القـطـار (قصة قصيرة)الباب: نصوص

نشر بتاريخ: 2024-09-27 13:17:36

محمد عباس علي داود

الإسكندرية – مصر

رأيته جالسًا وحده

مواجهًا للداخل، السيجارة بين يديه دخانها يصنع ستارًا ضبابيًا بيني وبينه، من خلف الضباب رأيت عينيه تبرقان، نجمتان يخترق نورهما ضبابية اللحظة لكنهما شاردتان، تائهتان في فضاء لانهائي، يرمحان عبر براحه، لا يهدآن.

لحظتها فهمت معنى أن يفقد الإنسان عزيزًا. أطلق بعض الدخان من فمه، ازدادت ضبابية اللحظة بيننا، من خلفها واصلت النظر ناحيته. كان ينتظر مني الخبر، ينتظر أن أنطق به، أهز ركود الصمت الذي يحتوي كلينا، لكني لم أستطع النطق به. رأيتني أعود إليها، أتصورها تصرخ ذاهلة، ترفع يديها أمامها، تحاول رد القدر، يطلق القطار صفيره، أفزع، تعاودني الرعدة، أنفجر في وجه الضباب والدخان: دهسها القطار.

قاصدًا أختي.. قال ببطءٍ: أعرف

ونفخ مزيدًا من الدخان.. تفجرت الدموع من عيني.. القطار حديد يتحرك، والحديد لا قلب له، مهما ارتفعت حرارته لا يحس، لا يلين، قلت:

-  أبى، لا أحب القطار     -

 -من خلف السحابة المضببة بلونها الرمادي قال:

- لم يكن لها أن تقف أمامه

الردهة ممتلئة بالسواد، دنوت من أمي، عيناها حمراوان، قسماتها ذابلة يعلوها اصفرار. تمنيت أن أعتذر لها لأنني تأخرت. لو أسرعت قليلاً وقلت لها الخبر الذي لديّ كانت ستفرح لبعض الوقت قبل أن يدهمها الحزن.

مددت لها يدي، اعتمدت عليها، همست وهي تنظر في حبتي عيني: لن ترى أختك ثانية.

- انشرخ صدري من الحزن، عاد القطار يرسل صفيره المشئوم، يصرخ منذرًا، مهددًا، مطلقًا طيوره السوداء تحلق أمام عيني، تحجب ضوء الشمس، وأختي هناك، تستدير، ترتعد، تتصلب في مكانها، وتمد يدها ظنًا منها أنها تملك القدرة على صده والنجاة منه، يدوّي الصفير في الآفاق، يزداد شعوري بالذنب، اليوم بالذات كنت سعيدًا، باسمًا طول الطريق بعد أن رأيت نتيجة الامتحان، كنت الأول، شيء لم يحدث من قبل، كنت محلقًا كعصفور نبت له جناحان منذ قليل، يضرب بهما الهواء ويمضى. اقتربت من البيت، من أول الشارع أخذت أسابق اللحظات وحين اقتربت ارتجف بدني، دخلت الشقة، بياض الجدران غطاه سواد الثياب. زفة الأنوار حجبتها ظلمة الدموع.. حكت لي إحداهن عن القطار.. قالت إنه كان يركض، لا يتوقف، قلبه الحديدي لا يدق، وعيناه لا تبصران.. أطلقه القدر ليراه الناس.. يحكون عنه ويخشون منه.. لا أعرف لحظتها لماذا رفرف العصفور الصغير بجناحيه الرقيقين عاجزًا عن حمل نفسه وهوى أرضًا.. شعرت أنى بحاجة لوجود أبي.. ابتعدت صامتًا ابحث عنه وحين وجدته كانت سحابة ضبابية تفصل بيني وبينه.. كان لدّي الخبر الذي أعرف أنه يتوق لسماعه.. لكنني لم أجد له معنى الآن، بكيت!

*   *  *

خرج أبى من حجرته، وجهه قسماته جامدة، عيناه نظراتهما حادة، والسيجارة في يده متأججة النيران. فتح باب الحجرة ومضى عبر الممر الواصل إلى الردهة وهناك توقف.. رفع صوته الجهوري آمرًا النسوة بالصمت.. رفعت أمي عينيها نحوه محتجة.. العينان حمراوان، يركض عبر ساحتهما الأنين، تدور الدموع، غير أنها لم تنبس بحرف.. شبكت ذراعيها أعلى صدرها وأحنت رأسها ومضت تدور في متاهة أفكارها في صمت.. قال أبي موضحًا:

- لا تؤذوها في مرقدها

وعاد إلى حجرته. شدني وجه أمي.. نظراتها نظرات حمامة بلا جناح.. تجلس ساكنة تنتظر شيئًا ما لا تدري كنهه.. فكرت أن أهبها لحظة فسحة من الحزن.. أخبرها فيها بالخبر الذي لديّ.. أشعر أني منحت الحمامة جناحين جديدين.. فتحت فمي.. لم أر جدوى للكلمات.. لن تشفى جرحًا.. لن تعيد روحًا إلى جسد بلى.. والحمامة حين ينكسر جناحاها لا تفيدها عبارات تعزية مهما كان صدقها.

انتبهت لأبي قادمًا عبر الردهة، متسع العينين كأنه في حالة دهشة دائمة وكان محني الظهر.. تقدمت نحوه.. استند بيده على كتفي ومضينا نحو الباب.. في الطريق وأنا أمضي إلى جواره مهدئًا من خطوتي لأسايره قلت هامسًا أني نجحت وأن ترتيبي الأول هذا العام.. شدّ على كتفي في صمت.. داهمني فيض من مشاعر.. رأيت القطار من جديد يطلق صفارته قادمًا كقدرٍ لا فكاك منه، والطيور السوداء والتي كانت من المؤكد أنها حلقت في مكان الحادث، وأختي وهي تمد يديها وتقف مكانها، والقطار يتقدم وصفيره يعلو.. يعلو.. يصم أذني.. صرخت.. عادت اليد تشد على كتفي وسمعته يهمس كأنما ينتزع الكلمات من جب: لا تنسى أنك رجل.


عدد القراء: 472

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-