الوسائط الرقمية وأثرها على الممارسة الفنّيةالباب: مقالات الكتاب
د. نجم الدين الدرعي أستاذ بالمعهد العالي للفنون والحرف بسيدي بوزيد – تونس |
نظرًا للتطورات التي حدثت في نهاية القرن العشرين في مجال العلوم والتكنولوجيا من خلال الاكتشافات العلمية وتطور النظريات الفلسفية والعلمية والتي أسهمت في زيادة الابتكارات التكنولوجية وخاصة في المجال الصناعي، فقد أثمرت هذه التطورات على الصعيد الفنّي العديد من المفاهيم الجديدة التي كان من شأنها تغيير نظرة التشكيليين تجاه أشياء كانت بمثابة تقاليد ثابتة ودخلت في نطاق التجريب من قبل الفنانين للتأكد من صحتها ولم يكن ذلك ليحدث لولا التحولات التي حدثت في مجال العلم والتكنولوجيا المعاصرة.
وأهم شيء يوصف به هذا العصر أنه علمي، فقد وضع تأكيدًا بارزًا على البحث العلمي والتجريب، وأصبح لا يسلم بكثير من الحقائق إلا إذا اجتازت الاختبار وصدقتها البراهين، وصارت من القضايا المسلمة التي يؤمن بها سائر البشرية، مهما اختلفت لغاتهم، ودياناتهم وجنسياتهم. وأصبح من سمات العصر ذلك التصارع الغريب في تطبيق مداخل البحث العلمي في كل شيء.
فأصبح كل شيء قابل للتحول وتغير مساره من خلال النظريات العلمية المعاصرة، فأثبتت الرؤية ونظريات الإبصار أن ما نراه ليس هو الحقيقة وقد يتجاوز إلى حدّ الخداع المرئي. وقدرة العقل على رؤية باطن الأشياء يحتاج من الجهد والقدرة على النفاذ في جوهر الشيء واستخراج الحقيقة الباطنة منه.
لقد تعالقت وتعانقت الصورة اليوم بصفة عامة والفنون الإلكترونية والافتراضية بصفة خاصة مع لغة عصرها، هذا العصر الموسوم بطغيان الآلة والآليات الإلكترونية الدقيقة والبرمجيات ذات الذكاء الاصطناعي، وبعد "تطبيقات في مجالات التصنيع والتربية والطب، فإنه قد حان الوقت للفن أن يتأقلم مع هذا الازدهار والارتقاء... ولئن ارتبط الأمر بزعامة قيادية للمعركة الصناعية، فإنه يجب التأكيد على أننا نعتبر الرهانات الثقافية هامّة جدًّا مع غزوات الرقمنة"1.
وتبعًا لذلك، جاز لنا الإدلاء بأنه في حضرة انتشار المعرفة واكتساحها جل الميادين بات من الضروري تعميم هذه الثقافة العلمية التي أصبحت من المطالب الأساسية للحياة عصر المعلومات واقتصاد المعرفة، بعد أن كانت حكرًا لنخبة معينة لا يقدر على الإلمام بها والإمساك بزمام أمورها إلا صفوة المختصين في مجالات المعرفة العلمية. وضمن هذا التسارع والتسابق وحتى التهافت لاكتساب الخبرة العلمية، لم يعد لإنسان هذا العصر رفاهية الوقت لتحصيل هذه الخبرات عن طريق الأسلوب النمطي الثلاثي "أي اكتساب الخلفية النظرية ثم التدريب العلمي فإتقان المهارات من خلال التكرار والممارسة في الواقع العلمي"2 كما أعرب عن ذلك نبيل علي.
هكذا تنامت مطامع الفعل والإبداع لتطال الواقع الرقمي الافتراضي، الذي كان حكرًا على المجال العسكري وآلياته المتطورة، ليشاع للفنان الذي آن له في الربع الأخير من القرن العشرين أن ينهل منه مجالاً للتحرر والانفلات من القيود التي طالما كبّلته.
وبالمنطق السليم نستطيع أن نقول: إن تغيير الأداة يتطلب تغييرًا في انفعالات الفنان، وفي مجال الرؤية البصرية. وعلوم التكنولوجيا الحديثة ساعدت الفنان على الخوض في الشعور الإنساني، واكتشاف حقائق متعددة ومتغيرة، ويظل الإنسان هو الرائد في كل أدوات حياته التي صنعها، وبدون فكر الإنسان تظل هذه الوسائل ساكنة غير قادرة على الحركة إلا بإرادة الإنسان. والوسائل التكنولوجية هي إحدى الأدوات الجديدة التي تستلزم منا فهمها والتعبير عنها من منطلق موقف إيجابي لها، لكي تنحو بالفكر إلى آفاق جديدة تكتشف بها أنفسنا وما حولنا، وبهذا تخطو بنا هذه الأعمال الجديدة في هذا المجال إلى إثبات حقيقة ثابتة، وهي قضية العلم والفن.
ساهمت المعطيات الحديثة التي أنتجتها الثورات التقنية والتكنولوجية الرقمية بتأثير على طريقة هيكلة الأثر الفني، حيث أصبحت الوسائط الرقمية عنصرًا أساسيًّا في المجال الفنّي بمختلف سياقاته. وهو الأمر الذي ساعد الحاسوب على الارتكاز كوسيط تقني بين العمل الفنّي والفنان، من خلال ما يستحوذهُ من برامج رقمية تنتمي إلى السياق التقني، الذي أعطى سياقات متجددة في العملية الإبداعية التي من ضمنها شكلت مضمون ومحتوى الإنتاج الفني في أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي. أرست من ضمنه خطابًا تشكيليًّا قطع مع التقليد والسائد، لينبثق بالتالي الفن الرقمي كنتيجة فعلية لهذه الحيثيات، التي سايرت تاريخ الفن وفق نسق تسلسلي وتصاعدي. حيث يُفصح هذا الفن اليوم في ثنايا هذا البحث عن تغيرات جذرية في الخيارات والتمشيات الإبداعية والجمالية يمكن أن نستقرئ في كواليسها فيضًا من المتغيرات والميكانيزمات والتفاعلات المستجدة، التي كان لها التأثير العميق والجذري في الانزياح عن أصول التشكيل والإبداع المتعارف عليه عبر تاريخ الفن. لذلك أصبحنا اليوم ونتيجة ديناميّة المستجدات وتنامي التطورات، نقف على مشارف نهاية التفكير الخطي التقليدي (La pensée linéaire traditionnelle)، ولعل ما آل إليه هذا الموقف وهذه النزعة الحديثة التي جعلت من المكان والزمان على حدّ السواء، سليل حلقة دائرية أو هي لولبية دائمة الحركة والديناميّة والتطور مع إمكانيّة العود على البدء، بما يفند ما درجنا على ترسيخه عبر حقب زمانية متتالية فالزمان لا يعود ولا ينقلب إلى الوراء.
وممّا لا شك فيه، أن ما عقب هذا الانقلاب الفكري والجمالي هو أوّلًا انتفاء الجانب الحكائي والإيحائي، الذي عمّر طويلاً عبر تاريخ الفن، وخروجًا عن هذا التضارب والتصادم ثانيًا بين التمثيل والتقديم، بين الظاهر والظهور لنتخطى بذلك الصورة الجامدة، وذلك الجسم الثابت لندرك من ثم أن جوهر الشيء لا يدرك بالوقوف والجمود وإنما بالحركة والدينامية، كما صرح محمود أمهز بـ "أن الحقيقة صيرورة وحركة متتابعة، وليست وجودًا ثابتًا" 3.
وبالتوازي مع هذه المنظومة الفكرية التي أشاعت مبدأ الحركية والدينامية ليتمخض وعلى هذا الأساس الفن المعاصر عامة والفن الرقمي خاصة، الذي ارتهن وراهن على الحركة والحركية، ليجعل منها دعامة لتشكله كمنهج جمالي انتشى من الفكر العلمي المتطور، ومن المستجدات التكنولوجية حقلاً مشبعًا دلالات ومعاني ولعل من أبرزها الحركة والدينامية. ويصرح "فراد فوراست" في هذا الصدد بأن القبض والإمساك بالعالم يصاغ من الآن فصاعدًا بالأخذ في الحسبان العلاقة البينية بين جملة العناصر الحاضرة. فليس بواسطة صورة مستوقفة نستطيع إدعاء تمثيل العالم الذي استحالت طبيعته وبكل تدقيق إلى سرعة وتغير، علاقة وتفاعل. إننا متورطون في فضاء تعاقدي جديد، حيث لا نستطيع أن نتطلع إلى مشروع إبداعي ما إلا من خلال دينامية المآل والصيرورة"4. لقد أصبحت الحركة من الأولويات بل من الملزمات التي ينبني على أساسها الفن الرقمي، حيث دأب وسعى أغلب الفنانين المنخرطين في هذا الحقل الإبداعي إلى توظيفها بل إلى استكمال معظم وظائفها للتعبير عن التفاعل الآني المرتبط والملتصق بتدخل المتلقي أو حتى بمجرد العبور التلقائي لتتدفق وتنبعث وتتفرع سيل الأشكال والعلامات المجردة في فيض انسيابي ودينامي، ولتجد الحركة وعلى هذا الأساس ثناياها في طيات تلكم التكوينات والهياكل والتركيب المتفاعلة ديناميًّا التي تطمس ما اعتدنا في ثباته وسكونه وحتى جموده من الوهلة الأولى، حيث تتوالد المساحات وتنتشر الأشكال وتتدفق الهياكل وفق نسيج رقمي محكم الصنع.
ولعل من أبرز المسائل التي تفرض نفسها عند الحديث عن خصوصية وأبعاد هذا الفن هي مسألة المحاكاة الاصطناعية (La simulation) في ارتباطها والزمن الواقعي التي أخرجت الفن من دائرة الجمود والديمومة الثابتة ليلتحق بذلك الفن بركب الدينامية والحركية والصيرورة المتجددة وفق ميكانيزمات سيقت لتشوش عاداتنا الإدراكية ونظام إبصارنا للموروث التشكيلي بما هو حقل ثابت، دائم وغير متجدد يدرك بالوقوف والجمود لا بالحركة والدينامية. ولا شك في أن هذا الفن الرقمي يندرج في سياق البحث التشكيلي، الذي قدّم تصوّرًا جماليًا جديدًا، حتم علينا مراجعة منصبيّة الفن عامة والأثر خاصة، الذي استحال إلى فضاء معاش (Un espace vécu)، بل إلى حدث وتظاهرات، أشادت مبدأ الحركية والفعل والتدخل في صميم الأثر بما يقطع مع المعطى التشكيلي التقليدي، الذي يجعل من الأثر الفني شيئًا وهو ما يشرع على هذا الأساس للفنان والمتلقي، على حد السواء معايشة التجربة الإبداعية والانخراط من ثم في عوالم رقمية. ويتحدث "طلال معلا" عن دلالات وأبعاد هذه الآثار الفنيّة، فيقول: "إنها أعمال تكشف عن مهارة وذكاء الثقافة الإلكترونية، ولا تتمثل أهميتها في أنها تحاكي تقنيًا ما كان يمكن تمثيله بالرسم، أو التصوير، أو النحت"5 ولنا من هذا الموقع أن نتساءل عن ماهية المحاكاة الاصطناعية وعن الدور الذي تتقلدهُ في خضم هذه المنظومة الإبداعية الرقمية؟
بادئ ذي بدء، لا بد من الإشارة إلى أن الفن وبانفتاحه على الحقل التكنولوجي الموسوم بذكاء اصطناعي وبرمجيات رقمية، قد شرع للانتقال من دائرة التمثيل إلى مجال المحاكاة الاصطناعية كمعطى تشكيلي حديث العهد يتخلل هذا السياق الفنّي، وهو ما أدى إلى نشأة وتبلور الشرارة الأولى التي ساهمت في هذا التحول والانقلاب الجذري في معنى ودلالة التصور المفاهيمي التقليدي للفن. ويبقى التساؤل في هذا السياق قائمًا ومطروحًا : هل أن هذا التحول الذي يشهد أطواره الفن اليوم يجعل المحاكاة الاصطناعية آلية جديدة قادرة على إخراج الفن من بوتقة التمثيل، لينخرط في نظم ومعايير مغايرة؟ وهل تجاوزت فعلاً المحاكاة الاصطناعية أساليب التمثيل التقليدية، التي وضع شروطها وأسسها فنانو عصر النهضة، استنادًا إلى علم المنظور؟
كبداية لا بد من الإشارة إلى أن المحاكاة الاصطناعية ليست معطى ولا نمطًا تشكيليًّا منبثقًا عن الفن، فلا يخفى علينا أن أصولها وينابيعها الأولى تشكلت في ميدان مرتبط بالمجال الحربي والعسكري والصناعات الذكية، التي تروم وتسمى إلى إيجاد نماذج تحاكي وقائع معينة ووضعيات محددة ومضبوطة كفقدان الجاذبية بالنسبة لرواد الفضاء وغيرها من سياقات. بصفة عامة تبقى المحاكاة في هذا السياق نموذجًا تجريبيًّا يصبو إلى اكتشاف مختلف الوقائع والأحداث الممكنة، لوضعية معينة في ارتباطها والظروف الزمكانية، التي تتوافق وطبيعة معرفتنا لذلك الواقع الحقيقي. وقد تتطرق "دومينيك شاتو" للحديث عن طبيعة وخصوصية ودلالات المحاكاة الاصطناعية، فيقول: "إذا نظرنا للشيء من جانب كونه معطى إجرائي وعملي، فإن النتيجة البصرية لها خاصية أن لا تكون تمثيلاً، ولكن نموذجًا إبداعيًّا لتمثيلات متعددة، وإذا نظرنا من جانب النتيجة فإن هذه التمثيلات ليست سوى محاكاة أو صور مصطنعة عن الواقع"6 ويضيف في شأن تعارض المحاكاة والتمثيل فيصرح "إذا كانت المحاكاة الاصطناعية تتعارض مع التمثيل، بالمعنى الامتدادي بمقتضى أصلها وأساسها الرقمي، فإن الاستخدام الفني للمحاكاة الاصطناعية يستلزم توضيبًا هيكليًّا مخصوصًا يشهد على قطيعة مع القدرات التقنيّة البسيطة للأداة"7. وعلى هذا الأساس فإن الواقع الرقمي المعوّل على المحاكاة الاصطناعية كآلية إيهام وإرباك قد تحاكي اصطناعيًّا الواقع الطبيعي تارة وقد تسوق أنماطًا وعوالم خيالية وكائنات هجينة تارة أخرى، إنما تنخرط ضمن منظومة تقنية قوامها المعادلات الحسابية والبيانات الرقمية، وما إلى ذلك من التقنيات والوسائل التعبيرية والوسائط التشكيلية المتطورة التي أسهمت بصورة فعلية في الانزياح عن الضوابط الجمالية المعهودة والحياد عن المعايير الإستطيقية المتعارف عليها.
لقد أصبحت مثل هذه الوسائط أداة مشتركة تؤمن عديد الوظائف لمبتكري الأفكار، التي تترجمها صور "الموناليزا" في جميع حالتها، ومن خلال تحولها من أثر فنّي ثابت إلى أثر فنّي متحرك على مستوى حركات الوجه، والتي كانت بدايتها مع الفنان "مارسال دي شون" الذي عمل على كل العراقيل والحدود التي من شأنها أن تضيق على معاني الحرية في الممارسة الجمالية مفندًا في تجربته هذه كل الأطر والنظريات الكلاسيكية، والقديمة ليقر بكون الفن متاحًا للجميع ومنفتحًا على جميع المواد، وليس مختصرًا في تلك المواد النبيلة التي كانت متاحة فقط للطبقات الثرية، وفي هذا الصدد بالذات قام الفرنسي بإعادة رسم اللوحة العالمية المشهورة "الموناليزا" للإيطالي "دافنشي" بطريقة لا تخلو من السخرية والإشارات الإيحائية التي اعتمد فيها "دي شون" على قراءات عالم النفس فرويد لشخصية الفنان الإيطالي "ليوناردو دافنشي" والتي اتهمه فيها بالمثلية الجنسية، وقد حمل "دي شون" جل هذه الإشارات والإيحاءات في نسخته، التي أعاد فيها رسم الموناليزا الأيقونة العالمية بسخرية فاضحة، أرادا من خلالها الفرنسي تمرير خطابه ورؤيته للممارسة التشكيلية المتجاوزة لحدود المقدس والقاطعة في ذات الحين مع نظم الرسم والتعبير الكلاسيكية. وقد تعمد الفنان الفرنسي تعميق تلك الإيحاءات الجنسية التي تكلم عنها فرويد في سياق تحليله لشخصية الفنان الإيطالي "دافنشي" من خلال إلحاقه للحروف التالية بعنوان اللوحة المستنسخة من الموناليزا (L.H.O.O.Q) من خلالها أراد الفرنسي أن يؤكد على الأبعاد الجنسية في سخرية كبيرة من أسس تأليه التجارب القديمة واعتبارها أيقونات، فحين يعمد الناظر لهذه اللوحة إلى إعادة قراءة الكلمات الموضوعة أسفل اللوحة في سياقها اللغوي الفرنسي فعنها سيخلص لقراءتها بالصياغة التالية "Elle a chaud au cul" بمعنى (هي لديها عجز دافئ). حيث يتنزل هذا العمل في رحلة بحث "دي شون" النقدية للممارسات الكلاسيكية التي هيمنت على السياقات الجمالية، وفرضت نوعًا خاصًّا من المواد والموضوعات، انتهجت مثله ممارسة سلفادور دالي والفنان "يوجين باتيو" والعديد من الممارسات التشكيلية التي تأثرت بتدخل دوشامب مع اختلاف في الأسلوب (الرقمنة) والمضمون، وهو ما نستشفه في الأعمال التالية.
إن تأثير الوسائط الرقميّة على الأثر الفني واضحة وجلية في هذه الصور، خاصة من خلال الإضافات المركبة التي ساهمت في إعادة صياغة صورة الموناليزا المنتمية لعصر النهضة للفنان الإيطالي "ليوناردو دافنشي" وفق منظور معاصر.
لعل هذه الحيثيات والتحولات التي يعيش أطوارها وتفاعلاتها الفن بصفة خاصة، لا ينفي البتة أهمية تلك التقنيات الرقميّة التي شحذت الفن بمنطلقات جديدة أثرت فيه من خلال تسرب سياقات إبداعية مستجدة في أسلوب التعامل مع الأثر الفني وميكانيزماته الجوهرية، بل حتى في التنظيم البنائي للعمل، وربما أيضًا في نمط وصيغة معايشة التجربة الجمالية والإبداعية... لنعاود، سواء كمتلقين، أو مبدعين أو منظرين، النظر في العملية الإبداعية في حد ذاتها، وكأنها عود على بدء. إلا أنه وكما أقر "فراد فورست" يجب دائمًا أن يظل حاضرًا في الذهن بأن هذه التكنولوجيا ليست فقط تقنيات وآليات عملية، بل تشكل دوافع وطاقات هي الأخرى ليست فقط كفيلة باكتشاف جديد للعالم، بل تساهم على قدم المساواة في تحوير وتغيير هيكلتها النفسية والعاطفية، خيالنا وكيفية فعلنا وتفكيرنا ورؤيتنا للفن اليوم"8.
من ثم بات من البديهي القول بأن الفن المعاصر اليوم يشكل مجالًا للانفتاح على توجهات وتمشيات تنشأ وتقوم بالأساس على جملة من المواقف الفكرية والهزات النوعية شكلاً ومضمونًا، والتجاوزات الجمالية والإبداعية لتشرع وتؤسس من ثم لمقترحات جديدة في أساليب التعامل مع البنية الأثر الفنّي المبني على جملة من الرموز والشفرات والعلاقات التفاعلية بين ما هو تقني والعلاقات التشكيلية والفكرية بمعنى ما هو جمالي وفنّي، وكأننا في هذا السياق إنما نقف على مشارف ظاهرة ارتدادية تفضي إلى ارتباط الفن بالتقنيّة بل حتى إلى التماهي بينهما وكأن بالفن يسترجع أصالته وجذوره، بمعنى الفن هو مرادف لـ "التقنيّة المختصة"، ولعل هذا ما أكده وأيده "بول أردان" بقوله فـ "ليس الفن (أي الفنان) والتقنيّة (أي التقنية) يتنافران ويتفقان، ولكن يجب الإقرار بأنهما يتجذبان بالتبادل، يعودان ودون انقطاع إلى ذلك الأصل المشترك المودع في العبارة الافتتاحية "تقنية" (Tekhné) التي توحد الفن والتقنية ضمن معيار تملك "معرفة الفعل"9 لدلالة التشكيلية على الأقل.
ولكن لا بد من التأكيد ومن أجل إيفاء هذا الفن حقه، على أن هذا الضرب من الفن ورغم ارتكازه وتعويله بصفة أساسية على التقنية، فإنه لا ينخرط في مدار تملك البعد المهاري من أجل بلوغ أقصى درجات التطابق والواقع المُبصر، لتتلخص رحلة البحث التشكيلي منثم في محاكاة الواقع المرئي، ونقل المواضيع المُبصرة بأكثر أمانة ممكنة، كما هو معهود في الممارسات التشكيلية الكلاسيكية، حيث أعلن فراد فوراست أن "التقنية بحدّ ذاتها لا تشكل صدفة "الإبداع"، إنها لا تغدو أن تكون سوى آلية وأداة متواضعة"10 للفعل والإبداع.
كما أن الفنان اليوم وبتوغله في المجال الرقمي، لم يعد هاجسهُ يرتكز أساسًا على الأشكال والألوان، وما يمكن أن ترسيهِ من علاقات تشكل هي الأخرى استنادًا إلى مسارات بنيوية يحكمها التلاحم والتباعد تارةً والالتفاف والتجاور طورًا، لكن إلى ما يمكن أن تؤول إليه هذه الأشكال وما قد تقيمه من علاقات مفهومها الحركة والديناميكية وليس مجرد حالتها القارة والمستقرة دائمًا كما هو معهود وسائد. هكذا تتحقق الوحدة الجمالية حيث تتلاءم أجزاء العمل الرقمي عبر نمط ونسق متحرك، أفرز من ثم أثرًا غير مستقر على حال، إذ يقدم تدخل المتلقي تعدادًا في زوايا النظر وتنويعًا أو عددًا من التنويعات اللانهائية لمشهدية الأثر مما يضفي عليه قدرًا من التعقيد والتنوع في الوقت نفسه.
المراجع:
1 –" Aprés des applications dans les domains industriels, de l’éducation, de la médicine, c’est donc l’art qui va maintenant devoir s’adapter a’ cette évolution… S’il s’agit bien au premier chef d’une bataille industielle, il faut souligner que les enjeux culturelles sont considérable avec les conquetes du numérique” F. Forest, Ibid, p.165.
2 - "لم يعد لدى إنسان هذا العصر الذي تتهالك فيه الخبرات بمعدل يفوق سرعة اكتسابها. لم يعد لديه رفاهية الوقت لاكتساب هذه الخبرات عن طريق الأسلوب النمطي لثلاثية: اكتساب الخلفية النظرية ثم التدريب العلمي، فإتقان المهارات من خلال التكرار والممارسة في الواقع العلمي" نبيل (علي)، المرجع السابق، ص115.
3 - أمهز محمود، التيارات الفنية المعاصرة، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ـ بيروت ـ لبنان،ط1، 1996، ص70.
4 - Forest (Fred), Pour un art actuel, l”art a l”heure d”internet, éditions L”Harmattan, Paris, France, Juillet 2001, p.128 et 129.
“La saisie du monde se fait désormais en movement en tenant compte de l”interrelatin de tous les éléments en présence. Ce n”est plus avec une image “arrêtée” qu”on peut avoir la prétention de representer un monde don’t la nature précisément est devenue vitesse et changement, relation et interaction. Nous sommes préciptés dans un nouvel espace de transation dans lequel un projet de création ne peut être envisagé aue la dynamique du devenir”.
5 - معلا طلال، العالم الضال انحراف الرؤيا في الفنون، دائرة الثقافة والإعلام الشارقة 2003، ص63.
6 - Château (Dominique), L’héritage de l’art ; imitation, tradition et modernité, Collection L »Ouvrage Philosophique, édition L’Harmattan, Paris, 1998, p.409.
« Si l »on regarde la chose du coté du processus opératoire. Le résultat visuel a pour spécificité de ne pas être une représentation, mais un modèle créateur de représentations multiples, Si on regarde du côté du résultat. Ces représentations ne sont que des simulacres de réalité ».
7- Château (Dominique), Ibid. p.410 .
« De la même manière, si la simulation s’oppose à la représentation au sens plat. En vertu de son fondement numérique. L »usage artistique de la simulation nécessite une mise en forme particulière qui atteste une rupture avec la simple capacité technique de l’instrument ».
8 - Forest (Fred), Pour un art actuel, l’art à l’heure d’internet. Editions L’Harmattan, Paris, Juillet 2001,pp. 169-170.
"Il faut avoire toujours présent à l’esprit que les technologies ne sont pas seulement des systèmes techniques et fonctionnels, mais qu’elles constituent des facteurs puissants qui non seulement nous permettent une investigation nouvelle du monde. Mais contribuent également à modifier en retour nos propres structures psychologiques, notre imaginaire, et nos façons de faire et de penser l’Art".
9 - Ardenne (Paul), op cit, p.259.
‘Non que l’Art (donc l’artiste) et la technique (donc le technicien) se repoussent, il faut admettre qu’ils s’attirent mutuellement, reviennent sans cesse à cette origine commune consignée par le terme inaugural unifiant Art et technique dans le critère du savoir faire.’
10 - Forest (Fred), op cit, p . 132 . « La technologie elle-même ne constitue jamis en l’occurrence « La création » elle n’en est que le modeste outil « .
تغريد
اكتب تعليقك