه الجزئية يختبئ تحتها موقف النموذج الغربي من الدين الذي كان يقف منه في بداية المتتالية العلمانية  موقفًا محايدًا على أساس أن الدين ممارسة ذاتية فردية خاصة نوعًا ما، ثم تحول الموقف في مرحلة متأخرة من المتتالية إلى معاداة  الدين وتفريغه من محتواه المتجاوز، وخلع الصورة الأسطورية عليه، ونزع القداسة منه ومنحها  للعقل التجريبي التجريدي المادي، كما أن الإسقاط على  الإسلام بالذات واضح في بعض الحلقات، كتصوير مجموعة من الناس في معبد وهم في وضع السجود لكاهن يتوسطهم وهو يتلو تعاويذ غير مفهومة على أساس أنه يخاطب القوى الخارقة. [انظر: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، عبدالوهاب المسيري ج2ص121- 122].

ب) محمد الفاتح:

 هو بطل فيلم "فتح القسطنطينية" فيلم كارتوني عربي، تم إنتاجه 1995 بواسطة شركة "آلاء" للإنتاج الفني والتوزيع، والمملوكة للسعودي "أسامة أحمد خليفة" تدور الأحداث حول  القصة التاريخية الشهيرة لفتح القسطنطينية على يد القائد المسلم السلطان محمد الفاتح، ويستعرض الفيلم نشأة محمد الفاتح وعوامل التأثير في حياته والمكوِّنات التي كوَّنت شخصيته، وحادثة  توليه مقاليد الحكم، وتصميمه بعد ذلك على  فتح القسطنطينية ورفع الظلم عن أهلها ودعوتهم إلى الإسلام، الأمر الذي ينجم عنه حصاره للقسطنطينية وقتال البزنطيين وانتصاره عليهم واقتحام المدينة.

بداية ينبغي التنويه على أن زاوية تناول شخصية محمد الفاتح وقصة فتح القسطنطينية ليست زاوية توثيقية للقصة من خلال عرضها على المصادر التاريخية، وإنما غاية الدراسة هي تحليل المادة المرئية للكشف عن التحيزات الحضارية الكامنة فيها.

ملامح الشخصية: يظهر محمد الفاتح كشخصية معتدلة القامة ممشوقة الهامة بأنف حاد ولحية مشذبة معبأة بالسواد، وعنق طويل ونظرات ثاقبة، كما يظهر مهيبًا متفجرًا ثقة وأنفة من غير غرور أو كبر، وقد جاء التعليق الصوتي للشخصية متساوقًا مع الصورة إلى حد لا بأس به.

ويمكن القول أن مادة الفيلم مادة إسلامية خالصة، ليس لأنها استعارت حدثًا تاريخيًا من التراث الإسلامي، أو تضمنت عرض الممارسات والشعائر الإسلامية فقط، وإنما لأنها كانت تنطلق من قيم إسلامية أصيلة، وتعبر عن تحيزات حضارية للنموذج الإسلامي، بالإضافة إلى مناقشة مسائل جدلية في المجال التداولي الفكري كمسألة انتشار الإسلام بالسيف.

تقوم القصة على جوهر بالغ التجذُّر في المخيال الإسلامي، هو أن الإنسان ليس مادة وحسب كما تعرِّفه العلمانية الغربية، وإنما له تكوين ثنائي  من مادة وروح، فالمادة  هي الجسده الذي ينتمي إلى الطبيعة وتماهى معها ومع نواميسها، ويتم التفاعل بينه وبينها وفق مسطرة قانونية في إطار من  التكامل والتنافع لا التَّضاد والتغالب، والروح هي ذلك السر الخفي الذي لا ينتمي إلى الطبيعة المادية إلا من جهة ارتباطه بالجسد الإنساني، وإنما ينتمي إلى فوقيةٍ متجاوزة متعالية عن الطبيعة ومنزهة عنها تضم المُثل والأخلاق والجمال، ومن ثم يكون الإيمان بالله عز وجل امتدادًا حتميًا لهذه الكينونة الثنائية للإنسان، ومادة الفيلم مشرَّبة بهذا المعنى  ابتداء من قضيتها الكبرى إلى أدق التفاصيل فيها. [انظر: الإسلام بين الشرق والغرب، على عزت بيغوفيتش ص132]

تضمَّن الفيلم حزمة من القيم الأخلاقية المطلقة المتجاوزة التي يأتي العدل على طليعتها  بوصفه المحرك الأساس لديناميكيات القصة، حيث يتم عرض حال أهل القسطنطينية وهم يرزحون تحت وطأة الظلم  والعسف والفساد الإداري والأخلاقي، ويشيع فيهم  الجهل والتخلف، الأمر الذي خلق حالة أسى لدى  الفاتح على حال  القسطنطينية وأهلها كما تخلَّقت هذه الحالة لدى أسلافه من قبل، فيصمم على فتح القسطنطينية واستنقاذ أهلهما مما هم فيه وتبليغ الرسالة الإسلامية لهم من غير إكراههم على اعتناقها، أو احتلال أراضيهم وسلب مقدراتهم، يظهر ذلك في حوار رسول الفاتح إلى قسطنطين إمبراطور البيزنطيين حيث يقول: "إنها تعاليم ديننا الحنيف نقاتل من أجل كلمة التوحيد ولا نطمع أبدًا في ملك ولا حبًا في القتل، وكونوا على يقين بأنه لن يصيب أهل القسطنطينية مقدار ذرة من ضرر، وأن السلطان محمد مستعد للتفاوض لتقديم كل الضمانات التي تلزم لذلك، ولا نفكر في رفضكم فإن القسطنطينية لا تستحق ذلك" ومثال آخر ما جاء في خطبة  الفاتح في جنده قبل بدأ المعركة حيث يقول: "إني آمركم بتقوى الله فإنها أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة على الحرب، آمركم بصيام يوم غد قبل الهجوم لتطهير أنفسكم وتزكيتها من أدرانها… إذا تم لنا فتح القسطنطينية يكن قد تحقق فينا حديث رسول الله "لتفتحنَّ القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش"، لا ترهبوا الضعفاء واجتنبوا الكنائس فلا تؤذوها، الأسر الأسر … واسألوا الله العون على أنفسكم. كما تسألونه النصر على أعداكم أسأل الله ذلك لي ولكم قاتلوا لتعلو راية لا إله إلا الله محمد رسول الله. كما أن الأناشيد والخلفيات الصوتية للأحداث جاءت منسابة مع هذا المنحى مثل: «لم نفتح هذه الأوطان** إلا لنزيل الطغيان».

هذا التصوُّر للفتح والغاية النهائية له تستند على مسوغات إقامة العدل (القيمة القطب في الإسلام كما يسميهما المسيري) ورفع الظلم بشتى صوره وأشكاله عن الناس كافة، دون أن يكون هذا التصور مشوبًا بنية الهيمنة أو التسلط أو الاعتداء،  يقول محمد أسد "إن الإسلام ( استعماري) إذا لم يكن بدٌّ من استخدام هذا التعبير، ولكن هذا النوع من الاستعمار لم يحثُّ فيه على حب السيطرة، وليس فيه شيء من الأنانية  الاقتصادية أو القومية، ولا شيء آخر في أن تزيد أسباب رفاهيتنا على حساب شعب آخر، ولم يقصد منه في يوم من الأيام إكراه غير المؤمنين على الدخول في الإسلام . لقد قصد به دائمًا ما يقصد به اليوم من بناء إطار عالمي لأحسن ما يمكن من التطور الروحي للإنسان" [الإسلام على مفترق طرق، محمد أسد ص 34] وللاستزادة حول هذا المعنى انظر: محمد رسول السلام وسط صراع الإمبراطوريات، خوان كول.

والعدل يأتي بالتلازم مع التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى، لأنه لا يمكن تحقيق العدل بدون تحقيق التوحيد بأي حال من الأحوال، وهذا التقرير يفتح لنا مدخلاً للسؤال عن طبيعة علاقة الأخلاق بالدين؟ إذ يؤكد كثير من المفكرين والفلاسفة أن العلاقة  بين الدين والأخلاق علاقة ارتباطية وثيقة، فلا يمكن أن تؤسّس الأخلاق إلا على وجود الدين، ولا يمكن أن يكون الدين فعَّالاً من غير أخلاق، فهما من بعضهما بمنزلة البناء للقاعدة  يقول علي عزت بيغوفيتش "إن الأخلاق كظاهرة واقعية في الحياة الإنسانية لا يمكن تفسيرها تفسيرًا عقليًا، ولعل في هذا الحجة الأولى والعملية للدين، فالسلوك الأخلاقي إما أنه لا معنى له، وإما أن له معنى في وجود الله، وليس هناك اختيار ثالث، فإما أن نسقط الأخلاق باعتبارها كومةً من التعصبات، أو أن ندخل في المعادلة قيمة يمكن أن نسميها الخلود، فإذا توفر شرط الحياة الخالدة، وأن هناك عالماَ آخر غير هذا العالم، وأن الله موجود بذلك يكون سلوك الإنسان الأخلاقي له معنى وله مبرر" [الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيغوفيتش ص 178، وللاستزادة انظر: سؤال الأخلاق، طه عبدالرحمن] . فإذا تقررَّ هذا الارتباط الوجودي بين الدين والأخلاق فإن ذلك ينقلنا إلى سؤال آخر، وهو أي دين يصلح لأن تصدر عنه الأخلاق وتبنى عليه؟ وجواب ذلك يتجلَّى في النظر إلى طبيعة الأخلاق بوصفها وحدة مطلقة مجردة غير متعددة الأوجه، فلا يوجد عدلان أو مساواتان أو أمانتان، فالعدل والمساواة والأمانة كل واحد منها  مفهوم مجرد واحد، وبالتالي ينبغي أن تصدر عن ديانة ذات تصَّور توحيدي عن الإله، والقول بغير ذلك فساد في المفهوم والتطبيق؛ لأنه قد تقرر سلفًا امتناع ازدواجية الأخلاق وتعددها، وبالتالي فإن واحدًا من الآلة له صلاحية المعايرة الأخلاقية دون البقية، الأمر الذي يلزم منه سقوط غيره من الآلهة في مواجهته ولله المثل الأعلى يقول  إسماعيل فاروقي: "والمنطق الضروري المترتب على افتراض وجود إلهين أو أكثر هو سعي كل منهم للانفراد بما خلق، أو بالتابعين له وتطلُّع كلُّ منهم الى العلو على الأخر. ويبين القرآن الكريم مغبَّة تلك الاستحالة بقوله تعالى: (مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٖ وَمَا كَانَ مَعَهُۥ مِنۡ إِلَٰهٍۚ إِذٗا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهِۭ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون91]

فلن يكون لمُثل تلك الآلهة أي جدوى بالنسبة للإنسان ما لم يُجهز أحدهم على بقيتهم أو يخضعهم لإرادته؛ لأنه لن يتحقق المطلوب الرئيس لتعريف الإله، وهو توفر صفة الأعلى فيه. فلا يمثِّل الخير الأسمى والسلطة العليا والمبدأ الأخير غير مصدر مطلق، منه البداية وإليه المنتهى. أما سلطة إله خاضع لغيره أو إله معه آلهة أخرى فهي موضع شك على الدوام ولنتدبر قول الله تعالى: (لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الأنبياء: 22]

وليس بمقدور الكون أن يطيع سيدِّين ولا أن يعمل بانتظام سنني ويكون على هذا التناغم الذي هو عليه، لو كان في الوجود أكثر من مصدر نهائي واحد تتلقى الموجودات المخلوقة منه أمرها. وخلاصة ما سبق أنه لا إسلام إلا بالتوحيد. ومن المؤكد أنه في غيبة التوحيد لا تصير السنة النبوية محلاً للشك وتهتز صفتها الآمرة فحسب، بل تنهار مؤسسة النبوة من أساسها، وينسحب الشك في الآلهة المتعددين المزعومين على رسالاتهم.

ومن هنا فان الاعتصام ببذل التوحيد هو حجر الأساس لكل ما يتعلق بالتقوى والتدين والفضيلة" [التوحيد ومضامينه على الفكر والحياة، اسماعيل فاروقي 65]

وبعد استعراض قيمة العدل كَسِمةٍ بارزةٍ في دور شخصية السلطان محمد الفاتح وما تتضمنه القصة بشكل عام، فإنا نأتي إلى استعراض جملة من القيم الأخلاقية التي كان لها حضورًا واضحًا في مادة الفيلم، ومنها قيمة المساواة بين الناس باعتبار أنهم جميعًا بشر، وأن ما بينهم من فروقات طبقية أو وظيفية لا يجعل وصف البشرية حكرًا على بعضهم دون غيرهم، وتتجلى قيمة المساواة في صورة بديعة من الفيلم عندما يظهر الفاتح وهو يقوم بمشاركة العمال في بناء الحصن استعدادًا للمعركة، مع احتفاظه بكامل هيبته ومكانته الاجتماعية العالية، الأمر الذي يلفت نظر رسل البيزنطيين حينما شاهدوا هذه الحالة الإنسانية الفريدة. كما أن قيمة التسامح الديني والانفتاح على الآخر والاستفادة منه دون الانصهار فيه حاضرة من خلال حوار الفاتح مع العالم البيزنطي (بسكانيدس) حيث يقول الفاتح: "إنَّ عدالتنا تنطلق من عقيدتنا، وأوكد لك أن أبواب دولة الإسلام مفتوحة دائمًا للفكر والعلم والباحثين عن الأمان والسلام".

ومن جانب آخر نجد أن مادة الفيلم مشبعة بالظواهر الإسلامية  الخالصة التي  تجلَّت  في العديد من الجوانب مثل، التأكيد على تقوى الله في السر والعلن، والحث على التوبة ومجانبة الذنوب، وإظهار الشعائر الإسلامية كرفع الأذان وإقامة الصلاة، ودعاء الله عز وجل والابتهال إليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحثُّ على طلب العلم وتقريب أهله وإكرامهم، كما أن تفعيل المنظومة الفقهية الإسلامية بما تضمنته من أحكام واضح  بشكل ملحوظ، مثل التركيز على طاعة وليُّ أمر المسلمين طالما كان ذلك في غير سخط الله، والالتزام بصف المسلمين، يظهر ذلك من خلال  موقف والد محمد الفاتح مراد الثاني (وقد كان قد تنحَّى عن الحكم لصالح  محمد الفاتح) حينما أمره ابنه بقيادة الجيش، فما كان من مراد الثاني إلا الامتثال لأمر الخليفة بغض النظر عن علاقة البنوة التي بينهما. بالإضافة إلى تفعيل دور الشورى فيما يتعلق بأمر المسلمين ومصالحهم، وإنذار أهل الحرب ثلاثة أيام بعد عرض الإسلام عليهم أو الجزية، وغيرها من الأحكام الفقهية. هذا الانتشار الواسع للمضامين الإسلامية على مادة الفيلم ما هو إلا انعكاس لمفهوم أصيل في التصور الإسلامي وهو أن الإسلام ليس جزءً من الحياة، وإنما هو الحياة كلها، كما أنه ليس عقيدةً في أخلاد معتنقيها فقط، وإنما هو عقيدة وشريعة، وفلسفة وتصور، ورؤية حضارية ونمط ثقافي، وقانون وأخلاق، وآداب وسلوك.


عدد القراء: 752

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-