الغياب: ارتباك اللحظة، والتئام النصالباب: مقالات الكتاب
أمل محمد طوهري الرياض |
تتنازعني فكرة هذا الموضوع منذ زمن حتى جاء الوقت الذي ألقيت فيه نظرةً على كَنَّاشاتي وتأملتُها فلمْ أرَ غيره مستعليًا على كل انثيالاتي القديمة، فكيف بي وقد تفَيَأتُ هذا الصيف ظلال معجم الأدباء لياقوت الحموي، فلا أدري أتعبث بي الأبيات؟ أم أعبث بها؟ وحُقَّ للنقد أن يبقى بعيدًا نواله حتى إذا تزينت ذاكرةُ حفظِك بمزيد من المقطعات جاءك هرولةً.
يبدو لي أن الأدب قافلة من الجِمال لا تَرِدُ إلا من بئر الغياب، فإذا لم تجده سقطت مغشيًا عليها.
الخوف من غياب لفظة "نعم" وبالتالي أن تبقى المنى حبيسة الصدور أهون وجعًا من انكشاف الحُجب، وفي ذلك يقول جميل:
ألا طال كتماني بثينة حاجةً
من الحاجِ ما تدري بثينة ما هيا
أحاذر أن تعلم بها فتردها
فــتـتركـهـا ثـقـلاً علي كما هيا
في حين يبوح سليمان بن أبي طالب الحلواني بحاجة جميل بمثل لوعته، مختلفًا في نبرة صوت النص: صوت حزين أُعيدت له الحياة، إنعاش، ولكن قد تغيب أيضًا:
"ماذا عسى يصف من شوقه مشتاق يُقَدِّم قَدَمًا، ويؤخِّرُ أخرى، بين أمرِ أمير الشوق، ونهي نهى الهيبة، فإنْ رأيتَ أن تُقِلَّهُ من علله بالإذنِ له فما أولاك به، وأحوجه إليه...".
وقد يكون الغياب ممدوحًا إذا كان كالليل والنهار:
تواصلنا على الأيام باقٍ ولكن هجرنا مطر الربيع
لكن طينة الشعراء تختلف:
فقلتُ لقلبي حين خَفَّ به الهوى
وكاد من الوجد المبر يطير
فـهـذا ولمـا تمضِ للـبـينِ ليلة!
فكيف إذا مرتْ عليك شهور؟
وتمتزج الذوات: المُخاطَبة، والمُخاطِبة بلحظة حضور أشبه ما تكون بغروب الشمس؛ يقول أحدهم وهو يُمْسِك مقِبض باب الغياب بيد مرتعشة، واصفًا نصف روح، ونصف جسد:
ولما حدا البينُ المُشِتُّ بشملِنا
ولــمْ يبقَ إلا أنْ تُــثـارَ الأيانِـق
ولمْ نستطعْ عند الوداعِ تصبرا
وقد غالنا دمعٌ عن الوجدِ ناطق
ولما وقفنا لتوديعٍ كادت نفوسنا
لأجـسـادنا قبل الـوداع تـفـارق
وفي ذات السياق بل أشد حرجًا؛ حيث يتشبث الحبيبان بآخر نظرة، حتى ولو كانت لا تصل إلى كل ملامح المحبوب:
لما أناخوا قبيل الصبح عيرهم
وَرَحَــلـوهـا فـثارت بالـهـوى الإبـل
وقَلَّبتْ من خلالِ السجف ناظرَها
ترنو إلي، ودمـع الـعـين مـنـهـمـل
وليس الغياب في حد ذاته هو العامل المُحرك لنشوء النص بل إن معطيات السنن تجعل الإنسان فضلاً عن الشاعر قلقًا، متوجلاً من حادثات الزمان، يقول عبد الرزاق عبد الواحد لزوجته:
ويا ويلنا من يوم يرحـل واحـــدٌ
ويبقى الذي يبكيه حّـدَ التسولِ
يتحول هذا الشبح إلى بلاد تستقطب الأحباب:
دعـتـك بـلاد الغائبين فـهل بها
وقد غبتَ فيها ما يُسِر الخواطِرا؟
وجدتَ بها ماذا لترضيك هكذا؟
وتصبح إرضاءً لها أنت هـاجـرا؟
وبينما نجد أن الجواهري يتعلل بوصال الروح في "ناجيتُ قبرك":
حُييِتِ أُمَّ فــراتٍ إن والـدةً
بمثل ما أنجبت تُكنى بما تلد
تحيةً لمْ أجد من بثِّ لاعجِها
بُدّاً وإن قام سداً بيننا اللحد
بالروحِ رُدي عليها إِنَّها صلةٌ
بين المُحِبين ماذا ينفع الجسد؟
نجد أن عبد الرزاق عبدالواحد أعيته الوسائل عن التسلية:
"ولو كان في سفح الدموع تعلة
غزلتُ دموعي طول عمري بمغزلي".
والغياب فعل متعدٍ إلى كل شيء حتى الصبا، وكأنما الجبال ما وجدتْ إلا لتحبسها عن القائلة:
أيــــا جـبـلا نـعـمـان بالله خـلـيـا
نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها
أجدُ بردَها، أوْ تشفِ مني حرارةً
على كــبــدٍ لـمْ يبـقَ إلا صميمُها
فإنَّ الصبا ريحٌ إذا ما تنسمتْ
على نفسِ مهمومٍ تجلتْ همومها
وكغياب العمر، الطفولة مثلاً:
ما ثَم مِن ذكرى طفولتِكم سوى
قلبٌ على أطيافهم يتأرجحُ
وفي معظم الأعمال الأدبية التي تسجل عودةَ الذات إلى ذاتِها يكون فيها الغياب هو العامل الأساس للتوافق والعالم الخارجي بمعنى آخر فإن الغياب هو الذي يحفظ للذات هويتها:
وأصدق ما يمثل ذلك ويُستأنس به ما جاء في شرح المرزوقي لديوان الحماسة من رواية أخرى لبيت القشيري:
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها
عن الحلم بعد الجهل أسبلتا معا
والقشيري كان أعور العين-اليسرى والعوراء لا تدمع، يقول أنه لما اشتد به خطب الفراق بكت عينه الصحيحة ، ولما اشتد في تأنيبها شاركتْها العوراء؛ وهذا غياب عن الألم الحالي-الفراق؛ باستدعاء ألم قديم-المرض؛ لإعادة الحياة إلى الروح.
وهذه شاعرة كتبت إلى أبيها الذي زوجها بغير إذنها:
أيا أبتي عنيتني وابتبيتني
وصيرتَ نفسي في يدي من يهينها
أيا أبتي لولا التحرج قد دعا
عليك مجــابًـا دعوةً تـسـتدينـهـا
فكيف إذا كان الغياب هو الوسيلة الأنجع لتطبيب النفس:
قال امرؤ القيس:
وإنك لم تقطع لبانة عاشق
بمثل غدو، أو رواح مؤوِب
ويشاركه طرفة بن العبد:
وإني لأمضي الهم عند احتضاره
بعوجاء مرقال تعود وتغتدي
ولا أسمى من غياب القشيري الذي ألبسَ القصيدةَ عزةً تحييها الدموع الصادقة، إنها دموع الصامدين:
فما حسنٌ أن تأتي الأمر طائعا
وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا!
***
وليست عشيات الحمى برواجعٍ
عليك، ولكن خلِ عينيك تدمعا
تغريد
اكتب تعليقك