حروب الماءالباب: مقالات الكتاب
أ.د. منير يوسف طه العراق |
مخطئ من يظن أن ليس هناك ما يسمى أو يعرف بحروب الماء, وإن نشأتها قد تكون أقدم وإن غمار من خاضها كانت أعتى بكثير من الحروب (الميدانية) التي شهدها الإنسان عبر مسيرته الثقافية الطويلة وبالتالي التاريخية وإلى يومنا هذا.
كما أن المتتبع بالأسباب الحقيقية لنشوب بعض من المعارك (الميدانية) ومنذ عصور سحيقي في القدم سيجد لابد وإن عنصر الماء كان من أحد أسبابها المباشرة. وإن من أرحامها ومما لا يقبل الشك ولدت ما يعرف بالهجرات السكانية والتي كان اشتدادها يزداد ضراوة كلما زاد الجفاف حدة وقساوة.
وللدلالة أيضًا على نشوب (حروب الماء) منذ القدم يكمن أيضًا بكون الماء يمثل عنصر الحياة. هو ما ورد في نصوص الكتب المقدسة الثلاثة التي تشير وبإسهاب إلى أهمية وقدسية الماء لديمومة الحياة. ففي آيات الذكر الحكيم وعلى سبيل المثال لا الحصر وتحديدًا في سورة الأنبياء(الآية 30) يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز (فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (صدق الله العظيم).
ومما لا يقبل الشك إن المضامين الخاصة والعامة لهذه الآية الكريمة وما لحقها من آيات عدة لها علاقة مباشرة بأهمية الماء يكمن بكون أن كل شيء يدب على سطح الأرض وإن وكل شيء حي عليها خلق من الماء.
كما أن أعماق هذه الآية الكريمة يكمن أيضًا بتذكير أو بالأحرى حث المسلمين الأوائل على العيش على ضفاف مصادر المياه أو بالقرب منها لما لها من عطاء اقتصادي يضمن لهم ومن معهم لعيشهم الرغيد. فمن الماء الغذاء والدواء, وفيه فنون التجارة والإبحار, ومن اعماقه يخرج اللؤلؤ والمرجان.. إلى جانب هذا وذاك.. أن الماء هو رمز النقاوة والطهارة للإنسان وبكل الأبعاد.
كما أن المتتبع في الكتابين المقدسين (العهد القديم والعهد الجديد) سيجد أن هناك الكثير, الكثير من الإشارات والنصوص تذكر أهمية الماء للحياة وديمومتها وللتعميد أيضًا. وعلى سبيل المثال لا الحصر يذكر (العهد القديم) في أحد نصوصه العديدة الخاصة بقدسية وأهمية الماء للحياة ما يلي نصه: "وهكذا خرجت الحياة من الماء".
أما (العهد الجديد) والذي ورد فيه الكثير فيما يخص قدسية وأهمية الماء لديمومة الحياة فيذكر وعلى سبيل المثال لا الحصر بهذا الخصوص ما يلي نصه: "من يشرب من الماء الذي يعطيه الرب لن يعطش إلى الأبد".
وإذا تابعنا عن كثب أدبيات النصوص الخاصة بقدسية وأهمية الماء عند شعوب الأرض القدماء وإلى يومنا هذا. سنجد أن عموم تلك الشعوب هي الأخرى قدست الماء لدرجة أن الأقدمين منهم خصصت للماء (آلهة وآلهات) تعبد وتقدس في معابد خاصة لها. كما كانوا المتعبدون يتضرعون لها بكل خشوع كي تمدهم بالماء على مدار اليوم والعام وتحديدًا خلال مواسم الحرث والبذر والزرع.
وخير دليل على ذلك وعلى سبيل المثال لا الحصر الأدبيات والنصوص الدينية وبالتالي المعمارية التي خلفها لنا سكان بلاد الرافدين وتحديدًا السومريون الذين خصوا كبير إلههم (إنكي) صفة إله الماء ومنحوه رمز الثعبان للدلالة على جبروته وقوته الخارقة. إلى جانب هذا... وذاك كونه (حارس مياههم). كما دلت أدبياتهم استعمالهم الماء لتعميد أنفسهم قبل الشروع بممارسة طقوسهم الدينية.
وفي ذات السياق يمكن القول لآبد وإن هناك تواصل روحي ما بين اعتقاد السومريين بكون الثعبان (حارس المياه) وسكان شبه الجزيرة العربية الأقدمون الذين حرصوا على القول إن الثعبان (حارس المياه), بما في ذلك ماء بئر زمزم.
أما في بلاد وادي النيل فقد خصص سكانها الأقدميين آلهة وآلهات للماء وضعت شخوصها في المعابد ومراكز العبادة. ومن الملاحظ في ذات الخصوص إن المصريين القدماء جسدوا آلهة الماء التي أطلقوا عليها كنية (نوو أو نون) على هيئة عدة أشكال وأوضاع مختلفة الأبعاد ونعتوها بعدة أوصاف. منها وعلى سبيل المثال لا الحصر شكل (أفعى) لها قوام امرأة.
وفي عالمنا الحالي وعندما أدرك الإنسان أهمية الماء لحياته ولحياة أجياله القادمة بدأ بكل صبر وجلد بإحصاء السنوات التي سيختفي في نهاياتها عنصر الماء من سطح وجوف الكرة الأرضية. كما عمد على دراسة احتمالات الحياة ما بعد الجفاف أو شحة المياه هنا وهناك التي قد تصل لدرجة الهلاك.
ومن هذا.. و ذاك توصل المتلهفين لهذه الدراسات إلى نتائج مفادها.. إن المياه التي جعل منها الله تعالى (كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) ستجف وبدون أدنى شك في يومًا من الأيام. ومن هذا المنطلق بدأت كثيرًا من الدول وخاصة الشحيحة منها بالماء أو تلك التي يزحف إليها الجفاف بخطى حثيثة إلى توعية شعوبها بأساليب توفير استهلاك المياه وبأي ثمن كان.
أما الدول ذات الأبعاد الاقتصادية الجيدة وقطعت أشواطًا حثيثة بعلوم التكنلوجيا الحديثة التي مكنتها لتكون لها باعًا طويلاً بعلوم الفضاء وبناء المركبات الفضائية فقد بدأت بالعمل الجاد على بناء مركبات فضائية عملاقة تسبح في الفضاء باحثة عن كواكب فيها مصادر مياه كي يلجؤوا إليها عند جفاف مياه الأرض.
ومن منطلق حلول الجفاف في المدار الشمالي من الكرة الأرضية وتداعياته على بعض ممن شملهم من المجاميع البشرية كما سنرى أدناه. سنقف أيضًا على معطيات بيئية ومناخية (لثلاثة مناطق قديمة) غنية بمصادر المياه شهدت هجرات بشرية وجذب سكاني منقطع النظير كانت أسبابها مجازًا (حروب الماء) والتي تعني في هذا السياق منع تدفق الماء من منطقة إلى أخرى وذلك للاحتفاظ بأكبر كمية منه واستخدامها لأطول مدة ممكنة. أو اتباع سياسة التهجير القصري وذلك لديمومة ما تبقى من مياه في الآبار والبحيرات والبرك التي بدأت تفقد عطاءها المائي.
أما المنطقة (الرابعة) وإن كانت ولا زالت متواضعة بمساحتها الجغرافية إلا إنها النموذج الآن الحي لما كانت علية المناطق الواقعة ضمن رقعتها الجغرافية (شبه الجزيرة العربية) قبل أن تجتاحها فلول الجفاف وتقلب موازين مساحتها الجغرافية المترامية الأطراف من مناطق خضراء غناء تعج بها أنواع الحيوانات والنباتات والمراعي الغناء إلى صحاري جرداء لم تترك لقاطنيها أي خيار سوى هجرها طوعًا أو قسرًا على هيئة موجات تبحث عن أرض وفيرة المياه العذبة المتمثلة بالأنهار الجارية والمسطحات والمسالك المائية. وبعد أن حلوا فيها سرعان ما انصهروا في بوتقة سكانها الأصلين ثم عمدوا جاهدين على جعل المناطق التي حلوا فيها أكثر عطاءًا اقتصاديًا وثقافيًا وخير دليل على ذلك الدلائل الأثرية والنصوص التاريخية التي خلفوها طيلة مسيراتهم الثقافية وبالتالي التاريخية.
والمناطق الأربعة تلك هي:
1 - 2 - بلاد وادي الرافدين، وبلاد الشام.
3 - بلاد وادي النيل.
4 - واحة تيماء.
1 - بلاد وادي الرافدين، وبادية الشام:
تقع بلاد وادي الرافدين التي لعبت دورًا هامًا في الجذب السكاني المتواصل نتيجة الجفاف القاسي الذي حل في عموم شبه الجزيرة العربية وولدت من رحمه ما يعرف بـ(حروب الماء) كما ورد أعلاه في الزاوية الجنوبية الغربية لقارة آسيا. كما أن حدودها الشمالية الغربية تندمج جغرافيا مع الحدود الشمالية الشرقية لبلاد الشام مما جعلها تمثل وحدة جغرافية تمتد من اعالي نهر الفرات شرقا وحتى شرق سواحل البحر الأبيض غربا. لهذا...وذاك فأن مضمون هذا السياق سيتركز فقط على الهجرات البشرية التي خرجت من (شبه الجزيرة العربية) باتجاه بلاد الرافدين وبلاد وادي الشام خلال حلول الجفاف القاسي في معظم أصقاعها. تاركين الهجرات البشرية الأخرى اليهما ومهما كانت دوافعها لبحث او بحوث لاحقة.
ومما لا يقبل الشك إن وفرة المسطحات المائية في بلاد وادي الرافدين وخاصة في مناطقها الجنوبية والوسطى إضافة إلى نهريها (دجلة والفرات) الذين ينبعان من مناطق وفيرة الثلوج والأمطار إلى جانب كثرة روافدها المائية المنتشرة من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها. يضاف إلى هذا وذاك خصوبة أرضها واعتدال مناخها ووفرة أمطارها مما جعلها آنذاك بمنأى عن شحة المياه طوال العام. لهذا الأسباب والمقومات الحياتية الأخرى كانت بلاد الرافدين من أقوى إن لم تكن الأقوى المناطق القديمة ذات الجذب السكاني للهجرات البشرية التي خرجت من شبه الجزيرة العربية باتجاهها نتيجة استمرار ذلك الجفاف وتداعياته بدون أي هوادة. وخير الدلائل الملموسة على ذلك هي المخلفات الثقافية والعمرانية والحضارية وبالتالي التاريخية التي خلفها أولئك المهاجرون في المناطق التي قطنوها فانتشرت معالمهم فيها.
ومن الجدير ذكره فيما يخص بدايات واشتداد وبالتالي تداعيات حلول ذلك الجفاف المستمرة أبعاده لحد الآن. تذكر الدراسات المناخية والجيولوجية وبكل ثقه (إن الجفاف القاسي الذي عم عموم المدار الشمالي من الكرة الأرضية نتيجة التغيرات المناخية المفاجئة بدأت بوادره بالظهور خلال ما يعرف (بعصر البلايستوسين) الذي حدد الباحثين والدارسين بداياته الأولى قبل نحو مليونين ونصف المليون عامًا. واشتدت ضراوته قساوته وتحديدًا في (شبه الجزيرة العربية) وشمال أفريقيا خلال بدايات الألف العاشر قبل الميلاد. لدرجة عمد الكثير من قاطني تينك المنطقتين على هجر مناطقهم والبحث عن مناطق أخرى أكثر عطاء.
وبعد استمرار وشدة تداعياته قساوة بدون أي هوادة خلال الألف الرابع والثالث قبل الميلاد ازدادت موجات النزوح (كمًّا وعددًا) الخارجة من شبه الجزيرة العربية باتجاه جنوب بلاد الرافدين ذات العطاء الأوفر والأقرب. وكانت أولى تلك الموجات وحسب المعطيات الأثرية هي ما يعرف بالهجرة (الأكدية) التي حدد تاريخها علماء الآثار خلال بدايات الألف الثالث قبل الميلاد.
وبعد استقرارهم ومن ثم امتزاجهم بالسومريين في المناطق الجنوبية والوسطى من بلاد الرافدين أسسوا مملكتهم في العام (2334) قبل الميلاد. ولا يستبعد أنهم اتخذوا من المدينة السومرية (بابل) عاصمة لمملكتهم التي لا زالت آثارها (كاملة) مطمورة مع المخلفات المعمارية والثقافية للمالك التي خلفتهم في مياهها الجوفية التي تصل في بعض من مناطقها إلى قرب السطح.
وهنا لابد من الإشارة أيضًا إلى أن الدراسات المستقبلية الخاصة بعصور ما قبل التاريخ لابد انها ستلقي مستقبلاً الكثير من الضوء على احتمالية وصول بعض المجاميع البشرية إلى جنوب بلاد وادي الرافدين خلال (العصر الحجري القديم) أي إنها سبقت هجرة المجاميع الأكدية القادمة من شبه الجزيرة العربية بأكثر من ستة آلاف عام وسرعان ما اندمجت تلك المجاميع تدريجيًا مع ادواتهم وآلاتهم الحجرية مع سكانه الأصليين السومريين.
ومن الدلائل الأثرية والمناخية وبالتالي الجيولوجية الدامغة التي خلفها ذلك الجفاف القاسي بكل الأبعاد في شبه الجزيرة العربية هي منطقة الربع الخالي الواسعة الأطراف والتي تأثرت وحسب الدراسات المناخية والجيولوجية وبالتالي الآركيولوجية تأثيرًا قاسيًا ومباشرًا لحين أمست أراضيه الخضراء التي كانت ترعى فيها أنواع الحيوانات إلى صحاري جرداء لا نبته فيها ولا ماء. كما حول ذلك الجفاف القاسي أيضًا مجاري الأنهار والمسطحات المائية إلى صحراء جرداء وقيعان أنهر جافة لا في عموم الربع الخالي فحسب بل في أغلب مناطق شبه الجزيرة العربية التي منها وعلى سبيل المثال لا الحصر منطقة العلا. إلى جانب الكثير من مناطقها الشمالية والشمالية الغربية ومناطقها الداخلية الواقعة ضمن الساحل الغربي للخليج العربي وصولاً الى دواخل ساحل عمان والتي هي الأخرى غيرت معالمها موجات الجاف المتواصلة من مناطق خضراء إلى قيعان جافة وسهولاً جرداء وصحاري قاحلة تمتد لمسافات وأعماق ومنها خرجت أيضًا موجات المهاجرين الباحثين عن مستقرات آمنة.
ومما لا يقبل الشك إن الدراسات المستقبلية الخاصة بالأدوات والآلات الحجرية التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ وتحديدًا تلك التي كشف عنها على ضفاف أنهار وبحيرات الربع الخالي والمناطق الأخرى التي حل بها الجفاف لابد وإنها ستتمخض عند مقارنتها مع الأدوات والآلات الحجرية التي تنسب أيضًا لعصور ما قبل التاريخ للمناطق التي استقروا أو حلوا فيها سيان كان ذلك في بلاد وادي الرافدين أو بلاد الشام عن نتائج أوسع وأشمل لتلك الهجرات. من أهمها وعلى سبيل المثال لا الحصر تحديد فترة العصر أو العصور الحجرية التي وصلت خلاله أو خلالها تلك الموجات إلى مستقراتهم الجديدة.
أما الموجات البشرية الكبرى التي خرجت من شبه الجزيرة العربية أيضًا بعد أمواج الأكديين وتركت بصماتها في بلاد الرافدين فقد كانت موجة الآشوريين والتي حددها علماء الآثار وحسب المعطيات الأثرية خلال الألف الثالث قبل الميلاد أيضًا.
وبعد امتزاجهم الطويل بالثقافة السومرية في جنوب ووسط البلاد كما عمد الأكديون من قبلهم. ولكي يكونوا بعيدين جغرافيًا عن السومريين وبالتالي الأكديين أسسوا عاصمتهم الأولى (آشور) التي انطلقوا منها نحو الشمال على الجهة اليمنى من نهر دجلة. وعلى مسافة أكثر من مائة كيلومترًا جنوب مدينة الموصل الحالية في العام 2500 قبل الميلاد.
ومن الهجرات البشرية الأخرى اللاحقة التي خرجت من شبه الجزيرة العربية باحثة عن الماء وحسب المعطيات الآركيولوجية بعدما ما كانت قوافلهم التجارية تخرج من بلاد اليمن شمالاً وعلى مقربة من الساحل الشرقي للبحر الأحمر هي القبائل الآمورية. كما أكدت الدراسات الخاصة بهجرتهم إن مجاميع منهم اتجهوا نحو شمال وشمال غرب الجزيرة العربية حيث تدمر والبتراء ودمشق والتي جميعها كانت تتمتع بمصادر وفيرة بالمياه. أما مجاميعهم المهاجرة الأخرى فمنهم من واصل سيرهم شرقًا باتجاه نهر الفرات ثم عرجت جنوبًا واستقرت في وسط بلاد الرافدين.
وبعد استقرارهم المديد في بلاد الرافدين عرفوا فيما بعد (بالبابليين) الذين أسسوا بما يعرف بمملكة (بابل الأولى) واتخذوا من بابل عاصمة لهم والتي ولد من رحمها خلال القرن الثامن عشر قبل الميلاد الملك الذائع الصيت (حمورابي).
أما فيما يعرف بالموجات الكنعانيية التي تركت شبه الجزيرة العربية خلال نهايات الألف الثالث قبل الميلاد بحثًا عن المسطحات المائية وضفاف الأنهار واستمرت هجراتها خلال الألف الثاني قبل الميلاد أيضًا فقد استقر معظمها قرب الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. كما انتشر البعض منهم في ربوع عموم بلاد الشام.
ومن مجاميعهم وتحديدًا الذين سكنوا قرب سواحل البحر الأبيض المتوسط الشرقية وعملوا بالتجارة البحرية وصيد وجمع الأصداف البحرية المعروفة باسم (الميروكس) من قاع البحر الأبيض لاستخراج صبغة الإرجوان منها والمتاجرة بها على أوسع نطاق. ونظرًا للنجاح المنقطع النظير الذي حققوه بتجارة صبغة الإرجوان أطلق عليهم الإغريق (الفينيشيون- الفينيقيون) التي تعني بلغتهم لون الإرجوان.
ومن القبائل العربية الأخرى التي خرجت من الجزيرة العربية بحثًا عن المسطحات المائية والأنهار الجارية وبأتجاه بلاد الرافدين وبلاد الشام على وحسب المعطيات الأثرية والشواهد التاريخية الآراميون الذين كانت قوافلهم التجارية أيضًا تجوب بلاد اليمن وعموم المناطق الساحلية الغربية لشبه الجزيرة العربية, ثم جاءت من بعدهم هجرة الأنباط, والمناذرة, والغساسنة والحضريون (سكان مدينة الحضر) الذين كانت لهم علاقات تجارية مميزة مع الخليج العربي وحسب الشواهد الأثرية الحديثة.
إن المتتبع عن كثب الأزمنة التي خرجت خلالها الهجرات البشرية من شبه الجزيرة العربية سيجد أن اشتدادها بدأ خلال نهايات الألف الرابع قبل الميلاد ثم اشتدد سعيرها خلال الألف الثالثة قبل الميلاد. وبذلك كانت مراحلها الزمنية الأولى تتزامن مع اختراع الكتابة في بلاد الرافدين التي نقلت البشرية من ظلمات عصور ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية. إلى جانب ظهور حكم السلالات السومرية خلال البدايات الأولى للألف الثالث قبل الميلاد. ومما لا يقبل الشك إن تينك الظاهرتين المتميزتين لابد وإنهما قد ساعدتا الكثير من القادمين الجدد الاستفادة من معطياتهما لما لهما من أبعاد بتطور المسيرة الإنسانية نحو الأفضل. بدليل قيام الدولة الأكدية على أسس السلالة السومرية الثالثة وانطلاق شرارة الدولة الآشورية من شمال بلاد الرافدين.
2 - بلاد وادي النيل:
تقع بلاد وادي النيل في اقصى الزاوية الشمالية الشرقية للقارة الأفريقية. ونظرًا لموقعها الجغرافي المميز هذا, إضافة إلى وقوع البحر الأحمر في جهتها الشرقية ووقوع البحر الأبيض المتوسط في شمالها جعلها المحور الأساسي لربط القارات الثلاثة القديمة (آسيا وأفريقيا وأوروبا) فيما بينها وبالتالي هدفًا وملاذًا للهجرات البشرية إليها الطوعية منها والقسرية.
وحسب النصوص التاريخية وكتب الرحالة والمستكشفين فقد زار بلاد النيل عبر العصور الكثير من الفلاسفة والمفكرين والمغامرين ومن بينهم كانوا الإغريق والرومان. وبعد أن وقفوا مليًا على انجازاتها الثقافية والعمرانية كتبوا عنها العديد من النصوص التاريخية والأدبية. إلا أن أهم ما كتب عنها وكما هو معروف المؤرخ اليوناني (هيرودتس) والذي قال عنها في إحدى نصوصه "مصر هبة النيل".
أي أن لولا (مياه) نهر النيل لامست (مصر) شبه صحراء قاحلة الأجزاء وبعيدة كل البعد عن جذب الهجرات البشرية إليها.
3 - هجرات المجاميع البشرية إلى وادي النيل
قبل الولوج في معترك هجرات المجاميع البشرية إلى بلاد وادي النيل لابد من الإشارة إلى أن الهجرات البشرية الأولى إلى وادي النيل تمثلت بموجات ما يعرف (بالمصريين القدماء) وموجات الكوشيين. وإن أكبر تينك الموجتين وعلى ما يظهر من خلال الدراسات الميدانية كانت مجاميع (البجا) والذين عرفوا بالحاميين نسبة إلى (حام بن نوح) للدلالة التامة على أنهم خرجوا أيضًا من رحم شبه الجزيرة العربية كما خرجت منها مجاميع الهجرات السامية نسل أخيه (سام بن نوح).
أسس (الحاميون) أول سلالة (أسرة) حاكمة في وادي النيل خلال منتصف الألف الرابع قبل الميلاد في شمال البلاد (مصر السفلى) حيث الدلتا وكثرة المياه وخصوبة الأراض الشاسعة الأطراف. وبعد الدراسات الموقعية تبين أن سكان شمال البلاد آنذاك كانوا أيضًا خليطًا من المجاميع البشرية المهاجرة التي أهمها كانت مجاميع سكان جنوب البحر الأبيض المتوسط.
أما المناطق الجنوبية (مصر العليا) فقد سيطرت عليها المجاميع الحامية أيضًا. وبعد نزاعات طويلة ما بين مصر العليا ومصر السفلى وحد الملك (مينا) بلاد النيل خلال نهاية الألف الرابع قبل الميلاد. وهذه الفترة الزمنية تتزامن مع وصول الموجات البشرية (السامية) الكبيرة القادمة من شبه الجزيرة العربية باتجاه جنوب وادي الرافدين.
ومن الملاحظ وفي ذات السياق أيضًا إن هجرة القبائل (الأمزيقية) التي وصلت إلى وادي النيل وتأسيس السلالة الثالثة والعشرين كانت بسبب المجاعة التي حلت في بلادهم وهذه الحالة هي في واقعها حالة من (حروب الماء) التي من تداعياتها الأكثر ثراء وهو الأكثر بطشًا.
أما هجرات القبائل (السامية) إلى بلاد وادي النيل من شبه الجزيرة العربية فهناك بعض الدلائل والاجتهادات البحثية التي تؤكد ذلك. وعلى سبيل المثال لا الحصر إن هناك نص مدون بالخط الهيلوغريفي محفوظ الأن في متحف مدينة (سانت بطرس) في روسيا ورد فيه أن (نزوح الآموريين) من شبه الجزيرة العربية إلى وادي النيل كان عبر شبه جزيرة سيناء.
أما النص الآخر الذي يذكر دخول الآموريين إلى بلاد وادي النيل من شبه الجزيرة فقد جاء من بين نصوص المؤرخ الروماني (بليني). حيث تذكر إحدى نصوصه إن دخول القبائل العربية إلى وادي النيل عبر البحر الأحمر كان ذلك خلال البدايات الأولى للألف الثالثة قبل الميلاد وانهم عبدوا الإله (حورس) هناك.
4 - واحة تيماء
تقع واحة تيماء ذات الأبعاد الجغرافية والأثرية والتاريخية والثقافية في الجهة الشمالية الغربية من شبه الجزيرة العربية. وهي في واقعها المحيطي تمثل واحة متناسقة الأبعاد حيث تمتد من الشرق إلى الغرب بواقع خمسة كيلومترات. ومن الشمال إلى الجنوب بواقع تسعة كيلومترات.
ولابد من الإشارة أن ذكرها في هذا السياق ينيع بالقول.. إن أغلب مناطق شبه الجزيرة العربية قد حلت بها موجات قاسية من الجفاف عبر عصورها الغابرة إلا هذه الواحة الجميلة سلمت من تلك المتغيرات والتداعيات المناخية والجيولوجية واستمرت بعطائها لمن آواها ومر بها عبر العصور الثقافية والتاريخية وإلى يومنا هذا. وإن ديمومتها إلى اليوم يكمن إنها كي تعكس الصورة الحية والنموذج الحقيقي لتلك المناطق قبل أن تجتاحها فلول الجفاف كالربع الخالي والمناطق الأخرى التي ورد ذكرها أعلاه، وللدلالة التاريخية على أهمية وثراء واحة تيماء عبر العصور تذكر إحدى حوليات الملك الآشوري (تجلات بليصر الثالث) والذي حكم الدولة الآشورية خلال النصف الأول من القرن الثامن قبل الميلاد إنه تلقى إبان حكمة الجزية منها.
أما الملك البابلي نبونائيد آخر ملوك بابل فتذكر حولياته إنه (هجر) عاصمته بابل بعد دخوله واحة تيماء مركز عبادة إله القمر (سن) واستقر فيها مدة أحد عشر عامًا. وأن إقامة الملك نبونائيد في ربوع واحة تيماء طيلة تلك المدة الطويلة نتج عنها ضعف ووهن (بابل) مما أدى إلى أفولها والسلالة الكلدية بعد غزوها من قبل الأخمينين في العام (539) قبل الميلاد.
وبعد أفول نجم بابل فقدت وعلى ما يبدو واحة تيماء بعض من أهميتها التجارية حينًا من الدهر. ثم عاودت نشاطها التجاري المتميز لما لها من مقومات جغرافية وطبيعة إبان حكم اليونانين ومن ثم الرومان.
وخلال العصور الإسلامية الأولى زار واحة تيماء العديد من الجغرافيين والرحالة والكتاب العرب منهم والمسلمين. والدليل على ذلك هو ذكرهم لأحوالها وأحوال أهلها. ووصفها بوفرة مياهها والدليل على ذلك شهرتها بوفرة النخيل فيها. كما ذكر البعض منهم سورها العظيم الذي كان يحيطها من ثلاث جهاتها.
أما الدلائل الأثرية فتشير إلى كشف العديد من الآثار المنقولة والغير المنقولة فيها والتي كانت من بينها مسلة حجرية عثر عليها الفرنسيين في العام 1879. ولازالت محفوظة في متحف اللوفر. ومن أبعاد تلك المسلة كتاباتها الآرامية. كما كشفت فرق التنقيبات والكشوفات الأثرية اللاحقة عن المزيد من الكتابات الآرامية المنقوشة على الألواح الحجرية مما يدل على شيوعها عبر العصور التاريخية المتلاحقة.
ومن مفارقات أهوال الطبيعة وتداعياتها نشهد وبعد مرور حوالي اثنى عشر ألف عام على بدء حلول الجفاف القاسي بكل الأبعاد انقلبت موازين الطبيعة رأسًا على عقب. فإذا بالمناطق عمومًا التي كانت ذات الجذب السكاني المستمر عبر العصور والدهور واحتوت وبكل الأبعاد الموجات البشرية المتدفقة إليها واحدة تلو الأخرى لأكثر من عشرة آلاف عامًا الكثير منها الآن عرضة (لحروب الماء).
وإذا ما استمر الحال على ما عليه ستعمد بعض من هذه الدول القريبة من سواحل البحار والخلجان البحرية على بناء مراكز تحلية الماء. ولكن السؤال كل السؤال هل الناتج المائي مهمًا كانت طاقاته الإنتاجية القصوى سيوقف أو بالأحرى سيسد رمق ملايين الملايين من العطشى, وليروي شرايين مساحات ملايين الملايين الدونمات من الأراضي التي تلهث بحثًا عن الماء والتي كانت يومًا مرتعًا لكائن من كان. أما الدول البعيدة عن تلك المصادر لأي سبب كان فليس لها غير خيار خوض غمار (حروب الماء).
كما لا يستبعد أيضًا وعلى المدى البعيد سيشهد من تبقى من سكان الكرة الأرضية كيف ستجوب المركبات الفضائية العملاقة أغوار الفضاء باحثة عن كوكب فيه ماء. وإن وجد ذلك الكوكب وعاش على سطحه سكان الأرض ستعاد على سطحه وبدون أدنى شك مأساة كوكب الأرض ثانية التي ستبدأ بحروب الماء....!
تغريد
اكتب تعليقك