القرآن الكريم وأثره في التنظيم الفكري عند المسلمينالباب: مقالات الكتاب
أمل محمد طوهري الرياض |
يعد الكاتب جيب هاملتون 1895-1971 م، وهو من كبار المستشرقين المعاصرين الذين بذلوا وقتهم لدراسة التراث الإسلامي, وأسهموا في تعميق النظرة الغربية إلى المؤسسات الإسلامية, التحق بمدرسة الدراسات الشرقية عام 1919 م فدرس ديوان الحماسة ومقدمة ابن خلدون والمعلقات السبع ومقامات الحريري. عمل أستاذًا للعربية في جامعة اكسفورد ومحررًا للطبعة الإنجليزية من الموسوعة الإسلامية, وهو مدير لمركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفارد, وهو عضو في مجمع اللغة العربية بالقاهرة والمجمع العربي بدمشق, وله عدد من المؤلفات من بينها: المدخل إلى تاريخ الأدب العربي, وذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي, وترجمة كتاب تركستان حتى الغزو المغولي لباترولد, ورحلة ابن بطوطة, وملاحظات على المراجع العربية لتاريخ الحروب الصليبية, والنظرية الإسلامية عند ابن خلدون, وكتاب دراسات في حضارة الإسلام وهو من طباعة دار العلم للملايين, وترجمة إحسان عباس ومحمد يوسف نجم ومحمود زيد.
ناقش المؤلف في الفصل الحادي عشر من كتابه ماهية تصور المسلمين لله, وكيف يرون العلاقة بين الغيب والعالم المنظور, والمصادر التي استمدوا منها عقيدتهم.
وبناءً على ذلك فإن المؤلف فرق بين التعبير الشفوي عن الشعور الديني الذي أسماه بالحدس, وبين الصورة العقلية لهذا الشعور باستعمال مصطلح عقلي أو فلسفي, بمعنى أن ألفاظ القرآن الكريم مثلًا وتعاليمه هي المنطلق الذي ارتكز عليه هذا الشعور الديني.
وصنف مصادر الفكر الديني إلى أربعة مصادر:
1 - المواقف والمعتقدات البدائية التي ظلت حية في الأمة الإسلامية.
2 تعاليم القرآن وأثره مشفوعًا بالسنة النبوية.
3 - قيام علماء الكلام ورجال الدين بتنظيم المعتقد الإسلامي على أصول منهجية.
4 - الطرق الصوفية.
إن هجر المزارات الدينية المتعددة, واتجاه القبائل إلى مراكز دينية كبرى ولد شعورًا بسمو ديني انعكس سلبًا على الأديان القبلية، فأبرز قلة جدواها, كما يدل على أنه في بلاد العرب اعتراف بإلاه أعلى سمي بالله, وذلك راجع إلى تأثير الهجرات اليهودية أو المسيحية, وهنا ثمة حقيقة أغفلها المؤلف قبل أن يبرز سببًا ثانويًّا، وهي أن أرض الجزيرة العربية أرض وحي, وما بناء البيت الحرام وتوحيد الله إلا بأمر منه, وأن الدين الإسلامي هو الدين الرئيسي منذ خلق الله البشرية, وكان كل نبي يبعث بعد فترة من الرسل لإصلاح العباد وإعادة الناس إلى الملة الحنيفية الصحيحة, ومواجهة التغير بنظم تتكافأ والوضع الراهن, وهذا يدل على أن الدعوة الإسلامية سبقت بتطور في الأفكار.
وليست فكرة الإله الأعلى في العصر الجاهلي غامضة مضطربة غير موصولة بأي حياة ثانية حقيقة مطلقة لسببين: الأول أنه وبالنظر إلى الشعر الجاهلي ثمة ما يضاد هذا القول, فمثلًا يقول أمية بن أبي الصلت:
إلـــــه الـعـالمــين وكل أرضٍ
ورب الــراســيــات من الجــبـــــال
وشق الأرض فانبجست عيونًا
وأنــهـــارًا من الـعـذب الـــــــــزلال
وبــارك في نـواحــيــهـا وزكى
بـهـا مــا كان مــن حـــرث ومــــــــــال
فكل مـعـمــرٍ لا بــد يـــومـــــــًا
وذي دنــيــا يــــصــيــر إلى زوال
ويــفــنى بــعـد جدته ويبلى
ســـوى الباقي المــقــدس ذو الجلال
وسيـق المجرمون وهم عـراة
إلـــى ذات المــــقــــامــــــع والــنــكال
إن هذا النص يحوي دلالات على أن العرب لم يكونوا وثنيين جملةً، بل وجد بينهم من يعبد الله ويؤمن بحياة أخرى, بل إن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها حينما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتعد صبرته بقولها: "كلا والله ما يخزيك الله أبدًا"2.
وأما الثاني: فهو أن العرب كانوا يعتقدون بأن الأصنام وغيرها هي وسيلة للتقريب بينهم وبين الله، أي أن التماثيل لأشخاص صالحين يعتقدون بقربهم من الله , بينما هم يدركون أن القوة المحركة في يد إله غائب عن الأنظار.
ومن هنا كان التغيير الذي حققه محمد صلى الله عليه وسلم هو تنزيه الله عن الشرك, وتقرير عظمته سبحانه بخلقه الكون, وأنه مجازٍ كل بحسب عمله, وهذا يستدعي إعادة بناء الحياة الدينية والفكر الديني لدى العرب.
ويشمل القرآن الكريم أداة لهذا التدرج في إعادة بناء الفكر الديني من جانبين: جانب يشمل استئصال الأفكار الخرافية والبدع من حيز العبادة والمعتقد وهو ما أسماه المؤلف بالملابسات النسمية, وجانب يشمل إحلال تفسير توحيدي إيجابي للكون وما فيه, وهذا الأخير يقتضي تحقيق الأول, فما دام أن الله سبحانه هو خالق الكون المسير لأموره فلم اللجوء إلى السحر لتحقيق مآرب دينية أو دنيوية؟
ومن ثم فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يفرض كيانًا جديدًا من الأفكار على عقول أتباعه, إذ عمد إلى استثارة ملكاتهم الخيالية عن طريق الرموز الدينية المعروفة عندهم إلا أنه نقلها من إطار نسمي إلى إطار توحيدي, ومن ذلك إعادة تأويله لحقيقة الجن, فالقرآن لم ينفِ وجودهم أو شرورهم, ولكنهم لم يعودوا قوة مهيمنة في حقيقة ذاتها, بل هم مخلوقات أوجدها الله يمثلون لإرادته مهما تبدت أعمالهم غريبة غير قابلة للتفسير.
ومن أجل ألا يضعف هذا الإيمان كان من المهم ألا يترك أي منفذ يتسرب منه الجدل حول طبيعة القوة العليا, فنجد ذلك مبينًا في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)3 ومن ثم كثرة ترديد القرآن لذم الشرك.
والإيمان بإله مهيمن يستلزم الرهبة والإجلال والإحساس بأن الله مصدر الخير والإحساس بعلاقة خاصة مع الله, وقد اجتمع ذلك في قوله تعالى: (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)4.
ولأن الشعور بالرهبة والإحساس بالشكر لله مؤثرين حقيقيين في حياة المؤمن فيجب ألا يقبلا الانفصال عن تفكيره كله, ولذلك دعا القرآن إلى الذكر في كل الهيئات والظروف, ولتسهيل ذلك على الناس ربط بحركات جسمية منظمة في أوقات معينة وهي الصلوات الخمس.
وأهم مرحلة في الصلاة هي السجود, ففيه تعن الوجوه ويغرس التواضع ويسلم الوجه للحي القيوم، مما يمهد لعلاقة خاصة مع الله, بينما يرى المؤلف أن أهم مرحلة في الصلاة هي اللحظة التي تعقب آخر سجود أي لحظة التشهد الأخير ولم يعلل ذلك, لكني ومن خلال استقرائي لأفكار المؤلف أعتقد أن المؤلف أراد أن يقول: إنه في تلك الأثناء يتجلى الشعور الإسلامي المحض, فلو تأملنا تلك اللحظات لوجدناها مضمخةً بمشاعر وأفكار راقية فيها يعم الدعاء بالسلام والخير جميع المسلمين بدءًا من الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام وعلى المصلي ذاته, هذه اللحظات إحدى معاني البر والصلة التي حظ عليها الدين الإسلامي.
والقرآن سجل لتجربة حية للألوهية تجربة متصلة بشؤون الحياة العامة ودعوة للمخلوق كي ينظم حياته، ليتمكن من الأخذ بنصيب من تلك التجربة.
فمثلًا كلمة التقوى في القرآن الكريم لعل أشمل تعريف لها هو إحكام ما بين الإنسان وخالقه وما بين الإنسان والآخرين, ولذلك تدور مشتقاتها حول نفي الإنسان الضرر عن نفسه وعن غيره, يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)5, وما يكون ذلك إلا بتحقيق ما تحمله من معانٍ والتي يمكن تلخيصها في قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)6, فلعظم شأنها وما تتضمنه من إيجابية اختص الله صاحبها بالرفعة عنده في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)7 ثمة عبارة لا بد أن أتوقف عندها يقول المؤلف: إن القرآن الكريم يخاطب الخيال ومن ثم بعد ذلك يخاطب العقل, هل من العقل أن نقدم الخيال، على العقل في تفنيد الكيفية التي يسوقها القرآن لبث التعاليم الإسلامية ؟! الحقيقة أن القرآن الكريم متسم بالبلاغة، والبلاغة تعني أن لكل مقام مقالاً, فعندما يكون الحديث عن شيء غيبي فهو يستعمل ما هو متعارف عليه من مصطلحات وموجودات عند البشر لتحفيز الخيال لاستشعار مضمون الآية كوصف الجنة، وما فيها من طيبات وثمار.
وحينما يستدعي المقام مخاطبة العقل يظل حاضرًا، فمثلًا حين يخاطب الله منكري البعث يورد لهم دلائل عقلية، منها خلق الكون والتذكير بمراحل خلق الفرد.
وحين يتبع المسلم تعاليم القرآن ويسعى لاستشعار ذلك بعقله وقلبه وروحه، فإنه يحاول أن يتملك شيئًا من التجربة النبوية ويعظم في عينه مغزا كل آية فيه, لإيمانه بأنه كلام الله, وهذا يتناقض مع ما ذكره المؤلف في موضع آخر وهو ومن ثم رد عليه "...فالذي يمنح القرآن قوة على تحريك قلوب الناس وتشكيل حياتهم ليس هو محتواه من مبادئ ونذر، وإنما هو سياقه اللفظي"8, صحيح أن القرآن معجز بفصاحته وبيانه، لأنه كلام رب العالمين إلى خلقه, فكيف لا يكون معجزًا وهو صادر من قوة عظمى! وهل يمكننا الفصل بين تعاليم القرآن وسياقه اللفظي؟ والحكم بأن أحدهما مسير لقلوب الناس؟
ولكن لما كان الناس بحاجة إلى دين ينظم حياتهم كان من الطبيعي أن تدخل إليهم تعاليمه من المدخل المحبب لهم, ولما كان العرب يحتفون بلغتهم شعرًا ونثرًا جاء الدين الإسلامي في هذا القالب الذي يشحذ بقدرته الخيال والشعور.
ولا يمكن أن نطلق على جرس الألفاظ والأحرف موسيقى إذ إن لكل حرف معنى ومخرجًا مختصًّا به. وما التلحين والتطريب إلا من البدع المستحدثة.
وتقف شخصية محمد صلى الله عليه وسلم مرتبطة بالقرآن بروابط من المشاعر الحارة التي يسبغها الحب الإنساني, فإن العلاقات الشخصية من الإعجاب والحب الذين بعثهما في نفوس صحابته ظل صداها يتردد خلال القرون، والفضل في ذلك يعود إلى رواية الحديث, فلقد كتب الشيء الكثير عن مهمات الحديث في الإيضاح والتفسير، وليس مكملًا للقرآن كما يقول المؤلف, إضافة إلى عرضه لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته, وبذلك قدم للمسلمين صورة للحياة الإنسانية كما يجب أن يحياها الفرد, بل إنه ربط بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المسلمين اللاحقين بذات الروابط التي كانت تصله بأصحابه الأولين، وقد نمت هذه الروابط عبر القرون.
ثم ظهرت كتب السير الكثيرة وكتب في دلائل النبوة، وألفت قصائد في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم شاعت بين العامة.
أخيرًا أحب أن أختم حديثي بهذه العبارة لمصطفى صادق الرافعي: "العقل مظهر تاريخ الأمة ولكن الخُلُق لا يكون إلا مصدر هذا التاريخ"9.
الهوامش:
1 - إن العنوان الأصلي للموضوع هو محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن, وإنما وضعت خلافه تبعًا لرؤيتي النقدية. انظر: جيب, هاملتون, (ت1971 م), دراسات في حضارة الإسلام, ترجمة إحسان عباس وآخرين, (ط2, دار العلم للملايين, 1974 م), ص248.
2 - الصلابي, علي بن محمد, السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث, (ط3, مكتبة الصحابة, الإمارات, 1424 هـ) ج1, ص96.
3 - القرآن الكريم, سورة الشورى, آية 11.
4 - القرآن الكريم, سورة المدثر, آية 56.
5 - القرآن الكريم, سورة التحريم, آية 6.
6 - سورة المائدة, آية 2.
7 - القرآن الكريم, سورة الحجرات, آية 13.
8 - جيب, هاملتون, المرجع السابق, ص256.
9 - الرافعي, مصطفى صادق, (ت 1356 هـ), إعجاز القرآن الكريم, (ط 8, دار الكتاب العربي, بيروت) ص71.
تغريد
التعليقات 1
مقال رائع ومميز ،، ومتعوب عليه .. بوركت يد كاتبه .
اكتب تعليقك