أيتها البندقية لست حبيبتي... (قصة قصيرة)الباب: نصوص
محمد عبدالوكيل جازم اليمن |
جرب بالأمس أن يغادر المنزل القروي بدونها، لكنه لم يستطع، كان قد ركب سيارة أجرة قاصدًا المدينة للالتحاق بساحة الثوار، إلا أنه تراجع عن ذلك القرار بعد دقائق .. صرخ في وجه السائق: "أنزلني .. أرجوك توقف". دون أن يتحدث لأحد عاد مسرعًا إلى المنزل.. فتح الباب بركلة من قدمه، ودخل مسرعًا .. صعد ثمان درجات مؤدية إلى صدر الطابق الثاني .. انعطف يمينًا، وبركلة أخرى من قدمه الثانية فتح باب غرفتهما العلوية: "ها ..أين أنت يا حبيبتي..". حين شاهدها أحس بأن فرحًا غامرًا يخرج من دواخله. كأنها هجرته قبل أعوام، ويتحسس خازن الرصاص؛ وكأن ما يحدث ليس إلا خيالاً.. همهمات عالية انطلقت من فمه: أنت كل شيء بالنسبة لي ..لم أتخيل أي قيمة للحياة بدونك ..التقينا قبل زمن طويل، كنتُ يومها في الرابعة عشر، وها أنا اليوم في الخامسة والعشرين ولم تفتر محبتي، بل لا حبيبة لي سواك.. أرادوا التفريق بيننا حين درست الثانوية، في مدرسة التضامن، إلا أنني رفضت ذلك بشدة، أدخلتك معي عنوة ماذا يمكنهم إن يفعلون بي وأنت معي؟ لست أدري ما نوع هذه المحبة التي جمعتنا.. في العشرين أرادوا أن أتخلى عنك والتحق بالجامعة، إلا أنني صددتهم.. قلت لهم: إن كانت الجامعة ستحرمني هذا الدفء فلتذهب إلى الجحيم .. صدقيني .. أنت أجمل امرأة أحببتها في حياتي. أجال عينيه في رأسها وعنقها ووسطها الممشوق: كم مرةً عبرنا الأودية الموحشة والجبال السحيقة والذرى العالية الملفوفة بالضباب دون إن نخشى شيئًا ودون أن نقيم وزنًا لكائن من كان.
2
في الليل أضاء شمعة وقعد جوارها، طول الليل بقيت عيناه معلقتان في عيونك الكثيرة ..تساءل بصوت مرتفع: أي ثوار هؤلاء الذين يريدونها سلمية.. لا أدري كيف يفكرون .. لقد وضع هؤلاء المخابيل شرطًا تعجيزيًّا .. إنه من أعقد الاختبارات التي عرفتها في حياتي: كيف يمكن للإنسان أن يقيم ثورة بدون سلاح؟ نعم كان ذلك في تونس، ثم مصر لكنّا نختلف عنهم كثيرًا .. انظري إلينا ياحبيبتي ألسنا "أنت وأنا "نستطيع القيام بثورة . اللعنة.. اللعنة عليهم جميعا.. اللعنة على تلك اللحظة التي قرروا فيها ترك السلاح.. بإمكاني الآن أخذك معي، لكنهم سيدخلونني ساحتهم، ويدعوك وحيدة؛ لذلك أنت هنا، وأنا هناك، وإن كنت لا أدري كيف أذهب وأدعك وحيدة؟ كيف سيبدو العالم بدونك، وأنا لا أرى الأشياء إلا من خلال رائحتك المشبعة بالبارود؟ نعم حبيبتي ..ألم يقل المثل القبلي "ابن القبيلي له رائحة البارود، وابن السوق لا رائحة له سوى العطر "هاهي الشموع انطفأت، وأنا أراك كالقمر المشرق.. افتح شريط الذاكرة وأستعيده جيدًا...
3
أنا وأنت اثنان، ولكن هذين الاثنين طالما هزما جيوشًا من البشر، هل تتذكرين ذلك الجبل السحيق الذي ذهبنا إليه لجلب أغنامنا من بين تلك القطعان، التي سرقها لصوص الماشية ..؟ كانوا قد ذهبوا بها بين قطعانهم الكثيرة، ولكن هيهات أن يتم لهم ذلك وأنت معي تناصرينني وتقفين أمامي .. تجاوزنا الحقول المرسومة على أشكال عديدة: مربعة ودائرية ومستطيلة.. صعدنا جبلاً عملاقًا، ثم انتشرنا ويالهول انتشارنا ..إذا انتشرت نظراتنا استطعنا تحديد الهدف وقد كان لنا ذلك عندما اخترقت رصاصة واحدة قدم أحدهم .. تجمد اللصوص من الخوف؛ لم يدركوا مصدر الطلقة .. تنادوا لأنهم فهموا إشارتنا حيث لا يستطع أحد منهم توجيه بندقيته أو التحكم بها.
صرخ كبيرهم وهو يضع سلاحه جانبًا :
- ماذا تريدون
قلت لهم بصيغة الجمع، لأنني كنت معك ونحن بمثابة جيش
- نريد أغنامنا..
قالوا
- ولكن من أنتم
- نحن لسنا من اليشر
- ومن تكونون
- نحن من الجن
- ردّ رابعهم في محاولة لإطالة الحديث معنا ومعرفة الصخرة التي نختبئ خلفها فسأل
- من أي القبائل أنتم؟
رددنا عليه بثلاث رصاصات قرب قدميه؛ لأن أصابعه بدأت تتحرك باتجاه سلاحه .
كان المرتفع الجبلي الذي نقف عليه يسمح برؤيتنا لهم ولا يفعل العكس. لم يفكروا طويلاً لأن وبخناهم بواسطة الرصاص، وهي لغة يفهمها القبيلي جيدًا؛ خاصة وأن لدينا طريقة قنص جديدة نستطيع من خلالها ترك إحساسًا بكثرتنا لدى الخصوم.
يومها حمل اللصوص جريحهم وذهبوا، وقبل ذلك أخرجوا أغنامنا كلها دون أن ينبسوا ببنت شفه ودون أن نتحدث شاهدناهم وهم يوجهون أغنامنا في الطريق الصحيح.
4
في الصبح اقترب من النافذة.. شاهد أقرانه - وقد تركوا بنادقهم - يصعدون إلى متن السيارات المتجهة صوب المدينة، كانوا يتحدثون وأصابعهم تجيء وتذهب في إشارة إلى أنهم ينظرون قدومه .. فكر قليلاً، ثم التفت إليها ولا شيء في خياله سوى هؤلاء الذين صعدوا سيارات السفر بصدور عارية؛ لا يمتلكون شيئًا سوى الأمل ..هاهم اليوم قد اجتمعوا ليفرقوا بيني وبينك ولا خلاف بيننا كما تعلمين أنا ما زلت وفيًا لك وأنت كذلك.. إنهم لا يمتلكون دليلاً واحدًا على أننا استأثرنا بسكونهم أو خمشنا جدران دمائهم أو مزقنا جلال نواميسهم وما اعتادوا عليه، كما فعل البعض لم يحدث شيء من ذلك .. ثم قال بصوت متهدج وقد قرر أن يدير لها الظهر :
- لقد تغير العالم..
تخيل صوتا ينطلق من حناجر مواسيرها وهي تقول:
- لا تتركني
- قلت لك ابقي هنا إلى أن أعود، وسوف نتنقل معًا فيما بعد
- أخاف أن تنسى..
حين وصله صدى الصوت الأخير كان قد غادر المنزل؛ إلا أن أصداء الصوت تكررت، وراحت تتماوج في رأسه ؛كأنها أسراب من النحل تلاحقه بطنينها وهو يصرخ قاصدًا الهدف:
- لا..لا.. لا لست حبيبتي
تغريد
اكتب تعليقك