المتعة في أن تكون معلمًا قراءة تأملية في رواية «لعبة الكريات الزجاجية» هيرمان هيسهالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-06-16 01:04:13

غادة عبد الله العمودي

جدة

الكتاب: "لعبة الكريات الزجاجية"

المؤلف: د. هيرمان هيسه

المترجم: مصطفى ماهر

الناشر: دار المدى

 

مقدمة

رواية "لعبة الكريات الزجاجية" نوع من روايات النمو والتطور مما تشهده سيرة حياة، فهي رحلة نمو شخص اسمه "كنشت" منذ أن كان طالبًا ليصبح المعلم الأول في الأكاديمية الأوروبية الراقية، فيختص باسم "الماجستير لودي". وما نتابعه هنا هو خلاصات الأفكار التي من شأنها متى ما تمكنت من العقل؛ أن تستولد المؤثِّرين في مسيرة الحكمة داخل الأمة، لا في تاريخ المعرفة فحسب، فيما لو اعتبرنا المعرفة في تعريفنا المعاصر بأنها تجميع المعلوماتية والتقنيات المساندة لها. لذا فلا عجب من أن يكون استعراضنا للرواية هو استقراء للأفكار مع إغفال متعمد لما تقدمه القراءة الأدبية المتعارف عليها من نقد أو دراسة للبناء الفني للعمل الروائي، وهو نوع من القراءة نأمل أن نستطرد فيه لنقعِّد له منهجًا وتناولاً عند تقديم قراءة أي منتوج أدبي، قديم أو معاصر. إنها قراءة الواقع لا الإملاء، والذات لا الشكل، واستعراض حجم الخلود فيما تضمنه العمل من إشكاليات الوجود الإنساني. وإن "لعبة الكريات الزجاجية"، هي رواية أقرب إلى كتاب، وكتاب يشبه أنه يكون رواية سيرة ذاتية للأفكار في عصر التحولات.

هيرمان هيسه الفائز بجائزة نوبل للآداب

إن تقديم الرؤى الجديدة حول ما شابه التقادم فكريًّا، وإعطاء مدلولات غير مطروقة لمفاهيم مستقرة، أو كان من الظنِّ أنها مستقرة، لهي المهمة الشاقة التي يسعى إليها الكاتب المهموم بأصالته فكرًا وممارسةً، كما أنها تُحسب له  ذخيرة في وعي التاريخ البشري القائم على الأخذ والرد. ولما لم تعرف البشرية اتصالاً بوجودها، بل باستكمال وجودها واستباب نموها السليم مثل التعلم والتعليم، كان لا عجب أن يعالج ذلك كاتب قد خضرمته ادعاءات السياسة والعسكرية ومحدثات الاتجاهات المجتمعية ما قبل وما بعد الثورات والحروب، حتى استقرت لديه القناعة بأن التغير الحضاري هو في أساسه تحوٌّر في أطروحات التعليم، لا السياسة ولا الاقتصاد ولا حتى المجتمع المعزول عن مهمته الأولى كحالة شرطية للتعلم.

وأسئلة الأطروحة التعليمية كانت ولا تزال تتولد في معاصرة هادئة لنشوء الإنسان ثم المجتمع ثم الحضارة. إن "ماذا نتعلم"، هو على ذات القدر من أهمية "كيف نتعلم"، ومثلهما السؤال الأصلي "لماذا نتعلم"، وإن كان هذا الأخير لم يتم طرحه أساسًا لأن الذائقة الإنسانية قد تمرّنت مبكرًا على أن التعلم فعل حياة يتشكل منه سيلها الدافع، ولا يقبع نفلاً على الهامش ولا في النهايات.

النظام التعليمي.. المؤسسة التعليمية

ولكن الإشكالية التي تتعثر بها الأطروحات التي تنظر إلى التعليم كقضية من قضايا الوجود الإنساني ابتداء وارتقاء؛ هي وضع "المؤسسة التعليمية" من تحقيق أهداف التعليم والتعلم. هل تستأثر المؤسسة التعليمية بأحقية إملاء اتجاهات التعليم سواء أكانت صيغة مستقلة، أم شكلاً يتبع الاتجاه العام للدولة؟ ثم هل يتوقف على المؤسسة التعليمية وحدها عبء وضع مناهج التعليم، وأنظمة التعليم، والتدرجات في المراحل إلى حدِّ انتقاء الخبرات المكتسبة من العملية المدمجة بين التعليم والتعلم؟ وإلى أي مدى مسموح بأن يظل التوريث الفكري، أو الحفاظ على "التقاليد" المعرفية، عملية ناجعة أمام طغيان تيارات يتطور بها المجتمع ويصير التعايش معها مُلحًا دون سابق إنذار؟ وأخيرًا، هل المعلم والطالب يمثلان قطبين متقابلين، أم مركبًا مدمجًا في مصير واحد تفرضه القيادة في الأنظمة التعليمية؟

تقدم الرواية تصورًا للمؤسسة التعليمية في شكلها النموذجي بعد قرون من المحكّات والتجارب التي خاضتها أوروبا في صراعها لتثبيت المعرفة، قبل أن تغرق هذه المعرفة تحت ضغوطات شتى لتصبح آلة مولِّدة لمعطيات السياسة وضرورات الاقتصاد، فتفقد الشرارة الإبداعية المبتغاة في المؤسسة المتصدرة لتهذيب الوجدان الإنساني في المقام الأول، أي: تخليق الطرق المحتملة التي يتسنى للطالب من خلالها اشتقاق الإبداع والابتكار في أقصى الظروف وأكثرها استحالة في حياته العملية القادمة.

كاستاليا ...مدارس الصفوة

(إقليم كاستاليا يضم مدارس الصفوة - ومنها مدرسة فالدتسل التي تشهد نضج الشخصية المحورية "يوزف كنشت"-  ويضم قرية اللاعبين ومعاهد مختلفة ودار المحفوظات أو الأرشيف، ويرعى الإقليم الثقافة، وينشئ الطبقة التي ترعى الثقافة الإنسانية وهي طبقة "لاعبي الكريات الزجاجية". والناس في الإقليم كلهم من الذكور، يعيشون كالرهبان، عيشة متقشفة زاهدة، لا يريدون شيئًا من عرض الدنيا، وينكرون ذواتهم كل الإنكار، وينضوون للنظام الهرمي كل الانضواء. وهذا النظام الهرمي نظام له درجات، وله ديوان أو دواوين وله هيئة عليا، وله إدارة تملك السلطة. ثم هناك لجنة مشتركة من أهل الإقليم التربوي ومن الحكومة في الخارج، لأن الحكومة أو الدولة هي التي تنفق على هذا الإقليم، مؤمنة بضرورة بقائه، مستفيدة من المدرسين الذين يبعث بهم الإقليم إلى مدارس الدولة في الخارج للتعليم. والمهم في هذا النظام أنه جماعي وأنه لا يسمح بالفردية، وأنه منعزل لا يسمح بالاختلاط بالدنيا وما فيها من حياة، وأنه يشتغل بالفكر فحسب) أما النطاق الجغرافي لإقليم كاستاليا فهو في أي منطقة من أوروبا، أوروبا التي أفسدتها ادعاءات هتلر والنازيين، وبدل أن تعيش عصر المعرفة صارت تعيش عصرين هما: عصر الحروب، وعصر صحافة التسلية! أما عصر الحروب فقد اتضحت سماته خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية على التوالي مما كان مرفوضًا في خضم الرواية. وأما عصر صحافة التسلية فالمقصود به هو الزمن الرديف الذي يتراكم على هامش شيوع ثقافة الحرب، إنه الزمن الذي يصبح فيه الفكر عملة غير رائجة مقابل ثقافة استهلاكية سريعة تمجد الفرد وقرارته حتى لو كانت تدميرية، لمجرد أنه يمتلك السلطة، على حساب إعمال العقل في قيمة الكلمة، مما تظهر ملامحه في إنتاجات عشوائية ومقالات بالجملة، حتى لتصاب الإنسانية في هذين العصرين بالاضطراب والبلبلة الفكرية والحمق والغلظة والعنف، ذلك أن العنف هو الناتج الوحيد للعبث وخاصة في نطاق الأفكار.

التعلم هو تجربة كشف ذاتية

بجوار المسار الأول الذي ناقش النظام التعليمي وربيبته المؤسسة التعليمية، تخوض الرواية في مسار مواز وهو التأكيد على أن التعلم "ذاتي" في المقام الأول.

إننا دومًا ما نتحدث عن التعلم والتعليم كشِقي تجربة مقيسة، ولكن ماذا عن الأمور التي تتضخم خلف ستار هذه العملية الكشفية مما لا يخضع لحسابات أو تقييمات قصيرة المدى أو طويلة، ولا يمكن دمجها في منهجيات بنائية أو مفاهيمية. ولكنها تظهر مع الزمن في نموذج الإنسان المتعلم، أو ما ملخصه "العلمي داخل الإنساني"، فهي بتعبير جازم " القيم التاريخية" للتعلم والتدريس في مستهل واحد.

(كل واحد منا إنسان، أي بشر، أي أنه مجرد محاولة، مجرد شيء في منتصف الطريق. وعلى الإنسان أن يكون في منتصف الطريق المؤدي إلى الكمال وأن يسعى لبلوغ المركز لا الحافَّة. والإنسان الذي نعنيه ونريده وكل غرضنا أن نكونه، إنسان يستطيع في كل لحظة أن يبدِّل علمه وفنه بأي علم وفن آخر، وعلينا نحن أن نكون هكذا، يضعنا مَن يضعنا، في أي ساعة، في مكان غير المكان، فلا نتمنّع ولا نرتبك، وبهذا نحقق معنى أننا تجربة أنفسنا).

ولهذه التجربة التخليقية مفرداتها التي تشكل فيما بينها نظامًا وجدانيًا تنعقد عليه النفس بكليتها: فكرًا، وعاطفة، وخيالاً.

- (1) الإلهام: وهو الميل الكلي للنفس ناحية أطروحة محددة لها تعلق بشيء يشكِّل أولوية في حسبان الإنسان، وبصرف النظر عن المخرجات النهائية لهذا الإلهام، أو اتجاهه نحو أي علم أو صناعة، إلا أنه يمثل "القابلية" لإتقان  الإقامة في الحال التي يقع فيها الظرف المواتي للإبداع. وللإلهام أنواع وأشكال عديدة، لكن معناها ومغزاها دائمًا واحد: إذ به توقظ الروح وتُحوَّر أو تَعظم. ويمدنا الإلهام بمؤشرات نعرف منها أننا في ثنيات تلك المهمة الاستحضارية. فعندما يتملكنا تعاطف وفضول ورغبة في الفهم ، ثم ننزاح عن ذاتنا الضيقة إلى معاناة الشيء الآخر الذي هو العالم، ثم  حين تأخذنا الرغبة في الولوج إلى السر المكنون وراء لعب الظواهر إلى ما يتسم بالجمال والإيلام في وقت معا،(عند ذاك يكون التكامل قد بدأ من الداخل ونما باشتداد نحو الخارج ليتأكدا معًا، دون أن تعكّر صفوهما اكتشافات مفاجئة، ولا تعاكس اندماجهما إبَّانات غير مواتية). إن الإلهام الصحيح يقود إلى الانسجام بين القوى ذات الاختصاص باكتساب الخبرات).

- (2) التأمل صعودًا إلى الاستغراق: هناك نوع من التأمل الذي يرافق الأداء، وذلك حين نتأمل فيما نعمل عليه، فإذا ما تعلّمنا هذا التأمل الصحيح سهلت علينا الإشكاليات الأخرى والتي تنمو كصعوبات إضافية على هامش الأداء وقد تأخذنا من فكرتنا الرئيسة، بل وأكثر من ذلك، أن الروافد التي تثوّر درجة نجاحنا ستأتينا طيِّعة من تلقاء نفسها مع هذا النوع من التأمل. إن استجماع النفس والاستغراق في الفعل هو الذي يحفظ كل شيء فينا على موضعه الأول في أصل الطبيعة. فما من استغراق يتحقق دون شعلة من القيم العليا التي تصبغ ما نقوم به بالروحانية، وحين نتواصل مع تلك الهوة الفاصلة بين الجهد البدني والتطلع النفسي؛ نحقق امتياز القفز على الزمن الحصر، وبدل أن نقف عند ماهية النجم المعتم، نرانا نتمتع بدرجة اللمعان.

- (3) تنظيم مهاراتنا لتأتي على قدر طموحاتنا منها: (ألم يحن الوقت بعدُ لنظام نهائي ولتصويب الأخطاء التي ظهرت واستبانت؟ أيظل الإنسان دائمًا وأبدا يكافح الأخطاء عينها ويقتلع الحشائش الضارة نفسها؟ موهبة بلا أخلاق، مهارة بلا انتظام في ترتيب هرمي!)

- (4) الفارق بين قوة الروح وقوة الانفعال: إن الإنسان بلا شك يحتاج – ليكون ماهرًا في كل شيء، صالحًا لكل أمر- إلى مزيد من قوة الروح والانطلاق والدفء، وهنا يحصل لبسٌ بين القوة الروحية المطردة والانفعال المؤقت. إن الانفعال غالبًا ما يكون متجهًا وجهة خاطئة وبعيدة عن الهدف الأصلي، لذلك يتولد عنه توتر الأجواء المحيطة بأي عمل مما ينعكس على الأطراف المشاركة فيه. (أما مَن يوجِّه قوة الرغبة العظيمة إلى المركز يبدو أكثر هدوءًا من الانفعالي، فهو على سبيل المثال إذا ناقش لم يصرخ ولم يحرّك يديه، مع أنه في داخله يتأجج ويشتعل).

- (5) الفرحة بالشيء الذي نريد أن نتعلمه أو أن نصنعه بما يجعلنا خبراء فيه: إن كل علم وفنّ لا يتألف من الحركات والأشكال الفكرية البحتة الموضوعة في قواعده، وإنما هو تسلسل عميق من قديم الزمان، حيث كانت الفرحة كما الفكرة حاضرة أثناء ضم أصوله في توليف مشترك. ومن الضروري أن يتبين الإنسان هذه المميزات الخارجية الحسية تبيُّنا حسيًا قويًا وأن يتذوقها على النحو نفسه كما هي، حتى يفهم منها العصور الزمانية والأساليب الاحترافية في تركيب مفاتيح العلوم.

هذه الوظائف الخمس للعالم الباطن خلال مرحلة اكتساب المعرفة تفضي إلى بناء متين يعرف باليقظة الفكرية. والظاهر أن اليقظة لم تكن تدور حول الحقيقة والمعرفة- بحسب الرواية- بل كانت تدور حول الواقع وخبرته ومعاناته. فالإنسان في حال اليقظة يعاني اتخاذ موقف لـ"الأنا" حيال الوضع الراهن للأشياء. ففي اليقظة لا يجد الإنسان قوانين بل يصل إلى قرارات، ولا يقع على مركز العالم بل على مركز الشخصية الخاصة ذاتها. (لهذا كان ما يتلقاه الإنسان في حال اليقظة هذه شيئا تصعب حكايته، شيئًا يستعصي على القول والتعبير استعصاء عجيبًا).

وبعد أن أصبح الماجستير لودي يوزف كنشت..

لن تخلو المجتمعات البشرية في تحولاتها من ملامح قوية ترثها من الماجستير لودي يوزف كنشت، إنه التقاطع الذي يتحين الفرصة ليُملي علينا الاختيار بين التطور أو البقاء على ما نحن عليه تبعًا لقيمة "الفاعلية"، تلك الجدارة المغيبة في اعتبارات النهوض عندما نتحدث عن الكبوة ما قبل الانطلاقة القادمة، أو عن الساعة الحرجة التي تفرق الأمس عن اليوم. والحاجة إلى المعلم تبرز ضرورة لتجاوز الأزمة الكبرى التي تمر بها الدولة عند تغير تيارات المجتمع ( كلمة "ماجستير لودي" تعني في الأصل بكل بساطة مدرِّس، ولن نحتاج إلى أحد قدر حاجتنا إلى المدرسين، إلى الرجال الذي يعلِّمون الشباب القدرة على القياس والحكم ، ويكونون قدوة لهم في احترام الحقيقة وطاعة الفكر وخدمة الكلمة). والنصيحة القيمة التي يقدمها الماجستير لودي فيما نختم به هذه القراءة التأملية، تعالج المعضلة الرتيبة مما يعترض المعرفة كلما اعتقدنا أنها على وشك أن تكتمل: كيف نصل بالعلم إلى أن لا ينغلق على ذاته؟ (بأن نبقى دائمًا فوق الحياة الفكرية كلها، وبأن نضم إلينا في وعي كل مكسبٍ جديد وكل نظرة جديدة واتجاه جديد وكل مبحث جديد للعلوم. وأن نؤسس معارفنا على مبدأ الوحدة على الدوام، على نحو جديد ولطيف ومقنع وجذاب ومغر، حتى يتحتم على الباحث المفرط الجدية والمختص المفرط النشاط، أن يحس نداءها بحماس وتنبيهها وجاذبيتها وإغراءها).


عدد القراء: 5943

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-