متعة التقديم عند جبرا إبراهيم جبرا .. أيلول بلا مطر نموذجًاالباب: مقالات الكتاب
حمزة شباب ناقد فلسطيني |
الترجمة والتقديم صنعة كبار الأدب والثقافة
تُعد عملية تقديم الكتاب من أهم الأنشطة الثقافية التي تدعو إلى سبر أغوار النص وإبرازه لغويًّا و دلاليًّا، وتلقي على عاتق مقدمه تحمل مسؤولية النص الأدبي من حيث الجودة و الرداءة، غير أن نقل الإحساس وفق رؤية صاحب النص الأصيل يهدف إلى رسم خريطة له تخلو من المجاملة وترشد القارئ إلى طريقة التفاعل معه بإيجاد قنوات التواصل المبنية على الترجمة من لغة تحمل ثقافة تختلف عن عقلية القارئ الذي ينشده لمتابعته برغم سلسلة من الاختلافات القائمة على الثقافة أو اللغة أو العادة، فإن تعلق الأمر بمصاحبة التقديم للترجمة وقع كاتب التقديم في دائرة الضوء التي ستلقي على جهده تبعات التقريب وتوفير الإضاءة اللازمة في عالم النقد الذي يلملم جوانب النص، ولا يعتري الكاتب الأصيل رداءة لم يقصدها في نصه، ولا يبرزه بغير الثوب الذي أراده لنفسه منذ أن خط أولى عباراته في ذلك النسيج، فهو بحاجة إلى امتلاك عناصر التشخيص السليم لتخرج تقدمته وفق المنهج النقدي القويم في صدقه لما يحتويه المتن من تصاوير لغوية وبراعة في استخدام الدلالة، وبعبارة أخرى فهي عملية ربط المنتج الأدبي بالقارئ المثقف ومد جسور العبور بين ثقافة وأخرى تنم عن مسؤولية الرابط الذي تقع على كاهله فلسفة النجاح أو الفشل، فكان لزامًا على كاتب التقديم قياس مدى نزاهته في العرض كما يتحمل الكاتب تبعات أعماله الأدبية تمامًا.
عند امتزاج التقديم بالترجمة تتعالى المهمات المقيدة للأديب المقدم والمترجم، ويصبح في فضاء واسع من الاضطرابات التوعوية التي يحملها، وهي مهمة لا يقودها إلا كبار الكتاب الذين أفنوا حياتهم في معترك الحياة الأدبية والثقافية، فيقتطفون سطورًا من جمالية النصوص التي تعايشوا في تجربتها الشعورية أو الروائية، ثم يروون معتقداتهم في لحظة تفاعلهم مع النص، ويحورون لغته الأصيلة إلى لغة الجمهور الذي يهدف، مع التناهي الخالص في نقل اللغة نقلاً استدراكيًّا ناهيك عن اقتطاف اللهجة البيانية والمحسنات البديعية التي تفترق بين لغة وأخرى في السمات والمقاصد، وبعد ذلك يأتي دور الحركات النقدية في رسم معالم التقديم من وصف ضعضعة النص، أو إثرائه، أو أساليب استمالته ووقعه في النفس، إذن هي عملية متكاملة تقوم على ثلاثة قوائم هي الترجمة، واللغة بأبعادها البيانية، والثقافة المتداولة، فالمقدم ليس مترجمًا يتحرى الدقة في النقل، وليس مؤرخًا يتتبع الأحداث بجزيئياتها، بل هو كيان أدبي ومجمع ثقافي بارز، يعيد إعمار نص أدبي بلغته الأم، ثم يهديها لأبناء قوميته الذين ينتمون إليه، وإذا كانت الفكرة والمضمون من وحي الكاتب الأصيل، فإن اللغة والأسلوب من إبداع الأديب المقدم.
تصنف براعة أبي سدير كما كان يعرف في توقيعاته التي تتذيل منتوجاته في الشعر والرواية والنقد، وسواء كتب بالعربية أم بغيرها، ضمن حلقة التواصل الأدبي الذي حققه في دراسة الأدبين الإنجليزي والأمريكي، وانتقائه لحياة مليئة بالثقافة جمعته ونجوم عالمه العربي كالسياب والبياتي، فبغداد كانت محط أنظار الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا منذ عقود، ولعل الجامعات العراقية التي احتضنته أدركت كنه فكره القائم على بصمة المثقف، حيث تنشطر جهوده في التعريف بالآداب الإنجليزية والأمريكية بل و إبرازها على نحو ييسر عمليات التلاقح الثقافي، وإحداثيات الرؤى المركزية لإقامة التجارب الثقافية المتنوعة بناء على حرصه على الموروث العربي القديم وسلطة الأنا المتفردة بالأساليب الحداثية الناشئة عن العمق الدلالي الذي تحمله الشخصية الفلسطينية في الشتات، كاختزال الملامح الإنسانية في "البحث عن وليد مسعود" وظهور ذلك جليًّا في البناء الروائي المشترك مع الروائي السعودي عبدالرحمن منيف في "عالم بلا خرائط"، فقد شكل جبرا هرمًا عظيمًا في بناء كيانه المطل على الثقافة الواسعة من أصعدة عدة، فكانت البداية مع الدراسة للآداب وتدريسها، ثم تعاقبت مراحل تصنيفه تصاعديًّا إلى أن وصل إلى تلك المرتبة التي جعلته في مقدمة من ترجم للكاتب الإنجليزي الخالد وليم شكسبير، وما وفرت له قدرته اللغوية والدلالية في نقل نصوصه المترجمة حفاظًا على تاريخية النص وجوانبه الجمالية، ومراعاة لفقه لغته ونواميسها الإيحائية، وإذا تعلق الأمر بترجماته وتقديمه لها فقد وصفت بأنها لا تقل أهمية عن العمل الأدبي المترجم ذاته، ولولاه لوجد الناطقون بالعربية صعوبة بالغة في التعامل مع تلك النصوص، ومن الشواهد الحية على جهوده تلك الترجمة لرواية "الصخب والعنف" التي نال كاتبها الأمريكي وليم فوكنر جائزة نوبل في الأدب، والتقديم لها على نحو يكسب الإخوة الرواة في فصول الرواية ذلك المونولوج الداخلي لأحداث تشتت العائلة، بالإضافة إلى ما خلفته الترجمة من ثورة فنية معاصرة للرواية العربية من حيث اعتمادها على تيار الوعي الذي يركز على ارتياد مستويات ما قبل الكلام في الكشف عن الخصائص النفسية للشخصيات، وترجمته للكتب الغربية المتمحورة حول الشرق ككتاب "ما قبل الفلسفة".
"أيلول بلا مطر" لذة الإمتاع و دقة المؤانسة
" أيلول بلا مطر" مجموعة من القصص القصيرة المنتقاة من الأدب الإنجليزي والأمريكي المعاصر، التي اختارها جبرا بعنايته الفائقة في بدايات القرن العشرين، ولكل منها دلالات متغايرة تدل على غزارة التنويع الممكنة في التخيل والأداء، ولكنها متكاملة المقاصد في التعبير عن المواقف الإنسانية الحياتية آنذاك، وواضحة المعالم إذا ما تحدثنا عن أهمية هذا الفن الأدبي بصفته وسيلة استقصائية لحالة الإنسان والقلق على مصيره، لذلك قدمها جبرا للقارئ العربي معرفًا بشخوصها، وكاشفًا عن حبكتها حتى تصل حد الذروة، متناسيًا محددات الزمان والمكان في إبراز الشخصية لاستمالة طيف القارئ في تخيل تلك النماذج الإنسانية الحية، خاتمًا نهاية كل منها بوصف لغوي واضح مبرزًا المصير المحتم الذي لاقته شخوصها جراء تصارع الأحداث.
صدرت المجموعة المترجمة عن دار المأمون للترجمة والنشر ببغداد سنة 1987م، ويكشف المترجم في البداية عن ملابسات معينة جعلته يزيد في تنقيحه للنصوص مما أدى إلى إخراجه للصيغة التي أرادها لها حجمًا وشكلاً ودراسة، لتمثيل القصة القصيرة من بداية أساليب الحداثة إلى النصف الأول من القرن الماضي، ثم يبدأ بتأمل تاريخ القصة القصيرة بجهد بحثي واضح واصفاً إدغار آلن بو بالأب الشرعي لهذا الشكل الفني، لأنه ترك أثرًا حاسمًا بإعلانه عن فذاذة هذا الشكل كصيغة من صيغ الأدب الكثيرة، فقد برع في تركه آثارًا من قصصه التي لا زالت تهزنا بغرابتها ونفاذها وبراعة تركيبها، بالإضافة إلى آرائه النقدية في روايات وقصص معاصريه، الأمر الذي يصح الحديث عنه بأنه أول من حدد المبادئ العامة للقصة القصيرة المسترشد بها، و كيف اعترى هذا الفن الكتاب الإنجليز الذين كانوا يفضلون الرواية الطويلة المسترسلة في التركيب والمضمون، لأنها تتحمل عبء الكلمات الدافقة والخيالات البعيدة واللغة المضخمة، كما يكشف عن الأسرار الحقيقية التي جعلت القاص كعالم الأنثروبولوجيا باحثًا عن أزمة الإنسان المعاصر متوغلاً في تعقيدات حياته لترسم صورة واضحة من معاناته وبحثه المستميت عن خلاصه، فكانت القصة القصيرة محاولة لمعالجة قضايا الحياة الكبرى ضمن نطاقات ضيقة من الزخم الدرامي، حيث تعامل القاص مع قصته أسلوبيًّا تعامل الشاعر مع القصيدة، ونلمح ذلك في كل لفظة مستخدمة تعبر عن مجازية مثلى لإكساب دور لها في خلق التأثير الكلي.
اختار جبرا هذه المجموعة بناء على خصائص فنية مشتركة وسمات أسلوبية دعت إليها الحاجة لتصوير الإنسان ببعده الإنساني ومعاناته المحدقة به، فقد قلل القصاصون من شأن الحبكة ومن حجم الفعل، وأكثروا من الرمز والإيحاء والحوار شديد الدلالة للغوص في دواخل النفس البشرية، فلا يقتصر دور الواحد منهم على الإخبار بقدر تصوير صميم الشخصية المتخلقة مع تطور الأحداث التي أكسبتها سمة القصر مع التركيز المتدفق بحثًا عن معضلات الإنسان، و يكتفي بعرض نبذة طفيفة عن شخصية القاص وأبرز ملامح حياته التي كانت بفعل التأثر والتأثير في إنتاج ذلك النسيج الفني، ثم اتخذ من قصة "أيلول بلا مطر" لوليم فوكنر اسمًا لمجموعته لتقديمه سجلاً رائعًا في عالم الآداب و ما اتسم به من التواضع، فهو يتحدث عن تجربته واصفًا إياها بأنها "خدش بسيط على وجه انعدام الشهرة".
تم انتقاء هذه النماذج القصصية بعناية جبرا الفائقة كما أسلفنا، وقد وقع الاختيار بناء على دراية بأعمال الكتاب ككل، ومتابعته الحثيثة لهم، كما تأتي نظرته التكاملية لها في التعبير عن تيار أسلوبي مهد الطريق للتيارات الأدبية اللاحقة، كما كان شديد العناية بالقارئ العربي، حيث تولى إبراز السمات الفنية في ترجمته خدمة له وتقريبًا لثقافته، لأنه يؤمن بإبداعية الترجمة وتلاقح الثقافات واستجابة النفس للتجربة الإبداعية ولو كانت مترجمة، يقول جبرا "إن الترجمة لغة قبل كل شيء, ولكنها قبل ذلك حب, إذا كان للترجمة أن تكون أمرًا إبداعيًّا, فإن المترجم يجب أن يستجيب لما يترجم بعمق ويعامله كأنه نص كتبه هو, وعليه الآن أن يسكبه في لغته"، فبدأ بالتعريف بأصحاب القصص المنتخبة وعرج على ذكر مسوغات تميزها في العصر الذي ولدت فيه بعيدًا عن الجوائز والتكريمات، حيث يظهر اهتمام جورج مور بالكتابة الواقعية، وجيمس جويس الذي سمى الأشياء بمسمياتها في أدق تفاصيلها حتى رفضت نصوصه، مع إبراز جهود كاترين مانسفيلد في جمع التفاصيل لرسم معاني الحياة، وقد وصف دافيد هربرت لورنس بتركه للأثر البالغ في الكتابة، لشدة لهجته وعنف فكرته وتعمقه في طبقات الوعي، وكيف كان سومرست موام يملك القدرة على تكثيف الحبكة على وجه يقصي القارئ من التوقع بانفراجها، ليكسبه متعة الإضاءة، ويتحدث عن سلاح العقل الحاد الذي كان يستخدمه أولدس هكسلي متأثرًا بالصوفية الهندية.
ويستفيض كاتبنا في ذكر أسباب الإبداع التي قهرت صفحاته لتحجز مقعدًا لها في هذه المجموعة، مثلما عرف عن فرجينيا ولف من عنايتها بتيار الوعي والمزج بين الرهافة والأسى، لتخط لنفسها أسلوبًا نثريًّا متفردًا في رواياتها العديدة، حتى عدت كتاباتها من مؤشرات الحداثة بعد الحرب الأولى، ووصف شيروود أندرسون بأقرب إلى كونه شخصية بوهيمية وأشبه بالنزعة الفطرية للحياة، وإحداثيات تطوير صناعة الرواية الأمريكية على يد ويلا كاتر التي اعتمدت على ثيمتها الثنائية كالاستكشاف والتطوير، ثم إلى النص البنائي الطويل الذي جعل توماس ولف قادرًا على تحوير السير الذاتية إلى صيغ روائية متكاملة، خاتمًا مجموعته القصصية المترجمة بصاحب الأثر الثوري الأعمق في كتابة القصة القصيرة في الأدب الأمريكي المعاصر ارنست همنغواي، ووليم فوكنر الذي ضربت كتاباته على وتر يستجيب له عصره الراهن.
هكذا تظهر الترجمة وحليفها التقديم عند علم من أعلام الأدب العربي المعاصر، وبجهوده التي عملت على تزكية عدد من نصوص الأدب الإنجليزي والأمريكي، فجبرا يمتلك سطوة لغوية وترجمة وبائية تعرب عن شخصية الكاتب ويفسر نصوصه للفهم على أحسن حال، و ترجماته تأشيرة مرور إلى العقلية العربية التي ستهجر عشها لاهفة وراء الصيغة التلاقحية في الأدب العالمي، ولأنه ليس بائعًا في سوق اقتصادية حرة يقوم باستيراد النص الغربي ثم تصديره إلى العقلية العربية مقابل ثمن مادي، فقد استطاع أن يقدم ما يصبو إليه لحسه المرهف وذوقه السليم وطبعه الموهوب، لأن الترجمة حب ولغة قبل كل شيء.
تغريد
اكتب تعليقك