الرقمنة في الفن المعاصرالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-08-04 21:08:11

د. نجم الدين الدرعي

أستاذ بالمعهد العالي للفنون والحرف بسيدي بوزيد – تونس

يمثّل الأثر الفنّي بمختلف تجلياته ومعطياته الشكلية والمضمونية، مقومًا أساسيًّا من مقومات تفاعلية الذات، فهو يعد نتاجًا تترسخ فيه لغة الفكر والمادة مترجمة بذلك موقف الفنان ورؤيته تجاه السياقات الحسية والوجدانية. فالفن بوصفه نسيجًا حسيًّا وماديًّا يتوق إليه الفنان المبدع كسبيل يفرض بواسطته قاموسًا تشكيليَّا يتسنى له من خلاله بناء فعل الخلق والإبداع الذي يحيطه التآلف داخل العلاقة الجدلية بين سياقي الفكر والمادة.

ولكن سؤال ما الفن؟ هو سؤال يبحث في ماهية الفن وفي سبيل تطويرهِ ابستيمولوجيًّا وماديًّا بحسب رهانات العصر، حيث طرأت العديد من التغيرات والتحولات في مستوى الإطار المفهومي والاصطلاحي (المصطلحات الحضارية والسياسية ...)، ولا يمكن المخاطرة أو التغاضي عن هذه التفصيلات والتفريعات التي سايرت وواكبت الفن المعاصر والفن الرقمي خاصة بما هو مجال استقى أبعادهِ ودلالاتهِ من منظومة "الحداثة البعدية" أو "ما بعد الحداثة" والتي تمثل في حد ذاتها هدفًا من أهداف المجال الفني القائم على التواصل الفكري والبصري. حيث "استطاع العلم والفن أخيرًا أن يصلا إلى قمة درجات الامتزاج ليحققا أجمل صورة، لتعانق نتاج العقل وثمار الوجدان في سبيل الارتقاء بالقيم الحضارية الإنسانية، و تحقق حياة أفضل للإنسان على هذه الأرض "1 .

لم يعد الفنان التشكيلي بمنأى عن التطورات والتحولات المعاصرة، بل أنه سعى جاهدًا ليلتحق بالركب ويطوع هذه التقنيات لخدمة أفكاره، ليخاطب إبداعهُ إنسان عصره بلغة مرادفة للثقافة السائدة، لينخرط المبدع التشكيلي مع المبتكر العلمي لأجل تقديم أعمال فنيّة تقرأ بلغة عصرها، وأحيانًا يستغل هذا وما توصل إليه ذاك ليكمل رحلة الإنتاج، الحقيقة الفنّية إذن قد لا تكتمل بالنسبة لهؤلاء بدون اللجوء إلى مثل هذه الأدوات التقنيّة والتي تساعد في البحث وتطوير لغة الخطاب فيه، والتي من ضمنها يمرر أفكاره حول العالم والأشياء، وفي هذا طوع الاستراتيجيات الرقمية لتحمل فكرة ممارسته وتكون وسيطًا للتعبير وحاملة لمنظومة فكرية استطيقية مزاوجة بين المادة الفنيّة الانشائية والأسلوب العلمي التقني. وما قدمه هذا المد العلمي من أساليب وأفكار للبناء الإنشائي والجمالي لفضاء العمل وهو ما سنلاحظه من خلال الوقوف على أحد الفنون المعاصرة، والتي اقتبست تسميته من الرقمنة، وهو الفن الرقمي الذي يعني مجموعة الوسائل التي يستعمله الإنسان للوصول إلى نتيجة فنيّة باستعمال الحاسوب وذلك بمساعدة عدة برمجيات رقمية أو انطلاقًا من مصدر خارجي مثل الصور الفوتوغرافية أو الرسوم التي نستعمل خلالها الآلة لتمريرها على شاشة الحاسوب. وما يميز هذا الفن (الرقمي) هو اللجوء إلى المعالجة التقنيّة للأثر الفنّي من خلال مجموعة المفاهيم التي تتعلق بأساس الموضوع الفنّي، هذه المفاهيم تجتمع في ستة أقسام عملية (الوسطية ـ المفهمة ـ التوليد ـ النتائج القياسية ـ التجربة ـ عمل لذاكرة). فقد أصبحت الرقمنة كتقنية في الفنون التشكيلية تقوم على مواد رقمية غير ملموسة، وتمثل في حد ذاتها حدثًا مصطنعًا من مادة غائبة، حيث يصفها "بيار لفي" "تراكمات رقمية كامنة حسية وإخبارية التي لا تفعل إلا إذا دخلت في علاقة تفاعلية مع الإنسان" 2.

كيف يمكن للفن الرقمي أن يصور المادة بطبيعته غير المادية؟ أو بمعنى آخر كيف يمكن للأثر الرقمي أن يعبر عن الفكرة بدون اللجوء إلى استعمال المادة؟       

تساؤلات عديدة من هذا القبيل هي التي جعلت تاريخ الفنون التشكيلية المعاصرة يولي أهمية كبيرة لموضوع تبني التكنولوجيات الرقمية في الممارسات التشكيلية، حتى أصبحت مسألة محورية في الفنّ، تواصل في إحداث وإثارة جدل حاد، بين المؤيد والمندد...

لقد تأسست مع هذه المتغيرات في حياتنا عادات ثقافية جديدة مختلفة عن سابقاتها تنبني على علاقات ومفاهيم جديدة في عالم من الآلات، الأرقام، الافتراض والخيال...

وكما هو حال ثقافتنا، شهد الفعل الفنّي في عصرنا هذا تحولات هامة. فأمام هذا التحول الجذري الذي تشهدهُ علاقتنا التواصلية بعالمنا الخارجي، لم يعد بإمكان الفنان أن يكتفي بتجاهل هذا التغير الذي أدى إلى طرح إشكاليات زادت من الإبهام والالتباس الذي يكشف موضوع الفنّ، زيادة على هدم كل ما هو كلاسيكي من القيم بفعل هذه الوسائل الرقمية. وبتنا نتوقع التخلي عن الورشات التقليدية لفائدة ممارسات تشكيلية تجعل الفنان في تفاعل مباشر مع الآلة خلال إنجازه لأثره الفنّي الذي يمكنه التحكم فيه وتطويعه وتغييره.

 مثلت الرقمنة في الابداع التشكيلي عنصرًا أساسيًّا لدى بعض الفنانين مثلما كان الشأن بالنسبة للريشة والألوان الزيتية... بمعني آخر رصد تأثير التقنيات العلمية والتقنية في توجيه ملامح التفكير والكيفية التي تغيرت فيها معطيات التعبير من نقل الواقع الطبيعي إلى التعبير منه، في زمن تعودنا فيه أن يكون تلقي العمل الفنّي يدويًّا يكون فيه جمع بين ملكتي العقل واليد وقدرتها على تحويل ما في حيّز الفعل وهو ما نفتقد إليه اليوم في الممارسات المعاصرة التي تحولت إلى إنتاج صور رقمية متطورة تقنيًّا رهانها فاعلية الابتكار العقلي. في زمن فقد فيها اللون أهميته من حيث كونه ممارسة يدوية تمتزج فيها القيم اللونية وتصطبغ ببعضها لتقديم اللون الأمثل، إذ لم يعد الفنان ذلك المهم المنزوي في إعداد خلطاته وألوانه وعجائنه ومعداته المحسوسة، وكأنه ذلك الخيميائي الذي يسعى، وعبر جملة من التكهنات والطقوس إلى تحويل المواد الخسيسة إلى أخرى نفيسة كالذهب والفضة... بل دأب الفنان على تأهيل عتاده المعرفي وتنمية مدركاته العلمية والتكنولوجية لتحقيق هذا الحوار وهذا التكامل بين الفن والمعرفة، ليشيد بذلك معالم وملامح فن راهن على التكنولوجيا الحديثة والمتطورة، فألغى كما صرح علي نبيل "خطوط التماس الفاصلة بين التخصصات المعرفية بكل ما يعنيه ذلك من مجازفة ومسؤولية مضاعفة لإرضاء أهل التخصص على جانبي خطوط التماس هذه"3. حيث صرنا اليوم، ولا ريب في ذلك نشهد تجسد وتشكل ظاهرة جديدة تحمل في طياتها جمع شمل كل من الفنان، المهندس، والتقني... في الأثر الواحد، لتعكس بالتالي علاقة تكامل، تأثر وتأثير أساسها الأخذ والعطاء بين الأبعاد الفكرية والتشكيلية والضوابط التقنيّة والتكنولوجية، لنسجل بالتالي معالم شراكة وتواشج قد تصل بعض الأحيان إلى حد الاندماج والتماهي بين الفن وتلك التكنولوجيات ذات الذكاء الاصطناعي، إذ أصبحت هذه الأخيرة بمثابة الذات الأخرى أو الذات القرينة للفنان يشكلان ويبنيان الأثر الفنّي معًا على أسس التبادل والتفاعل بين الفكر والتقنية، حيث تذهب "آن ماري ديقات" للإقرار بـ"أن الخاصية (الظاهرة) الرئيسية لهذه الآثار الفنية تكمن في طبيعة منتوجهم الذي غالبًا ما يكون جماعيًّا"4، ولعل التعاضد والتشارك بين فنانين أقبلوا من حقول ومجالات مختلفة قد تضاعف في بداية السنوات الستين، وخاصة في الولايات المتحدة حول الرقص الجديد و"الهابنينغ" إضافة إلى الالتفاف حول مشاريع متضمنة لأساليب وأنماط مختلفة للتكنولوجيا"5. واستيعاب ما يمكن أن ينتج عن هذا التزاوج الفكري والتطبيقي بين تلك المجالات التي تبدو وللوهلة الأولى متعارضة ومختلفة كل الاختلاف لكنها في الأصل متكاملة ومتناسقة مع بعضها البعض.

لقد أصبحت الألوان اليوم شأنًا رقميًّا تقنيًّا تلاحظه العين وتعوزهُ اليد كملمس، فالألوان لم تعد شيئًا ملموسًا بل إنها أصبحت كلها موجودة ومخزنة في الآلات وحتى الأشكال كلها متوفرة بالدقة المطلوبة وبفرضيات متعددة تحضر وتتمثل للعين بمجرد الضغط على زر ما، إذ يكفي تجهيز جهاز الحاسوب ببرمجة متخصصة حتى نمتلك اللون و نوزعه دون أن تختلط أيدينا به.

 فمادة الأثر الفنّي الرقمي هي مادة نظرية على عكس ما نجدهُ مثلاً في العديد من الاتجاهات والتيارات الفنّية على غرار التكعيبية التي استعملت المادة باعتماد على تراكم الأشكال (الكولاج)، فكل مادة رقمية تبرز المفاهيم التي تستند عليها لأنها تنشأ عن طريق التكرار على مستوى الأشكال وأيضًا المعنى الذي يكون العمل الفنّي، إذ يقول "جيل دولوز" في هذا الصدد "ينتمي التكرار إلى عناصر مختلفة ومع ذلك فهو يحمل نفس المعنى"6 .

 يأتي الفن الرقمي كفن لمفهوم معين، لا يدرك انطلاقًا من الخطاب الذي يحمله كالفن المفهومي بل من خلال التحليل المفهومي لنظام الرموز التي يستعرضها كموضوع. فهو فن تجسيدي لنموذج مجسم في معناه الخاص بالرياضيات، وللوصول إلى الموضوعية لابد من تصور تجريدي تشكيلي ينتج فيه كل إمكاناته الإبداعية.

لقد أصبح الفنان التشكيلي في السنوات الأخيرة بين فكي التجديد والتراث، خاصة في ظل التغيرات الحاصلة نتيجة التطورات المذهلة في العلوم والتقنيات المرتبطة بمجالات الفن التشكيلي والمؤثرة فيه. إذ جعلت كل هذه التحولات محاولة الفنان في استيعاب وتمثل تلك الأساليب المستحدثة وذلك من خلال بروز عدة توجهات وتجارب تحمل في طياتها تشكيلات توحي لنا بميلاد نمط أو بالأحرى عصر جديد في الفن، تجاوزت فيه أساليب وآليّات الفعل والتشكيل من المواد المختلفة والتقنيات المتعارفة إلى أطوار وأنماط أخرى عمقت تلك الشراكة وذلك التلاقح بين الفنان من جهة والمهندس والتقني والعالم من جهة أخرى. ولعل الفنان "روبار روشمابورغ"(Robert RauschenbergS) هو خير دليل على هذا التمشي إذ رسم لنفسه توجهات تأخذ بعين الاعتبار هذا الأخذ والعطاء بين المجالات المختلفة حيث قام بإنجاز أثر فنّي تفاعلي بمعية المهندس "بيللي كليفار"(Billy Klûver)، ارتكز بالأساس على استثمار التقنيات التكنولوجية وخاصة منها المرتبطة بالصوت لإدماجها بالتالي ضمن المنظومة الإبداعية لإخراج المتلقي من مجال السلب ليصبح عنصرًا مساهمًا ومشاركًا في صياغة الأثر وتشكلهُ، بل إن الأثر في حد ذاته هو ترجمة وانعكاس لإيقاع التنفس ودقات القلب وتدفق الشرايين المنبعثة من المتلقي الموصول بأجهزة إلكترونية تقوم برصد الدقات والنوتات الفيزيولوجية والتي للمتلقي حرية تغيير نسقها ولو جزئيًا كأن يتحكم في إيقاع ومعدل تواتر تنفسه... وتخضع هذه الآليات بدورها إلى معالجات ومضخمات صوتية لتنعكس في الأخير في شكل بيانات وتعرجات ونوتات وألوان متدفقة ومناسبة في حركة دائمة وغير مستمرة على شاشات كبيرة مصحوبة بإيقاع ورنات صوتية غريبة وغامضة هذا إن لم نقل هجينة، ولنا في هذا الصدد أن نتطرق إلى التنصيبات الصوتية لصاحبها "ماكس نيوهاوس" حيث يصفها "بول أردان" كالآتي: "تتكون هذه التنصيبات في الغالب من انتشار وإشعاع ضجيج ذي ترددات وتوترات منخفضة استنادًا إلى آليات كهربائية وإلكترونية. هي منحوتة صوتية؟ استحضار للشكل ـ إجراء يكشف بصفة أولية ومسبقة رغبة جامحة للتدخل؟"7

كما دأب في بداية الستينيات الفنان "نام جون بايك" وهو أحد رموز وأقطاب "فن الفيديو" وأبرز دليل على بداية تموضع الرقمنة في الفن إذ "تعود التجارب الأولى في فن الفيديو إلى سنة 1962 و1965 في التيار الفني فلوكسيس... متمثلة بالتحديد في مجموعة من شاشات التلفاز المنصبة في شكل عمل فني للفنان نايم جون بيك."8 حيث أصبحت هذه التقنية تمثل عنصرًا أساسيًا في أعمال هذا الفنان وهو ما نستنتجه من ضمن مستجدات عمله المعنون Distorted TV. ففي هذا العمل عمد الفنان "جون بيك بتنصيب ثلاثة عشرة شاشة تلفاز تذيع نفس الصور، يرنو من ضمنها الفنان إلى كسر النظام الكلاسيكي لتقبل الصورة من خلال إدخال التلفاز كوسيط فنّي بين المشاهد والأثر الفني. إن تموقع الرقمنة في الفن يجعله أكثر حداثة مما سبق، هذا التحول الجديد في أدوات واستراتيجيات التعبير والمواد المستعملة، يضعنا أمام تعدد محاولات التعبير والابداع التي من ضمنها تذهب بنا بعيدًا عما ترسخ لدينا من رؤى فنيّة تتعلق بماهية الفن، "فعمل الفيديو لفنان "جون بيك"، إذ كان ينفتح على رؤى ترتكز بالتحديد على التقنيّة وعلى علم الجماليات (الصور المحرفة Distorted image)... فذلك يعني السعي وراء عملية تشكيلية تركيبية ترتكز على التقنيّة الرقمية."9 ويبرز ذلك حين يعتمد الفنانون التشكيليون أسلوبين متباعدين نسبيًّا، أحدهما يشدّ العمل الفنّي إلى ما هو حداثي من حيث الفكرة والمضمون والتقنيات والوسائط المعتمدة. أما الثاني فيتجه إلى إحياء الأشكال الفنيّة التي رسخت في ذهننا في الفترة الكلاسيكية وذلك من خلال إعطاء العمل الفنّي شكلاً جديدًا.

تتجه الممارسات الفنيّة المعاصرة إلى البحث عن التجديد، وذلك بتوليد أشكال واستراتيجيات فنيّة تستخدم التقنيات الحديثة كالفيديو والحاسوب وغيرها مما ترسخ في وسط المجتمعات الصناعية المتطورة والتي تولدت من حيثياتها مفاهيم متجددة على غرار الصورة الرقميّة التفاعليّة. "فالعوالم الجديدة الناتجة عن الفن الافتراضي ولدت لغة جديدة انصهرت في الفن."10 وعكست عالم جديد غير مألوف أنبنى وتشكّل من عوالم افتراضية وخائلية محتملة الوجود تارة رغم النسق الغرائبي الذي يسودها ويكتنفها، وكثيرة الشبه والمطابقة والواقع الحقيقي والمتعيّن تارة أخرى رغم أنها سليلة الأرقام المجرّدة والرموز البيانية، تسمح للمتلقي بأن يخترق واقعه الفيزيائي ليجوب ويغوص في تلك المعالم الافتراضية متفاعلاً معها ديناميًّا نتيجة خداع الحواس أولاً وما تولده الصورة التأليفية ثانيًّا من خداع وإيهام ومحاكاة اصطناعية.

ولعلّ من أبرز الناشطين الذين ساهموا في إثراء ونشأة هذا الفن، نجد أيضًا الفنان الأسترالي جافراي شاو وهو أحد أبرز الطلائعيين هذا الفن كشفت أعماله عن أسبقية في السلم الزمني ولعلّ من أبرز أعماله "المدينة المقروءة" “The legible city” سنة 1988 "حيث تشكّل الطرقات من هندسة الحروف بل الكلمات والجمل... ثم إن وضعيّة (المدينة المقروءة) تستوجب ضرورة تدخلاً ونشاطًا فيزيائيًّا لولوج ذلك الفضاء المجازي والاستعاري. ولكن ما يحدث يخضع ويتوقف بدوره وبصفة قطعية على تدخلات وقرارات المستعمل إذ يستطيع أن يقود بسرعة أو أن يقود ببطء أن يدور ويلتف ذات اليمين وذات الشمال أو يأخذ مختصرات"11.

هذا إضافة إلى أثره المعروف "المتحف الافتراضي" (The virtual Museum) لسنة 1990، حيث يعتلي المتلقي كرسيًّا دوارًا له حرية التحكم في سرعته وسط غرفة تحيل جدرانها على غرفة متحف، يعايش فيها هذا المتلقي ولوج واختراق تلك الجدران لينخرط بالتالي في حقل دلالي واستعاري تكنفه الأحرف والرموز المتحركة لتبرز تارة وتختفي طورًا آخر.

ويستدرجنا هذا التمشي للوقوف على أبرز الفاعلين في الفن الافتراضي ألا وهم الفنان "أندموند كوشو" و"ميشال برات" المختص في البرمجيات و"ماري هيلان تراميس" المختصة في دراسة تلك الممارسات والأعمال للاطلاع على أساليبها التقنية وأبعادها الإستطيقية والتقصي في مدى فاعليتها ومدى تواصلها التفاعلي مع المتدخلين في عملهم الجماعي "أنثر في كل الرياح" “je sème à tout vent” لسنة 1996، حيث يعايش المتلقي في هذا الأثر تفاعلات جديدة قوامها النفخ كفعل يؤتيه المتدخل على جهاز صغير مرتبط بشاشة الحاسوب لخوض التجربة الإبداعية التي تجعل من المتلقي عنصرًا فاعلاً ومساهمًا في تشكّل هذا الأثر لتنفتح وعلى هذا الأساس تلك الزهرة البريّة المتشكّلة من جزئيات صغيرة ومتماسكة والتي تتشتت وتنتشر على كامل مساحة الشاشة في تدفق واسترسال غنائي وفق تكوينات مختلفة ومتشعبة ومتجددة نتيجة اختلاف طبيعة النفخ الذي يخضع إلى آليات رقمية وأجهزة تكنولوجية ذكية تفككه إلى رموز وبيانات حسب القوة والمدّة، ليحوّل آنيًا إلى معلومات رقمية مطابقة له ترسي مبادئ تلك الحركة والتغيّر الذي تعيش أطواره الزهرة البريّة الماثلة على شاشة الحاسوب. ويعلل جون لويس بواسياي أهمية تدخل المشاهد الذي أضحى عنصرًا مكملاً للأثر بقوله "أنفخ في كل الرياح تشير إلى نوع من الصور التي تستدعي بصفة جوهريّة وأساسية لتوجد وتتمظهر تدخل الجمهور. إن نفخ ونفس المشاهد يصبح جزء من الصورة، وهو ضروري لها مثل ضرورة الضوء للوحة، ومثل ضرورة المترجم لتقسيم الموسيقى"12 .

لقد بينت هذه الممارسات الفنّية مدى قدرة الرقمنة على الارتكاز كوسيط فنّي تحديثي تستدعي عدة مفاهيم لها قراءتها التشكيلية الخاصة، هذه المفاهيم المستحدثة شكلت معظم محتويات الأعمال التشكيلية الرقميّة، بوصفها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأدوات وتقنيّات تحول الصورة في شكلها من التبسيط إلى التعقيد والتركيب التكنولوجي وعلى منظومات متداخلة ومؤثرة في الممارسات الفنيّة. "فإلى حدود ظهور الفن الرقمي، كان الفنانون يستعملون مواد وتقنيّات تنتمي إلى العالم الحقيقي، يعني محسوسة وفيزيائيّة وخاصة بالمواد الطاقيّة. أما المواد الرقميّة، في العموم مختلفة، فالرسام أو المصور... لا يعمل عن طريق الأقلام والريشة واللوح والحديد والإضاءة وإنما عن طريق الرموز التي تكون البرمجيات الرقمية."13 وهو ما جعل التحول لا يخص جوهر الصورة، بل تعداهُ ليشمل صناعة الأثر التشكيلي، حيث اندمجت الوسائط الجديدة لتقلب قواعد الإنتاج وترسي خطابًا تشكيليًّا يقطع مع التقليد، تكشف عن توق الفنان لاستثمار تلكم الإمكانات التكنولوجية في سياق جمالي وتشكيلي مغاير لضوابط الفعل والإبداع المتعارف عليه، متيحة بذلك للفنان والعمل الفنّي على حد السواء الانفتاح على مجالات أوسع كفيلة بطرح رهانات ودلالات تشكيلية عميقة والانخراط بالتالي في مدار لغة تشكيلية مستفيضة المعاني والمضامين المضمرة فكرًا وشكلاً قطعت خطوط التماس ونقاط التواصل مع التقاليد السائدة، باعتبار أن تأثر الفنون التشكيلية بالمعطيات والمضامين الجديدة كان واضحًا على امتداد التيارات الفنيّة السالفة، وهو ما نستشفه من ضمن تـأثر فنان مدرسة النهضة بالجمال الرياضي للمنظور وبداية توظيف نقاط التلاشي والأدوات الهندسية في أعمالهم التشكيلية. وهو الأمر الذي أدى لظهور قواعد ومعايير دقيقة في مجال الفن.

 

المراجع:

1 - حسني إيناس :"التلامس الحضاري الأوروبي " – سلسلة عالم المعرفة العدد 366، الكويت، أغسطس 2009، ص 119.

2 - Lévy Pierre, Cyberculture (Rapport au conseil de lEurope), Ed. Odile Jacob, Paris, 1997 p173.

 3 - نبيل علي، المرجع المذكور، ص8.

4 - Duguet (Anne-Marie), Déjouer l’image, créations électroniques et numériques, Critiques d’Art, éditions Jacqueline Chambon, Nîmes, Mai 2002, p.128.

Un aspect essentiel de telles œuvres est la nature souvent collective de leur production

 5 - Duguet (Anne-Marie),Ibid, p.128 .

La collaboration entre artistes venant de champs différents se multiplie au début des années 60 et particulièrement aux Etats-Unis autour de la nouvelle danse et du Happening, ainsi qu’aux travers de projets impliquant de diverses manières les technologies’.

6 - Deleuze Gilles, Différence et répétition, Ed. Minuit, Paris, 1968 p.26 .

S Robert Milton Ernest Rauschenberg, (1925/2008) est un artiste plasticien américain. Il appartient au movement Neo – Dada est le précurseur du Pop Art: ses réalisations vont de la peinture à la gravure, en passant par la photographie, la chorégraphie et la musique.

7 - Paul Ardenne; l’âge de l’art contemporain une histoire des arts plastiques à la fin 20 siécle, Edition du Regard 14, Paris 1997 p.243.

"Les installations sonores de Max Neuhaus , consistant le plus souvent en la diffusion d’un bruit de basse fréquence au moyen d’appareils électriques et électroniques. Sculpture sonore ? Evocation de la forme-limite ? Procédure relevant en priorité d’une volonté d’intervention ? “

8 - Paul Ardenne; l’âge de l’art contemporain une histoire des arts plastiques à la fin 20 siécle, Edition du Regard 14, Paris 1997 p 262.

9 - Op. cite, p263

10 - Op. cite p 271

11 - “Cet espace est une ville lisible (The legible city) don’t les rues forment une architecture de lettres. Voire de mots et de phrases… les cas de la “ville lisible” nécessite du reste une activité physique pour pénétrer dans l’espace figuré. Mais ce qui s’y passé  dépend lui aussi totalement de l’intervention et des decisions de l’utilisateur. Il peut rouler vite. Il peut rouler lentement, tourner a droite. A gauche ou prendre des raccoucis”. Fricke (Christiane), Cite in:  Ruhrberg. (Manfred) Schneckenburger (Christiane) Fricke (Klaus) Haunnef.m L’art ay XX ème siècle. Volume II, sous la direction de Ingo.F . Walther, éditions Taschen, 1998, p.616.

12-  “je sème à tout vent  dèsigne un type d’images qui appelle fondamentalement pour exister l’intervention du public. Le soufflé du spectateur fait partie de l’image, il lui est nècessaire comme la lumière sur un tableau, comme l’interprète pour la partition musicale”. Boissier (Jean-Louis), l’interactivitè comme perspective, publiè dans les traverses de l’image, Art et literature, Citè in: Annick Bureaud, Les basiques: Art multimedia, Lèonardo olats et Annick Bureaud, Avril 2004, Citè in : http://www.olats.org/livresetudes/basiques/6_basiques.php

13 - Couchot et Hillaire ; l’art numerique comment la technologie vent au monde de l’art ; Edition Flammarion, Paris 2003, p 25


عدد القراء: 10208

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-