الموهبة ورعايتها عند الشاطبي الباب: مقالات الكتاب
د. حمد بن حسين الجعيدي السعودية - الخرج |
الإمام الشاطبي أحد أعلام التجديد في القرن الثامن الهجري الذي شهد تحولات تجديدية مهد لها علماء سابقون، ولم يكن فريد ذلك العصر في التجديد؛ فقد امتاز عصره بظهور عدد من الشخصيات العلمية التي أبدعت وجددت في مجالاتها من العلوم الإسلامية؛ فمن معاصريه الإمام ابن القيم، والعلامة ابن خلدون وغيرهما، وكان لكل منهم مجال أحدث فيه نقلة علمية وفتح به بابًا لمن بعدهم يتجدد فيه عطاء هذه الشريعة وسموها وخلودها وقدرتها على مواجهة المستجدات والأحداث وإيجاد حلولها.
ويعد الإمام الشاطبي موهبة مبدعة في فقه الشريعة يشهد له في ذلك إنتاجه المتميز في نظرية المقاصد في كتابه الموافقات التي أصبحت حقيقة ولقيت عناية من العلماء والباحثين بعده حتى تكاد تستقل بعلم خاص يصبح قسيمًا لأصول الفقه في إنتاج المعرفة الفقهية العملية وتطبيقاتها. وكتاب الموافقات جعله الشاطبي في بيان ما أسست وبنيت عليه الشريعة الإسلامية من مراعاة مصالح العباد، فما جاءت هذه الشريعة إلا لمصلحة المكلف الذي تحمّل مسؤولية الأمانة والاستخلاف في الأرض، فقامت على الأسس العظمى التي يقوم عليها الوجود ويصلح بها: الحكمة والرحمة والعدل ومراعاة المصلحة، حتى كانت هذه قواعد وضوابط ومقياسًا ونبراسًا وميزان عدل لما هو من الشريعة وما ليس منها وما ترتضيه وما تنفيه، (فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل)، كما قال ابن القيم في إعلام الموقعين في فصل تغير الفتوى.
وقد كان الشاطبي مبدعًا في كتاباته خارجًا على التقليد مبتكرًا في الأسلوب بما حوى فوعى من لسان العرب وعلو شأنه فيه؛ فهو العالم في القراءات ولسان العرب والنحو والاعتقاد والفقه وأصوله، وله في كل مجال منها تصنيف نفيس، وكانت له منهجيته التجديدية واضحة المعالم في الرد إلى أصول الديانة والعناية بتطبيقاتها الحياتية وصلاحيتها لكل زمان ومكان فأبدع في تحرير نظرية المقاصد وصياغتها في كتابه الموافقات الذي صرح فيه باختراعه وابتكاره عندما قال عنه: «فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار، وغر الظانّ أنه شيء ما سمع بمثله ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله أو شُكل بشكله.. فلا تلتفت إلى الإشكال .. فإنه بحمد الله أمر قررته الآيات والأخبار، وشد معاقده السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيد أركانه أنظار النظار، وإذا وضح السبيل لم يجب الإنكار»، ومعالم الإبداع والتجديد المبني على الأصول واضحة في هذا النص.
وقد كان لما جرّد الشاطبي من علم المقاصد أثر في الدعوات الإصلاحية المعاصرة وقيامها على أساس قِيَمي إسلامي في مواجهة طوفان النظم التي تقوم على فلسفات مغايرة لمصدر الشريعة وبعيدة عن الأصل العام للإسلام ومبدأه ومنتاه في صدوره من الله وتوجهه إليه.
وإذا كان الطابع العام لكتاب الموافقات تأصيل مقاصد الشريعة الكلية، وتضمينه ما يجلي فهمها وإبرازها؛ فإنه في استطراداته يتطرق لفوائد فرعية إذا دقق الباحث وجدها تعود إلى المقاصد الكلية. ومما تطرق له ما ذكره في مباحث الفرض الكفائي من أهمية الموهبة ورعايتها، ووضع منهج للعناية بها واستثمارها، فهذه الموهبة المبدعة لم تغفل التنبيه على أهمية الموهبة واكتشافها ورعايتها وتوجيهها الوجهة الصالحة حتى توتي ثمارها الطيبة وآثارها الإيجابية في العمارة وإنتاج المفيد النافع. فيقرر الشاطبي أن الإنسان يأتي إلى هذه الحياة غفلاً غير عالم؛ ولكنه مزود بوسائل واستعدادات فطرية تؤهله من اكتساب المعرفة والتفاعل معها معتمداً على قول الله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) النحل:78
فالإنسان يمتلك وسائل تحصيل المعرفة من سمع وبصر، واستعداد في داخله يمكنه من القدرة على الاستيعاب والتحليل والتركيب وإعادة إنتاج المعرفة وتحقيق المصالح. والنحو تجاه تحصيل المصلحة وتحقيقها عامل مشترك بين الناس، ولكن ذلك تارة يكون بالإلهام وهذا غريزي كهداية الإنسان منذ ولادته للتقام الثدي مصدر رزقه الجديد، وتارة بالاكتساب والتعلم؛ فطلب المصلحة ودرء المفسدة غريزة لدى الإنسان، ولكنه لما كان حرّ الاختيار مزود بالعقل جُعل السبيل إلى ذلك التعلم والتعليم صقلاً للمواهب وانهاضًا للقدرات العقلية والاستعدادات النفسية (وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه، وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال؛ فيظهر فيه وعليه، ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يهيأ تلك التهيئة؛ فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجم على ظاهره ما فطر عليه في أوليته) وإن كان هناك قدر مشترك بين الناس الأسوياء في هذا إلا أنهم يتفاوتون في غلبة جانب من الاستعداد والنبوغ في مجال يقصر عنه آخرون، ويظهر فيه الميل إلى فن معين (فلا بد في غالب العادة من غلبة البعض عليه؛ فيرد التكليف عليه معلمًا مؤدبًا في حالته التي هو عليها فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهض فيه، ويتعين على الناظرين فيهم الالتفات إلى تلك الجهات؛ فيراعونهم بحسبها ويراعونها إلى أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم، ويعينونهم على القيام بها، ويحرضونهم على الدوام فيها؛ حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط، ثم يخلى بينهم وبين أهلها، فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من أهلها، إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية، والمدركات الضرورية؛ فعند ذلك يحصل الانتفاع، وتظهر نتيجة تلك التربية). فهذه خطة يضعها الشاطبي لرعاية الموهبة، فالناس مختلفة في استعداداتها الفطرية للبروز والتفوق في المجالات المختلفة، تظهر هذه القدرات على الناشئ ويتمايز الأقران وتبرز الاتجاهات وتظهر للمربي والقائم على التعليم مع الزمن في أثناء التفاعل في محاضن التعلم والتعليم والتربية والتوجيه، فإذا بدأ النبوغ في مجال وظهرت على التلميذ والطالب الميل إلى فن معين وعلم يجد الرغبة نحوه مع القدرة عليه والنبوغ فيه؛ فعندئذ على القيّم عليه والناظر في أمره والمعني بتربيته وتكوينه أن يراعي هذه الموهبة ويرعاها ويشجعه عليها وييسر له أسباب النهوض بها، حتى تستقيم ثم يؤكل به إلى أهل الاختصاص فيها، فيعامل بما يليق به وما يصقلها، حتى يكون من أهلها، وعندئذ تؤتي ثمارها، (فإذا فرض - مثلاً- واحد من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك، وجودة فهم، ووفور حفظ لما يسمع - وإن كان مشاركاً في غير ذلك من الأوصاف- ميل به نحو ذلك القصد, وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم، فطلب بالتعلم وأدب بالآداب المشتركة بجميع العلوم، ولا بد أن يمال منها إلى بعض فيؤخذ به، ويعان عليه، ولكن على الترتيب الذي نص عليه ربانيو العلماء، فإذا دخل في ذلك البعض فمال به طبعه إليه على الخصوص، وأحبه أكثر من غيره؛ ترك وما أحب، وخص بأهله؛ فوجب عليه إنهاضه فيه حتى يأخذ منه ما قدر له، من غير إهمال له ولا ترك لمراعاته، ثم إن وقف هنالك فحسن، وإن طلب الأخذ في غيره أو طلب به؛ فعل معه فيه ما فعل فيما قبله، وهكذا إلى أن ينتهي). وفي هذا النص نجد الشاطبي يطالب بأن يكوّن الناشئ تكوينًا عامًا ثم يؤخذ بالتكوين الخاص والأخص، فيكون هنا ثلاث مستويات هرمية: عام وخاص وتخصص، والتخصص هو ما يميل إليه بطبعه واستعداداته وينبغ فيه، ولاتقان ذلك والبروز فيه وتحصيله يجعل مع الذين لهم اهتمام به واختصاص فيه، بحسب المناهج العلمية التي يضعها المتخصصون، وعدّ هذا أمرًا واجبًا على الناظر في مصلحته ومصلحة الأمة. وهذه التدابير لم يخص بها الشاطبي الطالب للعلوم الشرعية، بل يرى أنها تكون في كل العلوم والفنون؛ فمن يظهر عليه السمات القيادية من الإقدام وحسن التدبير واتخاذ القرار ونحو ذلك فإنه يعنى به في هذا المجال، ومن نبغ في الصنائع يعنى به في مجالها وتصقل مواهبهم فيها وهكذا (وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قومٌ). وهذا يعني أن اكتشاف الموهبة ورعايتها مسؤولية أمة لإيجاد من يقوم بالمفروض عليها فيكفيها مسؤوليته وتبعت السؤال عنه أمام الله تعالى عن التفريط في تحصيل مصالحها الضرورية والحاجية وغيرها. فالعناية بالناشئة واكتشاف المواهب وتوجيهها وإعانتها على ما ينميها وتوفير المحاضن التي تبدع فيها، وإيجاد البيئة المناسبة لصقلها واستثمارها عند الشاطبي فرض على الأمة في الجملة.
تغريد
اكتب تعليقك