صرح (سومري) على ضفاف كورنيش الدوحة الباب: مقالات الكتاب
أ.د. منير يوسف طه العراق |
أعتقد جازمًا عندما طلب سعادة (المدير العام لإدارة) للمجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث في دولة قطر من المهندس المعماري المعروف (إيونك بيه) في بدايات القرن الحالي تقديم تصميم لمتحف (الفن الإسلامي) في الدوحة ليعرض فيه عددًا من التحف الإسلامية المتنوعة المواضيع والأماكن والعصور, ظل السيد (بيه) حينًا من الدهر حائرًا وهائمًا في مناطق مدينة الدوحة باحثًا فيها عن ضالته المنشودة المتمثلة بتصميم معماري جميل يربط الماضي بالحاضر.
وبعد أن أعياه البحث عن المكان والزمان اهتدى ودون أي سابق إنذار إلى منطقة نابضة بالحياة تقع في مركز الدوحة وعلى شاطئها مباشرة. وفي واقع حال هذه المنطقة الملومس هي تربط الماضي القريب بالحاضر السعيد. وعندما تطلع إلى الأفق البعيد القريب في المكان الذي هو فيه ترآى له بناءً حديثًا له أبعاد الأجداد الأقدمين.
يتمثل هذا (الصرح المعماري) العتيد بفندق (شراتون الدوحة) الذي صمم وأقيم ودون أدنى شك على هيئة (هرم ناقص). وبعد أن استوعب بما هو فيه من الأبعاد والمسافات والثقافات والحضارات التي مرت على مياه الخليج العربي منذ أقدم العصور بحث في ذاكرته عن معلم يربط الخليج العربي بماضيه القديم كالمعلم الذي يتطلع إليه الآن. وبعد صمت عميق..
تمتم مع ذاته قائلاً:
هناك في الأفق القريب (هرمًا ناقصًا) يقف بكل شمم واعتزاز على ضفاف مياه الخليج العربي برغم أن تصميمه وإنشاءه يعودان إلى أكثر من أربع آلاف وخمس مئة سنة خلت ...فلا بد إذًا من معلم معماري آخر يضاهيه كي يكون (ندًّا) له. كما يجب أن يكون للمعلم الجديد هذا أواصر وروابط وعلاقات مباشرة بثقافة هذه الأرض، التي شاركت ومن معها من أماكن أخرى تمتد على طول الساحل الغربي للخليج العربي بالعطاء التجاري والثقافي والحضاري والتاريخي عبر العصور والدهور.
وبينما كان غارقًا في ارهاصات الماضي الجميل تذكر ملحمة كلكامش التي قرأ فيها نصًّا يقول: "كيف ناشد البطل السومري الخالد الذكر كلكامش جده (اوتنابشتم) قبل أكثر من خمسة آلاف عام طالبًا الخلود هنا في أرض دلمون"...ثم تذكر كيف أن مدينة أور مدينة (إبراهيم الخليل) في بلاد الرافدين لعبت دورًا مميزًا عبر العصور في حياة أرض دلمون التجارية والروحية. وبينما ما هو فيه رفع رأسه عاليًا في الفضاء ونادى الماضي البعيد والقريب قائلاً:
أجل سأقيم هنا على هذا الساحل الحي (زقورة سومرية) أي صرحًا مدرجًا على غرار زقورة (مدينة أور) التي أقامها الملك (أور-نمو) في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد. ثم تمتم مع ذاته قائلاً: ومدينة أور وكما هو مألوف ومعروف كانت لها علاقات وطيدة ومباشرة مع أرض دلمون المعطاء التي كانت (شبه جزيرة قطر) آنذاك جزءًا لا يتجزأ من تلك البلاد .... وبعد حين عرض المهندس المعماري الذائع الصيت تصميمه على ذوي الشأن في المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث القطري، ثم شرح لهم أبعاد تصميمه. وبعد مباركة اللجنة المختصة للتصميم بدأ تنفيذه. بكل فخر واعتزاز.
وحسب الدلائل والشواهد الأثرية والتاريخية فإن تصميم الزقورة قد ظهر لأول مرة في مدينة الوركاء مدينة (كلكامش) العريقة الواقعة جنوب وادي الرافدين خلال منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، واستمر طابع بنائها في مدن بلاد الرافدين الكبرى ما يقرب من ثلاثة آلاف عام.
ومن تداعيات ظهور ما يقرب من مخطط الزقورة المتمثل (بالكتلة والفضاء) خلال العصور اللاحقة في بلاد الرافدين، وتحديدًا إبان الحقبة الإسلامية المبكرة، وحسب الدراسات المعمارية ظهور ما يعرف بملوية سامراء (مئذنة سامراء)، التي أقامها الخليفة العباسي المعتصم بالله خلال النصف الأول من القرن التاسع الميلادي، والتي يبلغ ارتفاعها الكلي 52 مترًا ومقامة على قاعدة مربعة أبعادها 33 x335 مترًا.
وقد امتد هذا النوع من العمارة المميز إلى (بلاد النيل) بدليل بعد تعين الخليفة العباسي المعتز بالله الوالي التركي (بايكيان) واليًا عليها في العام 868 للميلاد وقع اختيار هذا الوالي الجديد على أحمد بن طولون ابن زوجته، ليكون نائبًا عنه هناك وبعد أن شده الحنين إلى مدينته (سامراء) أقام في القاهرة جامعًا عرف بجامع ابن طولون.
إن الشيء المميز في ذلك الجامع هو منارته التي بنيت على هيئة الطبقات الثلاثة العليا لمنارة سامراء المتأثرة معماريًّا بما يعرف بالزقورة كما ورد أعلاه. ولا يخفى على أحد من أن تصميم منارة جامع ابن طولون يقف الآن شامخًا في أحد أركان مساجد (سوق واكف) في مدينة الدوحة أيضًا.
وما إن بدأ العمل الفعلي لمتحف الفن الإسلامي الواقع على ضفاف الكورنيش في منطقة قريبة من ميناء الدوحة القديم بدأت أراقب عن كثب وباستمرار ارتقاء ومراحل تطور ذلك البناء كلما مررت بشارع الكورنيش لدرجة كنت أشعر ببعض الأحيان أن شيئًا ما يربطني بهذا البناء وتكوينه ومضامينه الخفية.
في كثير من الأحيان كنت أدنو منه محاولاً إدراك ما الذي يشدني إليه, وكلما زاد البناء ارتفاعًا وارتقاءً زاد فضولي ورغبتي في الوقوف على شكله النهائي. وبعد حين من الزمن وبينما أنا أراقب التطورات البنائية للبناء أدركت كل الإدراك إنني الآن أمام (صرح) قريب من مداركي وهواجسي، وهنا تمتمت مع نفسي قائلاً:
ما يعلو هذا الصرح الواضح المعالم الآن ذلك (البناء المكعب) الشكل الكبير الحجم الذي يظهر أعلاه ويعرف عند السومريين (بخلو الإله)، والذي كان يقام على الطبقة العليا من صرح الزقورة، وبكل أبعاده المعمارية والدلالات الروحية السومرية، التي كانت تذكر أن في كل ليلة كانت تجلس فيه امراة يختارها الكهان من بين بنات المدينة، لتكون مع إله المدينة. وإن أشهر من اشتهر بتلك الدلالات الروحية مدينة (أور) وإلاهها (سن) إله القمر.
وهنا أدركت كل الإدراك إن هذا الصرح (مقتبسًا) من مخطط (زقورة) أو ما يعرف بالبرج أو الصرح المدرج الواقع في مدينة أور الواقعة في جنوب بلاد وادي الرافدين. التي أسس فيها الملك السومري (أور-نمو) سلالة عرفت بسلالة أور الثالثه، والتي كانت آخر مدينة سومرية دمرها العيلاميون، وقضوا على المدينة ومن فيها قضاء مبرمًا لدرجة لم تقم للسومريين، أي قائمة بعد خرابها المؤلم في العام (2006 قبل الميلاد). أما تأسيسها فيعود وحسب الدراسات الحديثة أيضًا إلى العام (3112 قيل الميلاد). وقد أسس ذلك الملك الذائع الصيت مدينته على غرار أسلافه على نهر الفرات، الذي كان يصب آنذاك في رأس الخليج العربي مباشرة القريب من مدينة أور آنذاك، والذي يبعد عنها الآن عشرات الكيلومترات. أما نهر الفرات فهو الآخر هجر المدينة وابتعد عنها تدريجيًّا قرابة الخمسة عشر كيلومترًا.
نظرت إلى الصرح بكل إمعان ثم نظرت هنا...وهناك وفي الأفق البعيد ثم تساءلت مع نفسي:
قائلاً: كيف جمعت الأقدار ما بين الأعوام (2006 قبل الميلاد) عام نهاية مدينة أور وبين ( 2006 للميلاد) العام الذي سيكون فيه افتتاح هذا الصرح....؟! وما هي حسابات النسبة المئوية في هذه المضمار؟!.
وأنا ما بين هذا.. وذاك أدركت سر العلاقة التي ربطتني بهذا الصرح منذ بدايات إنشائه، حيت إني وفي بدايات حصولي على شهادتي الجامعية في قسم الآثار في جامعة بغداد في العام (1963) شاركت مع فريق من المديرية العامة للآثار العراقية لصيانة ما يعرف (بزقورة أور)، وتجربتي تلك ربطتني ومنذ ذلك الحين بتلك الزقورة الجميلة الشكل والأبعاد الروحية.
كما إن تجربتي تلك كانت الأساس الأول للتعرف على أبعاد فنون العمارة القديمة في بلاد الرافدين - سيما وإن الزقورة هي إبداع معماري من إبداعات بلاد الرافدين، وقد تزامن ظهورها مع أهرامات وادي النيل خلال نهايات النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد.
والزقورة هي في واقع الأمر عبارة عن بناء مربع متساوي الأضلاع، تتجه زوياه الأربعة نحو اتجهات البوصلة، ويحتوي على ثلاث طبقات على الأقل تقدير، ونظرًا لميل جدرانه إلى الداخل فإنه يشكل مثلثًا (ناقصًا) أعلاه كان يقام معبدًا مكعب الشكل يدعى (خلوة الإله)، كما ورد أعلاه يقال إنه كان يطلى بلون أزرق، كي يتناغم مع لون السماء. وبالمعنى الدقيق كان تصميم الزقورة عبارة عن مثلث ناقص رباعي الأبعاد عكس أهرامات وادي النيل، التي كانت تمثل مثلثًا كاملاً رباعي الأبعاد أيضًا.
وقد خصص ذلك المعبد كما جاء آنفا لنزول (إله) المدينة الرئيسي في كل ليلة تشاركه تلك الليلة حسناء من حسنوات المدينة، يختارها كهنة المدينة أو ممن يقيمون على شؤون المعبد.
وهناك من يفترض إن المرأة كانت تجول مع الإله في أثناء الليل أو بالأحرى خلال الظلام في أحياء المدينة كي يطلع على شؤونها, ومهما يكن من أمر فإن نزول الإله من السماء إلى الأرض في كل ليلة يعني أن هناك عقابًا وهناك ثوابًا.
هذا وقد توصل علماء الآثار والباحثون من المعماريين بعد أن درسوا معالم الزقورات التي كشفوا عنها في كثير من المدن القديمة في بلاد الرافدين إلى أن زقورة أور كانت مفتاح التوصل إلى الأبعاد البنائية للزقورات القديمة اللاحقة، التي ظهرت في جنوب ومن ثم شمال وادي الرافدين، ثم امتدادها إلى جنوب غرب الهضبة الإيرانية فيما بعد.
وعلى ما يبدو فإن المعمار (ايونك بيه) Iong Pei قد درس مخططات زقورات ومعابد وقصور بلاد الرافدين القديمة كغيره من المعمارين المحدثين، الذين تأثروا بتلك الأبنية وخاصة الزقورة فعمد إلى (تقليد) أبعادها المعمارية، لتكون معلمًا بارزًا (لبناية المتحف الإسلامي) على ضفاف مدينة الدوحة، التي كانت لها أواصر وأوشاج روحية واجتماعية واقتصادية مع مدينة أور السومرية على وجه الخصوص وباقي مدن بلاد الرافدين على وجه العموم.
ومن خلال الدراسات المعمارية تبين أيضًا إن طبقات الزقورة أصبحت خلال ما يعرف بالعصر الآشوري والعصر البابلي الحديث أي ما بين منتصف الألف الثاني والأول قبل الميلاد سبع طبقات بدلاً من ثلاث طبقات.
وخير دليل على ذلك زقورة بابل أو ما يعرف ببرج بابل، الذي بلغت أبعاده 90x90 مترًا وارتفاعه 90 مترًا. وكما هو معلوم فقد سلب ذلك الصرح الباب كثير من الفنانين والمعمارين الغربيين، ومنذ عصر النهضة. بدليل عمد كثير من الفنانين البارزين إلى رسم لوحات تخيله لذلك البرج، الذي لا زالت معالم أسراه طي الكتمان، بينما عمد الكثير من المحدثين المعماريين المعاصرين إقامة طرز بنائية، وخاصة في المدن الكبيرة المترفة في أوروبا والولايات المتحدة، وتحديدًا مدينة نيويورك، التي يشاهد فيها أشكالاً وأنماطًا من الأبنية الحديثة المختلفة الاستعمالات لا تختلف في مضامينها التخطيطية في واقع الحال عن صروح بلاد الرافدين أو صروح وادي النيل القديمة.
أما فيما يخص (الصرح المدرج) أو بالأحرى بناية المتحف الإسلامي المقامة على ضفاف كورنيش الدوحة الآن، فقد أعطاه المعمار تقريبًا كل أبعاد زقورة أور، إلا إنه وحسب متطلبات العصر استبدل سلالمها الثلاثة الوسطية بمصاعد كهربائية. وعوضًا عن بنائها باللبن والطين، ثم كسائها بالآجر، كما هو الحال في الأزمنة الغابرة عمد المعمار (ايونك بيه) على بناء المتحف بالكتل الكونكريتية (بلوك) ثم كسى جدرانه بالمرمر المصقول. إلى جانب إظهار المتحف من الداخل بما يتناسب مع المضامين المعمارية للعصر الذي نحن فيه.
وبعد حين من إقامة المتحف الإسلامي على غرار مخطط زقورة مدينة أور أقيم صرح آخر قريبًا منه له علاقة مباشرة بعمارة بلاد الرافدين القديمة أيضًا. الصرح هذا عبارة عن بناية عملاقة جميلة الأبعاد. أبعادها ومضامينها المعمارية مستوحاة من (بوابة عشتار البابلية... وبرج بابل). ومما زاد من أبعادها المعمارية رونقًا وبهاءً تحوير زواياه الأربعة إلى أبراج قلاع مستقاة من التراث المعماري القطري.
وفي الأخير لا بد من الإشارة إن توارد تواريخ البنائين كما ورد أعلاه بهذه الدقة العام (2006 قبل الميلاد) سحق مدينة أور حسب ما ورد في المصادر التاريخية الحديثة الخاصة بمدينة أور... والعام (2006 للميلاد) سنة الانتهاء من بناء المتحف على هيئة (صرح سومري... على ضفاف كورنيش الدوحة) قد أعطى حسًّا زمنيًّا عميقًا لم يكن بالحسبان..
تغريد
اكتب تعليقك