مصطلح الجنس الأدبي في المنظور العربي (الإشكالية والوظيفة)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-11-07 00:57:35

د. سامي شهاب الجبوري

جامعة كركوك - العراق

يصطدم الباحثون وهم يخوضون في غمار البحث عن الأقرب إلى الصواب بشأن تحديد تعريف عام لمصطلح أو قضية ما بعراقيل كثيرة، والسبب يعود إلى الرؤى المتضاربة التي تنفث ما تراه صالحًا ويجب الاحتذاء به، وهذا بالتأكيد يتطلب من الباحث الدقة في توخي الحذر وعدم الاستسلام لهذا الرأي أو ذاك حتى يستطيع أن يستشف الرأي الأجدر منها وتوظيفه في كتاباته المتعلقة بهذا الأمر. وعليه واستنادًا إلى ما تقدم فإن تحديد تعريف خاص لمصطلح الجنس أو الجنس الأدبي لا يمكن أن يكون بالسهولة التي قد يظنها كثير من الباحثين، بل بالاستفاضة العميقة لاختيار ما يتناسب مع الموضوع، وبما إننا بصدد التطرق إلى الرأي العربي من خلال ما قاله النقاد بهذا الخصوص وعلى كم قسم ينقسم الجنس الأدبي فإن تعريفنا للجنس سيكون مقتضبًا ومحددًا لأن مجاله واسع والخوض في دهاليزه متاهة كبرى.

لا يمكن تعريف الأجناس الأدبية بهيئتها الاصطلاحية (الأجناس الأدبية) لأنها جاءت عند كثير من النقاد والباحثين بهيئة (الأنواع، أو الأشكال الأدبية وغير ذلك)، لذا سنلجأ إلى تعريف الجنس الأدبي الذي بدوره سينسحب على بقية الأجناس الأخرى لأنها متناظرة ومتوافقة من حيث المبدأ العام ومتخالفة في الجوهر والآلية والكيفية في التطبيق. وعليه فالجنس الأدبي هي مجموعة الأنظمة والقوانين الموضوعة في نسق عام والتي تمارس سلطتها العليا على التنظيم الإبداعي للمنتج وتصبغه بآليات وكيفيات تميزه عن غيره، وهي تعمل جاهدة على المحافظة عليه وعدم السماح لمبدعه التغيير في معالمه والتقنع بمظاهر التجديد؛ إلاّ أن هذا الأمر غير ممكن لأن رؤى المبدع تتغير تبعًا للظروف الاجتماعية المحيطة به التي ترغمه على الافلات من أسره ومحاولة تحديث ما يمكن أن يكون ملائمًا لروح العصر، وهذا يعني إن الجنس أو النوع الأدبي كالنوع البيولوجي ينشأ ويتطور وينقرض.

لذلك نجد أن عددًا من الأجناس تصدر من وعي اجتماعي في بادئ الأمر ولكنها سرعان ما تتلاشى مع تقادم السنين فتتحول إلى وعي فردي بحت، وللتمثيل على ذلك نجد أن الملحمة وهي أسطورية في فحواها عند اليونانيين وغيرهم قد انبثقت من إحساس اجتماعي وذلك لغرض التنفيس عما يريدون التنفيس عنه؛ ولكن الإحساس الاجتماعي  بدأ يفقد بريقه بعد التخلي عن الواقع الملحمي (الأسطوري) واصبحت الحاجة ملحة للانطلاق من الرؤى الفردية فانبثقت على غرار الجنس الملحمي الرواية والقصة اللتان تعدان الوريث الشرعي للملحمة على الرغم من اختلاف مضامينها وآليات خطوطها التنظيمية عنها، وبرؤية أعمق نقول إن لكل جنس أدبي استقلاليته وذاتيته الخاصة عن بقية الأجناس تبعًا للعناصر المكونة له التي تتحرك في إطاره الخاص، وهي عناصر تعيش في نسيج واحد تكمّل إحداها الأخرى بغية تحقيق عملية إبداعية تميز هذا الجنس عن غيره، وباكتمال دائرة العمل على وفق هذه العناصر تكتمل للجنس الأدبي هويته لينطلق عندها إلى فضاء الأدب من زاوية العمل الابداعي، وهو بهذا يفرض نفسه على كل كاتب يعالج فيه موضوعه.

وبحسب تعريفنا للجنس الأدبي الذي قد لا يرتضيه القارئ يمكن أن نعود إلى مسألة الإشكالية في المصطلح. إذ أن هناك اختلاف بين النقاد والباحثين والدارسين على تسمية المصطلح وتحديد شكله وكل منهم ينطلق من رؤاه الأيديولوجية والانتماءات الاجتماعية وقيمه المفروضة عليه التي تجعله مقيدًا أو متحررًا في عرض أفكاره، فوجهات النظر في المصطلح تتباين على وفق المعيار الذي يحتكم إليه الناقد مما يولد ميلاً واضحًا نحو جنس أدبي ما.  هذا الاختلاف في الرؤى هو الذي أحدث هذا الإرباك والفوضى في تحديد ما يمكن تحديده من مصطلح، وعليه وفي استقراء بسيط يمكن أن نبيـّن في ضوء ما يسمح لنا به مجال بحثنا مجموعة من الاختلافات الواردة بين النقاد العرب من خلال الوقوف على كتبهم وبحوثهم المنشورة حتى يستوضح  لنا الأمر في هذا المجال، فالنقاد أمثال محمد غنيم هلال في كتابه (الأدب المقارن)، وعبد السلام المسدّي في كتابه (النقد والحداثة)، وأحمد كمال زكي في كتابه (دراسات في النقد الأدبي)، وفؤاد مرعي في كتابه (مقدمة في علم الأدب)، ورشيد العبيدي في كتابه (دراسات في النقد الأدبي)، وخلدون الشمعة في بحثه (الأجناس الأدبية من منظور مختلف)، وعبد الإله الصائغ في بحثه (التجنيس بين الخطابين الشعري والسردي) وغيرهم أكدوا على مصطلح الجنس الأدبي ولم يستعملوا مصطلح النوع الأدبي أو الشكل الأدبي. ولكننا نجد في الجهة المقابلة عددًا من النقاد قد ركزوا على مصطلح النوع، وهم كل من عبدالمنعم تليمة في كتابه (مقدمة في نظرية الأدب)، وعلي جواد الطاهر في (كتابه مقدمة في النقد الأدبي)، وعبدالله إبراهيم في بحثه (مقدمة في نظرية الأنواع الأدبية) وغيرهم كثير. كما أن عددًا من الكتب التي ترجمت للعربية استخدم فيها المترجمون مصطلح نوع كذلك، وهذا واضح في كتابه (نظرية الأدب) لرينيه ويليك، وكتاب نظرية الأدب لعدد من الباحثين السوفيت المختصين. ومن هذا الاستقراء يمكن الاستدلال على كون المصطلح ما زال قيد الدراسة والتمحيص بدلالة عدم تحديد وجهة عامة له وأي المصطلحات التي تناسبه.

هذا الاختلال المصطلحي راجع إلى إمكانية تطور الأجناس عبر العصور المتعاقبة بحسب ما يأتي به المبدع من ملامح جديدة تفضي بإضفاء لمسات  حيوية على عناصر هذا الجنس أو ذاك، ومن ثمة وبحسب هذا التغيير والتنوع والاستمرارية في التبديل تتولد في المقابل لدى النقاد والباحثين ردة فعل مشابهة تجعلهم يتوحدون في مجالات منوعة الغرض منها الاهتداء إلى التسمية المصطلحية المناسبة لهذا الجنس الذي تطور بعض الشيء.

ومهما يكن الاختلاف في هذه القضية من حيث تنوع المصطلحات لموضوع معين فإننا - وقد يكون هذا رأي غيرنا كذلك - نرى أن المصطلحات جميعها وإن اختلفت من حيث الهيئة الشكلية المكتوبة فإنها مترادفة الفحوى ولا تقبل القسمة على اثنين على الرغم من اختلاف بعضها من جانب الزيادة والنقصان، وهذا أمر لا ضير فيه تبعًا للتغييرات التي تحصل - كما ذكرنا آنفًا - على مرّ العصور، شرط أن يحتفظ الجنس بجوهره العام المميز الذي يعد الفيصل بينه وبين الآخر. هذا الأمر يدفعنا إلى جانب آخر من الموضوع وهو عرض السؤال الآتي: ماهي أهمية الجنس ووظيفته؟ وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن الجنس أرض خصبة لما يمكن أن ينثره المبدع من أفكار فوقها بحسبما يشاء، وهذه الأفكار والتطلعات التي يبغي إيصالها إلى المتلقي عبر النصوص التي يكتبها هي نابعة من رحم المجتمع والأيديولوجيات المتمخضة عنه ولا يمكن أن يسوق غير ذلك. لذا جاءت النصوص باختلاف أقباعها في الأجناس الأدبية شواهد حيّة على تمثيل الواقع أو قل هي مرآة عاكسة للرؤى المتبلورة في أفكار الجماعة أو الجماعات المنتمية لهذه الأفكار، ومما زاد من قيمة البحث في هذا المجال هو اهتمام الباحثين والنقاد على اختلاف ثقافاتهم بدراسة ظواهر أدبية مختلفة تتضمن محور القضية الإنسانية للوصول إلى أعماق الأصول الفكرية والحضارية فيها.

وفي الإطار نفسه يمكن عدّ نظرية الأجناس عملية ديناميكية متواصلة لها جذور في الماضي وارتباط بالمستقبل من خلال آلية ربطها اللاحق بالسابق؛ وهذا بفضل اعتمادها على العنصر الزمني الذي يمثل مفتاحًا لجعل الأبواب مشرعة أمام التلاقح بين السابق واللاحق. كما أن طبيعة الأدب تكمن بإيصال أفكار المجتمع وإعطاء انطباعات جوهرية عنها عن طريق صراع  نصي مقبول يفضي بعرض المضامين بقوالب محببة ومؤثرة تدخل إلى نفس المتلقي عنوة وتجعله مشاركًا فعليًا في عيش التجربة التي عرضها المبدع للنص، وهذا يقع عن طريق السيطرة على الأخيلة والعواطف والأفكار والأدوات اللغوية وتصنيع التراكيب المنتمية للسياقات لكي تنجز فكرة التوصيل ويحقق النص ما عليه ويترك أعقاب ما يحصل بعد ذلك للمتلقي ليتصرف به كيفما يشاء. كما إن وظيفة الجنس من خلال النص تجانس طبيعة الأدب من حيث اتكائها على القيم الجمالية وكل جنس يبغي تحقيق جماليات عالية المستوى من أجل الارتقاء بنفسه والتعالي عمن سواه من الأجناس الأخرى وذلك بحسب الثوابت والمتغيرات التي ترافقه وكذلك بحسب الآليات والامكانات المتاحة له من استعمال مسموح وآخر مرغوب فيه.

وعليه فإن الانطلاق من جوهر القضية مجددًا وإماطة اللثام عن تجليات الرؤى المختلفة والمتضاربة يرجعنا إلى دائرة المربع الأول التي  تحتم علينا القول إن الاختلاف في مسألة انتقالية المصطلح نابعة من عدم وجود أسس ومعايير ثابتة تحكم ذلك، وإن التقنع بأسماء ومسميات جديدة وإن كانت في شكلها مختلفة فهي متفقة من حيث المضمون متقاربة مترادفة في إعطاء الانطباع أو الصورة نفسها عن الشيء المراد إيصاله، وهذا يحيلنا إلى قبول فكرة أن الأدب متنوع وهو يتطور باستمرار، ولكن الأهمية تكمن في طبيعة الموضوعات ولا سيما الفكرية والمعرفية. أي التي تكون معبرة ومؤثرة  والتي تكتب بصيغ منسجمة وغير مألوفة في الوقت نفسه لتحقيق انطباعات صورية مماثلة بعض الشيء عن الواقع المحيط به الذي ينتمي بدوره للتنظيم الاجتماعي الفارض لسلطته على المبدع الذي يدلي في نصه ما يراه ملائمًا في هذا التنظيم. وعليه فإنّ دراسة الأدب لا تكون بالنظر إليه من زاوية تعداد أجناسه وإلى أي زمن تنتمي، وإنما الانسحاب على التقانات الفنية القابعة في النص كذلك.


عدد القراء: 14014

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-