أنا «لست شخصا»الباب: مقالات الكتاب
غادة عبد الله العمودي جدة |
من أهم الأسئلة التي ينبغي أن يوجه لها الاهتمام في كل مرحلة حضارية يعيشها الإنسان ، هي الأسئلة المتعلقة بالذات الإنسانية. إن الإنسان بوصفه "ذاتا" و"معنى" يظل إشكالية لا تفنى لتداول الأفكار وإثارة القضايا حوله. إن بحث الإنسان في ذاته يأتي نتيجة خصيصته الفريدة ، فالإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يحاول أن " يعي" ذاته، أي أن "الوعي" بأن الإنسان يحيا ويحس ويعرف ببصيرته أنه يحيا ويحس، يجعل الإنسان يتخذ من ذاته موضوع أبحاثه أو أحكامه، وبهذا يمكنه أن يرفع إدراكاته وشعوره من مستوى الحياة البدائية إلى مستوى "المعاني"، متجاوزًا "ذاته" في أعماله، من هنا يكتسب الإنسان كرامته وامتيازه. إن ركوب الرحلة باتجاه "ذاتنا" لهو من أمتع الأنشطة التي يمكن أن نقوم بها في حياتنا ! وحين يتوقف السؤال حول الإنسان أو عنه، فإن مسيرة الوجود تكون قد وصلت إلى نفق مظلم يستحيل معه تجدد الحياة، لأن الحياة معنية بالدرجة الأولى بغائيتها وهي الوجود الإنساني.
من الأسئلة المصيرية أن نتساءل: كيف تتشكّل شخصياتنا !؟ وكيف يتطور الجزء المعنوي في بنائنا ما وراء العضوي؟!
إن " الشخصية" هي فعل التشخصن: وهو البحث المستمر عن شخصية جديدة يتم تقصمها من خلال دوامة التعدد والتطور اللذين هما سمة الحياة، واللذان لا ينتهيان إلا عندما يموت الإنسان. فالشخصية هي محصلة التفاعلات التي نكون طرفاً فاعلاً فيها سواء استشعرنا ذلك أم لا؛ تفاعلاتنا مع حركة الزمن وتطور الحياة، فكل شيء في "الأنا" البشرية يتغير ويتعدد ولا شيء يبقى على حال واحدة ، سواء تعلق الأمر بالإنسان، أو بمحيطه النفسي والثقافي والاجتماعي والتاريخي، أو بالمفاهيم والأفكار، أو بالقيم والمواقف والرموز التي تؤطِّر أفعاله وسلوكه، لذلك فإن الشخصانية هي "الاعتراف" الذي نقرّ عبره بضعفنا الإنساني وحاجتنا للتطور. وهكذا تتشكل شخصيتنا أي أننا بتفاعلنا نكوِّن شخصياتنا، وهذا وجه من الحرية الذي نمارسه بالفطرة، فالحرية في معناها العميق هي: إمكانية الفعل في محيط مفروض علينا للوصول إلى هدف محدد نطمح إليه. لذلك يختلف ويتعدد أفق الحرية بحسب الظرف الموجود فيه الإنسان، وبمعنى أدق بحسب شخصيته، فهناك: حرية الكاتب، وحرية السجين، وحرية العمّال، وحرية الشعوب المستعمَرة. والغريب أن هذا البناء للشخصية يأتي نتيجة غير مقصودة، فالقانون الوحيد للشخصية هو التغير والتشكل والفرز والبناء بفعل تغير الظروف المؤثرة فينا. ومن هنا يتضح لنا خطأ أن نطلق أحكاماً عامة وتامة وأبدية على شخصية الإنسان، نعم قد نقوِّم سلوكه في مرحلة معينة، وداخل لحظة زمانية محددة، ووفق ظروف موقوتة، ولكن من الخطأ أن يمتد هذا الحكم على طول عمر الإنسان أو أن يصبح ثيمة نهائية له. إذ من غير المنطقي أن تطلب من الشخص أن يكون له موقف واحد ثابت على الدوام، لأن في ذلك استخفافاً بكثافة وجوده وغنى تحولاته، فالشخص ذو الموقف الواحد هو الذي لم يتشخصن بعد، أي أنه رضي أن يكون كائنا، والكينونة هي رتبة سابقة على التشخصن، ومن يرضى أن يظل كائنا فإنه يكون إما جباناً أو مفلساً من فعل التحدي ومجاهدة التجديد. وكلما اتسع الأفق المجتمعي بمكتسبات جديدة نمت الحياة النفسية والحياة العقلية، شريطة أن يكون النزوع في هذه المكتسبات يتجه نحو "التعالي" بالإنسان. ولذلك فإن من خصائص الجاهلية (أي عدم وجود الإنسان في علاقات اجتماعية، ومع عدم خضوعه لقانون يقوم على القيم) أن تتلاشى الشخصية المستقلة للإنسان "الجاهلي"، حيث يذوب في المجموع، هذا المجموع قد يكون القبيلة أو العرق أو نحو ذلك، لأنه لا يملك شعوره الخاص بذاته ، فهذا الشعور إنما ينبثق عن وجود منظم للتفاعل بينه وبين المؤثرات من حوله وهو ناتج عن إحساسه هو بذاته أولاً. أي أننا نخدم الجماعة بقدر ما نشعر بذاتنا لا العكس، ولهذا فمن الخطأ أو تقوم الأحزاب السياسية في عصرنا الحديث بديلاً عن القبيلة والعصبية العرقية في المجتمعات البدائية، حيث يفنى فيها الناخبون على حساب وعيهم بذاتيتهم، ويظهر هذا الذوبان في التسليم الأعمى لقرارات الحزب حتى وإن كانت غير ذات جدوى دون وضعها على ميزان التحكيم العقلي.
من هذا الفهم لتكوين الشخصية؛ فإننا نعتبر من الخطورة والخطأ معا أن يتم إدراج اختبارات الشخصية في التقدم على الوظائف، حيث يتم الحكم على الإنسان حكماً جامداً يعطّل قدرته على التغير والتجدد. إن مشكلتنا مع أنفسنا تظهر حين نود من هذا الجزء المتغير فينا أن يكون ثابتاً أو نهائياً، فهذا يخالف طبيعته ويخالف سنة التغير الكونية، لأن الشخص هو حصيلة شخصيات لا شخصية واحدة، طالما أن العلاقات الاجتماعية والسيكلوجية والتاريخية والثقافية التي تفصِّله؛ هي في تغير مستمر وتتخذ أحوالا لا حصر لها.
والشخصية ليست خطيئة عالم الإنسان، والتشخصن ليس نقمة إنما هو نعمة وعلامة على الحيوية، والشخصية هي نواة "النفي" أو القدرة على قول "لا" التي يتميز بها النوع البشري عن غيره من الكائنات، فالشخصانية تبتدئ عندما يرفض الشخص الطاعة العمياء (طاعة الأشخاص وطاعة الأشياء)، ويعترف بالقيمة العليا للعقل والفكر، فالإنسان مخلوق حرّ وقادر على الرفض والتغيير، إذ بدون نفي ما هو موجود لا يمكن أن يحصل أي تغيير. إننا يمكن أن نعتبر الشخصية مثل اللوحة الزجاجية التي تتغير تبعاً لما ينعكس عليها من الألوان والأضواء والأشكال - لو تتبعنا كلمة شخص (persona) باللاتينية، نجد أنها تدل على القناع أو المظهر الجسماني الخارجي للإنسان، أو على شبحه الظاهر، أي ظلهّ. أليست كلمة (persona)، بالنسبة للواقع إلا ظلا له، ومجرد كائن مسرحي مقنع (أحيانا بقناع المأساة، وأحيانا بقناع المهزلة) ؟! ثم صارت تدل منذ عهد (شيشرون) على "الدور" الذي يلعبه الإنسان المقنع في التمثيلية - مما يدل على الطابع المتغير والمتحرك للشخصية. هذا الفهم لوجود خارجي للشخصية يمكِّننا من ملاحظة التغير وتصحيحه وتعديله حسب مقتضى الأمر. ولأنه لابد من وجود تفاعل يكشفه هذا اللوح الزجاجي، ولأن هذا التفاعل يحتاج إلى سيطرة، فإن عنصر السيطرة يكمن في "النفس". فالنفس هي مجمع القوى في الكلّ الإنساني. ففيها قوى الروح والعقل والقلب والجسد، لذلك فإن قدرتها في السيطرة على توازن هذه القوى؛ أساسي لا مجال لعرقلته مدة معيشة الإنسان على الأرض.
وإلى هذه "النفس" كانت تتوجه الديانات السماوية والوصايا الإلهية ونظريات التربية والتعليم، لأن "النفس" بما تحمله من قدرات وتمارسه من حقها في الاختيار؛ هي التي تحدد الملامح العامة للشخصية الإنسانية، وترسم طريقة الحياة على الأرض. كما أن وجود النفس هو الضامن الذي يحفظ لنا:
أولاً: الهوية الإنسانية: لأن الشخصانية هي تقوقع داخل الذات وتجاوز هذا الحيز الضيق إنما يكون عبر الامتداد الذي تمنحنا إياه الإنسانية والتي هي سمو النفس.
ثانياً: الاتزان والاتساع: حيث تصبح همومنا الخاصة هي نفسها أهداف النوع العام، فنرتقي إلى مثال الإنسان المنفتح الفاعل في الحياة، إذ نخرج من ثنائية البطل والضحية، و نعيش التوازن.
إن إدراك الحد الفاصل بين "الشخصية" و "النفس" تتبدى أهميته عند حدوث انكسار في الشخصية نتيجة الاصطدام بعارض في المحيط والحياة، إن ما ينكسر ويتأثر هو الشخصية وليس النفس الإنسانية، لذا فإن من الممكن ترميمه أو إصلاحه واستبداله. إننا نخطئ حين نظن أن أرواحنا وأنفسنا تعاني- من أكثر العبارات سلبية أن نصف أرواحنا بأنها تتعذب !- مما ينتج عنه انتكاسات قوية في أدائنا الحياتي واستجابتنا للمؤثرات، حيث أننا نقع صرعى الوهم! والحقيقة أننا نظل قادرين على استبدال لوح الزجاج مادامت القوة موجودة، وهي "النفس"، وقوتها أن تستمر في التفاعل مع المؤثرات وفاعليتها مع الأحداث، ولعل هذا يشرح لنا النصيحة القائلة أنك حين تُخرج نفسك من المشكلة فإنك ترى بوضوح أبعادها، والخروج هنا هو خروج "النفس" لتراقب "الشخصية"؛ ما حجم: قدراتها، و مؤهلاتها، وماذا تحمل من قوة ومعرفة، ومدى فاعليتها في الصمود.
إن الحياة في الطبيعة تتلون وتتكيف وتغيِّر من تكونيها لتتلاءم مع بيئتها على الدوام، ولكنها في جوهرها تظل حياة مسيطرة ولا تُمسخ إلى أشياء أخرى كما يحصل معنا نحن البشر. ولا مفر لنا من الاعتراف بأنه لا وجود لصورة الإنسان " المطلق" الخالي من التأثر بالعوامل الحياتية والزمانية والمكانية، لأننا حتى ونحن أجنّة في بطون أمهاتنا نتلقى ما يجعلنا نتشكل عضوياً ونفسياً، فلا صحة لقصة طفل الغابة الذي ينشأ في الطبيعة بعيداً عن الحوادث والظروف! إن الإنسان الكائن "بكينونته المجردة" لاوجود له، إننا نخضع "بكائننا" للأسباب الكونية والمجتمعية، وندخل عالم القيم والتعليلات والمعايير "بتشخصننا" إذ لا نكتفي بمعاناة الانفعالات، سلبيا، بل نعمل، ونرد الأفعال، ونتحمل مسؤولية ما نفعل، لأننا كائنات حرة خلّاقة لأفعالها .. هذا التوتر نحو الكمال يجعل الإنسان يسمو لأن يصير مالكاً للكون، ومهما حاولنا الخروج من شخصيتنا فإننا في الحقيقة نخرج إلى شخصيات أخرى نعيد تشكيلها بأحلامنا ورغباتنا ورفضنا لكل ماهو ناقص ومشوه في تصورنا، لنصل إلى وضع نصير فيه بصورة أجمل وأقوى مما تنعكس روعته على اللوح الزجاجي ..." الشخصية".
الهوامش:
• لقراءة المزيد حول تطورنا من "الكائن" إلى " الشخص" يمكن قراءة كتاب: دراسات في الشخصيانية الواقعية – من الكائن إلى الشخص، تأليف محمد عزيز الحبابي، طبعة دار المعارف بمصر.
• الشخصيانية الإسلامية، محمد عزيز الحبابي، مكتبة الدراسات الفلسفية، الطبعة الثانية، طبعة دار المعارف بمصر.
تغريد
اكتب تعليقك