قراءة في رواية «عزلة الأشياء الضائعة» الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-27 01:43:16

د. غزلان هاشمي

جامعة سوق أهراس- الجزائر

الكتاب: "عزلة الأشياء الضائعة"

المؤلف: د. لونيس بن علي

الناشر: دار «الجزائر تقرأ»

عدد الصفحات: 91 صفحة

تعول رواية "عزلة الأشياء الضائعة: القصة المريبة لمصرع مواراكامي ـ في مصحة الاعتراف" للناقد الجزائري الدكتور لونيس بن علي على المخاتلة والالتباس، لذلك تحتاج إلى قارئ نوعي يحاول تفكيك شفراتها واستنطاق مسافاتها الصامتة، لذلك نحاول في هذه القراءة أن نستكشف المضمر وأن نقف على الدلالات المغيبة.

قراءة العنوان: يختار الكاتب هذا العنوان المركب ليؤكد على مسارات تأويلية متعددة، أو انبثاقية في حكم المستقبل النصي تبتعد عن البوح المبتذل أو الدلالات السطحية، فلفظة "عزلة" تحمل معنى الانغلاق والاغتراب والوحدة والتفرد وحتى التعالي عن الممكنات الواقعية، وأما لفظة "الأشياء" فتحمل مضمونية اختلاقية متعددة تتجاوز الإفراد وتلتحف الالتباس بسبب ضياع تفاصيلها في المقول/الصياغة المستقبلية، وكأن بالنص يقدم عرضًا استبداليًا/هامشيًا لموت موراكامي يعارض الرواية الرسمية، ليؤكد أن الحقيقة كامنة في تفاصيل الغياب ومسافات الصمت وحتى في عوالم الجنون وبوحها المتكتم "مصحة الاعتراف"، إن المصحة بماهي تعديل للمسار الحكائي، وترميم للذات المعتلة عبر فجوات بوحية مختلفة، تصبح شاهدة على سلطة ضبطية تؤطر النصيات وفق منطق الانغلاق، وتسيج الاعتراف بقوانين ترتكز على الشك وتبتعد عن اليقينيات الثابتة .. 

الآخرية حينما تتحول إلى قناع:

تحاول الذات أن تخلق موضعية مركزية من خلال المثول الآني الذي يفرضه استلام السرد، فالآخر يقف على تخوم الغيرية التي تتشكل عبر مراحل الوعي من خلال الالتباس برؤيتها ـ أي الذات ـ وتحيزاتها، فهو في حكم الإنجاز مما يجعله هامشًا حكائيًا، ومن هنا يصبح القناع رمزًا للاستعارة التلفيقية التي تتحول إلى سلطة تهدف إلى ترتيب تفاصيل الواقع وفق منظورها ورؤيتها، لكنها تخسر جزءًا من كينونتها وهويتها حينما تصبح ضحية الذات التي تحولها إلى صياغات ونصيات مغايرة، فالقناع/الآخر/الطبيب التباس موهوم بالمركزية، حيث يدخل في دائرة الاحتمال عبر مفاعيل خطابية متحررة من سطوة الحقيقة، "تفحّصتُ وجهَه لثوانٍ، لفتت انتباهي عيناه النّاعستان، محفورتان في مساحة وجهه الدائري. وجهه مثل قناع مصنوع من الشمع، بلا تقاسيم واضحة، ولا تعابير تُوحي أنّ خلف هذا القناع تتحرّكُ روح ما.

بقي لثوان وهو يحدّق بوجهي، كالذي يبحث عن طريق سرية في غابة داغلة. كنتُ في نظره تلك الغابة التي دفنتُ فيها سرًّا عظيمًا؛ حقيقة ما حدث ذلك اليوم".ص8.

إن الحديث في حضرة الطبيب/القناع يعبر عن المحايثة التي تنافس الخطابات المركزية وتعارضها، حيث تتلاشى سطوة الطبيب وادعاءاته حول تعديل المسار الحكائي وصياغة الشخصية الغيرية/المريض، الذي يتسلم سلطة الحكي وصياغة الوعي، وحتى صيغة الأمر التي تفترض الحضور ومركزية الذات تعبر عن تابعية وامتثالية للآخر ـ المريض ـ حيث تظهر سطوة الغياب من خلال تأويليات في حكم الحذف وإظهار نصية واحدة تمنح إلى الطبيب   "- لماذا توقّفت عن الحديث بُني؟ واصل .. أنت تُبلي بشكل جيد .. لا يحدث لي أن أستقبل مريضًا يحكي بوضوح مثلك. لو التقيتُ بك في مكان آخر، لأجزمتُ أنّك روائيّ "ص10.

تقويض المرجعيات:

إن موت الوالد تعبير عن انتهاء الوصاية وتقويض لاعتبارات الذات، حيث تتحرر من سطوة المرجعيات ومن الانتقائية والتحيز الذي تضمره وتتحول إلى سردية مغايرة تنتهك الأعراف القرائية، ومن هنا تصبح الغابة تعبيرًا عن تموضعات خطابية محفوفة بالخطر، وانتفاءًا للمعيارية الثابتة وتجاورا للممكنات البوحية يشكل وعدًا بالإنجازية المتعددة وانفجارًا تأويليًا ينبثق من موت المعنى الأول/سلطة الحكي، إن الذات وهي تلتقي الوالد في الغابة تؤكد على الرغبة في الوصول إلى المعنى المتعالي ،لكنها تظل موهومة لأنها تعبر عن ظلال الحقيقة أو الهوامش الحكائية، وأما التأكيد على ضمير المتكلم "أنا" في أكثر من موضع يعد مقاومة للغياب، ومحاولة للتخلص من العوالم المحايثة التي تقف على تخوم الاحتمال/قتل الروائي، وحتى إقبار الذات/فكرة الانتحار استرجاع لضلال المعنى وتخلص منها في سبيل الوصول إلى المعنى الكلي المتعالي، "لكنّي، سأعترف أنّ الكلام حررني من أوجاعي الدفينة؛ فموت والدي سلب منّي كلّ شيء، ودمّر في داخلي الكثير من قناعاتي، وحوّلني إلى شخص آخر. من يعرفني، كانوا يلاحظون تحوّلات كبيرة في علاقتي بهم وفي علاقتي بالعالم ككل . أصبحتٌ أميل إلى العزلة، لازمتني سحب سوداء، كأنّ شتاء قوطيًا باردًا اجتاحني....

أنا لا أنسج الخيالات، أنا أقول الحقيقة.. حقيقة ما عشته في تلك الغابة. حقيقة الجريمة التي ارتكبتها في حقّ ذلك الروائي اللّعين. حقيقة لقائي بأبي في كوخ الغابة. ".ص 11.

فرويد وقتل الأب رمزيًا:

يستدعي الكاتب فرويد وكأنه يلمح إلى أن هذه الرواية خوض في المسكوت عنه، واستدعاء لتفاصيل الغياب ونبش في اللاوعي، حيث التداخل بين الواقع والحلم، بين الحقيقة والخيال، بين الجنون والعقل، فمسافات الصمت يؤثثها الكاتب من خلال الإحالة المرجعية التي تتمثل في رواية "الغابة النرويجية" والتي تحيل على سردية صادمة تقوم بالانقضاض على الراهن النصي من أجل الاحتفاء بصياغات متعددة تبين مأزق الذات واغترابها في ظل الهشاشة الواقعية، لذلك فالمريض وهو يروي تفاصيل قتله للروائي يعبر عن اعتلالات الواقع ورغبته في تعديله حكائيًا، وعن الانفلات المعياري الذي يجعل من الطبيب في حد ذاته مجرد نصية مغايرة توازي نصية المريض، ومن هنا فالحكي حياة انتقائية تقاوم الغياب/الموت وتهدد القناع بزعزعة يقينياته من خلال منحه وعدا بالإنجاز في كل مرة، وبمخاتلات منبثقة من عالم المحايثة له امتداد عبر المكون السردي، ". .في زاوية من المكتب تُوجد صورة كبيرة لفرويد.  أنا قرأتُ لهذا العجوز، وكلّ مرّة أقرأ له أكتشف الجزء الخفي من حياتنا. لم يترك لنا ما يخفي عرينا التام.

.....قُلت أنّك قتلته، وأنّك ارتكبت الجريمة في الغابة، وفي غياب الأدلة، أودّ أن ترويها لي بنفسك. ما هو مكتوب في التقرير ليس واضحًا تمامًا....

ـ تقصد كاتب «الغابة النرويجية «؟ أظنّ أنك سيدي لم تصدّق التقرير أمامك، لكن هل ستصدّق ما سأرويه لك من تفاصيل؟ لنبدأ من هنا: هل تؤمن بوجود كُتب ملعونة؟ يقولون أنّ للمصرين كتابا لعينا أطلقوا عليه اسم كتاب".ص 13.

يعبر الكتاب عن توالدات المعنى وعن الاستعارات أو ظلال الواقع، حيث تقبع الذات داخل المحصلة السردية لتصبح جزءا من هويتها، لكنها تظل مسكونة بخطر التوجس وأوهام التمثل وإساءات التأويل، لذلك يضفي الفضول والرغبة في معرفة أسرار النص/الذات إلى انسيابية متحررة من المعيارية وكل قيمية متوارثة، وهو ما يعني قتل الأب/الكاتب رمزيًا والتحرر من سلطته، ولعل قطع المعصم يرمز إلى هذا الانطفاء الكلي للمعنى المركزي، حيث تصبح القراءة تهديدا بالبتر وتعبيرًا عن تموضعات خطابية في حكم الاحتمال، تحاول الابتعاد عن فعل الوصاية والهوية المتطابقة، "لكنّك، وفي هذا التقرير أكّدت أنّ سبب قتلك لذلك الروائي أنّه كان سببًا في وفاة والدك . تحدّثت عن موت مشبوه، عن لعنة تسللت من الكتاب لتقبض روح والدك!".ص14.

إن إصرار البطل على أنه قتل الروائي موكارامي رغم غياب الدليل بعد إجراء التحريات، يخلط المنطق السردي ويرمز إلى الاعتلال الذي يصيب الذات حينما تختلط المعايير وتتداخل العوالم، ويصبح الواقع عبارة عن تأويليات اختلاقية، فالمساء بقدر مايشير إلى اقتراب النهايات يشي بالالتباس وبالبدايات المحفوفة بالخطر وبالإلغاز ،لذلك يتعالى المعنى المركزي ويتوارى فاسحًا المجال للاحتمال، هذا ويصبح الحوار بين الذات والمتحري محاولة لحيازة مركزية المثول في حضرة سلطة قمعية تحاول الاستحواذ على النص، فالذات تباشر هيمنتها من خلال الحكي ليصبح الآخر/المتحري/السلطة في حكم الغياب، ومن هنا يتحول الموت المرتكز على دهشة السؤال واحتمالية الجواب المؤجل إلى انبعاث، وكأن بالذات تجدد كينونتها عبر تلافي الاعتبارات الهوياتية القبلية، وتؤكد على أن الإنجازية هي ممارسة فعلية لمركزية الحضور بعيدا عن سلطة الآخر وهيمنته الموهومة.

تهشيم الزمن:

تعيش الذات في انغلاق وانكفاء، حيث تتلاشى الغيريات ويتلاشى معها الواقع العيني، لكن هذا التقوقع يشي بالتشكل ضمن سردية موازية/الرواية، ومن هنا تتراجع المعقولية ويغرق النص في الشتات والاضطراب، وكأنه يعبر عن الانفلات المعياري والقيمي وعن المأزق الداخلي الذي وجد فيه البطل، فتهميش الزمن وتهشيمه والإغراق في العالم النفسي والتداعيات الخطابية التي تفسح المجال لمركزية الأنا المتحدثة تبشر بهوية مشتتة وببعديات لا مجال معها لسلطة الضبط والتحديد، هذا ويعمل فعل التذكر على الاسترجاع الخطابي بدل الاسترجاع الواقعي، حيث تصبح المحايثة قدر الذات/النص، "شرنقة ذكرتني برواية موراكامي 1Q84 شرنقة هوائية أعيش داخلها. هنا لا أكاد أشعر بالزمن يتحرك حولي. كان قراري أن أتعفّن داخل هذه العزلة".ص 21.

يركز الكاتب على الرواية بوصفها عالمًا موازيًا يعيد تشكيل الواقع وصياغة ممكناته بعد التحرر من سلطة الحقيقة، لكن الواقع الذي تحايثه وتسعى إلى تقويضه في حد ذاته عبارة عن سردية أخرى/الرواية المركزية، وكأن به يؤكد على أننا عبارة عن صياغات متعددة تقف على أرضية الاحتمال، وأن الواقع ماهو إلا فلتات بوحية يلفه الافتراض، ولربما تكرر اسم هاوروكي موراكامي دليل على التحرر من الصبغة المؤسساتية واحتفاء بنص تتجاور فيه العوالم وتعيش فيه الشخصيات مأزق التعدد واختلالات القيم، "وصلتني رسالة من شخص لا أعرفه، كان قد قرأ مقالة نشرتها في موقع نافذة الخيال، أيّاما فقط بعد وفاة والدي.  كان موضوع المقالة، قراءة في رواية الغابة النرويجية لهاروكي موراكامي.  المقال نشرته أسبوعا بعد رحيل والدي، وكأني أتحدى الموت من خلال الكتابة".ص 23.

إن الرسالة بماهي اعتراف ونص في حكم الاحتمال تمارس سطوتها من خلال المجهولية التي تسيجت بها، فالانتقال اعتراف بموت كاتبها وبأنها بصدد إنجازية مغايرة حينما وصلت إلى المتلقي /الذات، إذ تجعلها في حالة إرباك وتزعزع مسلماتها وتقوض هويتها، لذلك تحاول فك شفراتها، خاصة وأنها تقف في نقطة تماس عالم الجنون مع عالم العقلانية وعالم الأخيلة مع عالم الواقع...، "لم أنم ليلتها، تسلل إلى داخي رعب بدائي.  شيء ما يصعب تصديقه، وكأنّ فصلًا من رواية قوطية تكشّفت أحداثه أمامي، أو مثل حقيقة كان لا يجب أن تطفو على السطح. ما كتبه ذلك المجهول، زلزل كياني، قذفني نحو منطقة مريبة . لقد أيقظت الرسالة أسئلة مريبة: ما علاقة موت أبي برواية موراكامي؟".ص 24.

لم يعد المرض في هذه الرواية تعبيرًا عن فوضى نفسية وتبعثرات على المستوى العيني، وإنما انبثاق خطابي يعبر عن استثنائية تتحرر من وهم التماثل والتطابق، واختلاق سردي يقاوم الموت/العدم، أما المصحة فتحرر الاستجابة/التلقي وتجعل الاستقبال النصي محفوفًا بالخطر لأنه لا يلامس الواقع ولا يتحالف مع ممكناته، "كل يوم أستقبل حالة وأحيانًا أكثر من حالة، وبين كل الذين رأيتهم، أنت تمثل حالة استثنائية جدًا. المرضى يلوذون إلى الصمت، يدفنون الحقيقة في أعماقهم، وإذا تكلموا نثروا أمامك كلاما بلا معنى.  أمّا أنت فتحكي بشكل ملفت، لك مستقبل كبير في عالم الرواية. لن أخفي عليك بني، أني حين كنت في عمرك تعلقت كثيرًا بالأدب، وكنتُ قارئًا كبيرًا للرواية".ص29.

إن الحلم عالم محايث ومنجز خطابي متحرر من سطوة القيميات والمعايير، فالذات معه تسترجع سلطتها وقدرتها على تشكيل المستقبل النصي، لكن حضور موراكامي وغابته يؤكد على أنه تشكيل غير منفلت من السلطة الغيرية، حيث يقذف بالمرجعيات/الأم في لحظة العدم، ويؤسس على التقويض زمنية مغايرة تؤمن بالمابعديات والانسيابية، حيث لا رقابة ولا سلطة ولا معيارية ثابتة.


عدد القراء: 835

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-