وهم «سبق الرؤية» أو ظاهرة الـ «ديجافو» الباب: مقالات الكتاب
د. محمد مسلم الحسيني أخصائي علم الأمراض - بروكسل |
مصطلح الـ" ديجافو Déjà vu " أستخدمه لأول مرة الفيلسوف الفرنسي" أميل بواراك" في كتابه الموسوم "مستقبل العلوم النفسية" ويعني هذا المصطلح باللغة الفرنسية "شوهد من قبل"، حيث يصف حالة شعور المرء وإدراكه وهو أمام حدث أو مكان أو شخص أو حوار أو موقف يشهده أو يشاهده لأول مرة لكنه يعتقد بأنه شاهد أو عايش ذلك من قبل. قد ترتاد هذه الحالة المرء مرة واحدة في حياته أو قد يتكرر حدوثها لعدة مرات، وتحصل على أقل تقدير لدى ثلثي البشر. تفسير ميكانيكية حصول هذه الظاهرة وأسباب حدوثها غير متفق عليه عند المفسرين والباحثين كونها ظاهرة خارقة وغريبة. كما هو الحال أمام الظواهر الخارقة التي تحصل عند الإنسان فإن باب التأويل والتفسير تبقى واسعة، فكلٌّ يفسرها من منطق إيمانه واعتقاده واختصاصه، فمنهم من فسرها دينيًّا وروحانيًّا ومنهم من فسرها فلسفيًّا واستنتاجيًّا، كما إنها فسرت قطعًا علميًّا على أساس طبي أو نفسي، غير أن الكثير من هذه التفاسير تبتعد عن عين الصواب والحقيقة. الأمثلة على كيفيّة حصول هذه الحالة أو الظاهرة كثيرة ومتنوعة حيث لابد من إعطاء نموذج عنها كي تتضح الرؤيا أمام من لم تحصل لديه هذه الحالة من قبل. على سبيل المثال وليس الحصر، حينما يكون المرء في مكان يزوره لأول مرة كأن يكون مكان نزهة أو مقهى أو مسرح أو حديقة حيوان أو ملعب كرة أو دار عبادة أو غير ذلك، فيشعر وكأنه يعرف هذا المكان بل قد زاره من قبل، والحقيقة هي ليست كذلك. ينطبق السيناريو هذا نفسه لدى من يشهد لأول مرة حدث أو موقف أو حالة أو نقاش أو استماع أو تعرف على شخص، فيشعر وكأنه شهد أو شاهد ذلك من قبل، حيث تمتزج عادة مشاعر العجب والدهشة مع هذا التصور.
المؤمنون بمعتقد تناسخ الأرواح أو الحياة في الدنيا بعد الموت أو ما يسمى بـ"الوجود الدوري Reincarnation" يعتبرون ظاهرة الديجافو برهان وتأكيد على صحة معتقدهم الذي يقول بأن الروح حينما تخرج من الجسد بعد الموت تلج في جسد آخر وقد تحمل معها بعض ذكريات الحياة السابقة. فحينما تتكرر المواقف بين الحياة السابقة وحياة الحاضر تستعيد الروح ذاكرتها فيشعر المرء بوهم "سبق الرؤية أو سبق المعرفة". فلسفة عودة الروح هي فلسفة قديمة حديثة تبنتها الأديان السومرية والمصرية واليونانية القديمة في السابق والأديان البوذية والهندية وغيرها في يومنا هذا. بغض النظر عن صحة أو بطلان هذا المعتقد فإن الروح العائدة إلى جسد جديد لا يمكن أن تصحب ذكريات وأحداث الماضي معها. الروح طاقة مجردة عن الذكريات حيث أن الذكريات خاصيّة من خصائص الدماغ لأنها مخزونة فيه وحينما تترك الروح الجسد تترك الدماغ معه وهو أشبه ما يكون بـ"الحاسوب"، فكيف تتذكر الروح أحداث الماضي وحاسوب الذكريات ليس معها !؟.
هناك تفسيرات روحانية ودينية أخرى لهذه الظاهرة منها ما ينسلخ عن حدود العقلانية والمنطق لا أريد الخوض في تفاصيلها، كما أن هناك آراء لباحثين وأطباء ومختصين تتباين الرؤى فيها قد لا يحمل أيٌّ منها البرهان الدامغ على صحتها. فمن الأطباء النفسيين ما يجعل لهذه الظاهرة صلة وارتباط بأمراض نفسية معينة مثل مرض القلق النفسي واختلال الشخصية وكذلك مرض فصام الشخصيّة أو ما يسمّى بـ"السكيزوفرينيا Schizophrenia"، غير أنهم عجزوا عن إعطاء صلة بايولوجية واضحة على ذلك. كما أن بعض الباحثين يرى بأن خصائص الدماغ التشريحية واختلاف المواقع بين فصي الدماغ الأيمن والأيسر يجعل أمكانية تفاوت ورود المعلومات إلى الدماغ عملية ممكنة، وهم أيضًا يفتقرون للحجة المقنعة لذلك. ومن الباحثين أيضًا ما يرى بأن الأحلام أثناء النوم قد تكسب الدماغ معرفة كامنة تتبلور وتنبعث حينما تتشابه المشاهد بين الواقع وبين المعلومة المخزونة أثناء النوم. كما أن تشابه الصور والأحداث بين المعلومات المخزونة في الدماغ والمتأتية من خلال قراءة القصص أو مشاهدة الأفلام في السينما أو التلفاز قد تكون سبب في حصول ظاهرة الديجافو. كل هذه التفسيرات تفتقد إلى الحجة المقبولة التي تستطيع أن تقنع على أساس علمي مدعوم بالأدلة.
التفسير العلمي الذي يفسر ظاهرة الديجافو والذي أتبناه شخصيًّا وأبحث في جوانبه والمدعوم بالأدلة المختبرية والمشاهدات أوجزه بما يلي: تحصل في دماغ الإنسان إفراغات لشحن كهربائية تتباين في مقدارها وشدتها من شخص لآخر على نحو طبيعي وبوجود محفز أو بدونه وإن كان ذلك بشكل مقنن أو محدود. هذه الإفراغات الكهربائية إن زادت عن مستواها الطبيعي المعلوم تصبح حالة غير طبيعية أو مرضية كما هو الحال عند مرضى الصرع أو في حالة استخدام نوع خاص من الأدوية المحفزة. قد يصاحب انبعاث الشحنات الكهربائية في الدماغ بعض الظواهر غير الطبيعية كالحركات اللاإرادية في أعضاء الجسم أو حالة إرباك مؤقت في الدماغ خصوصًا في مراكز الذاكرة قد يؤدي إلى النسيان المؤقت لحوادث قديمة أو حديثة. على أساس هذه الحقائق العلمية نستطيع تفسير ميكانيكية ظاهرة الديجافو وعلى ضوء المثال المطروح كما يلي: يسافر أحد السواح إلى مدينة باريس عاصمة فرنسا لأول مرة ويزور متحف اللوفر فيها وأثناء تجواله في المتحف يخالجه شعور غريب وأكيد بأنه قد شاهد هذا المتحف سابقًا ولكنه لا يعلم كيف ومتى؟.
تفسير ما حصل وحسب نظرية الشحنات الكهربائية سيكون حسب التسلسل الزمني التالي: يشاهد السائح قاعة فيها رسوم مهمة لفنانين كبار في متحف اللوفر تثير انتباهه واهتمامه وتمس مشاعره، يحصل تحفيز وانبعاث لشحنات كهربائية في الدماغ ، يليه إرباك في الدماغ وعلى وجه التحديد في مركز الذاكرة القصيرة المؤقتة للأحداث القريبة، يخزن الدماغ ما قد شاهده السائح قبل عملية الانبعاث الكهربائي، يعود السائح لحالته الطبيعية بعد انتهاء انبعاث الشحن الكهربائية، يرى قاعة المتحف والرسوم مرة أخرى ويكون قد نسى ما شاهده من قبل بسبب الإرباك الحاصل في الذاكرة، يستحضر الدماغ المعلومة المخزونة منذ لحظات، وهكذا يشعر السائح بأنه يشاهد هذه القاعة مرة ثانية ولكنه لا يدري متى رآها من قبل! هذه العملية ورغم طول أحداثها تحصل في غضون ثوانٍ قليلة جدًّا.
هذا التصور تدعمه الحقائق العلمية التالية:
أولاً: تتكرر حالة الديجافو عند الأشخاص الذين تنشط أدمغتهم بحركة الشحنات الكهربائية وتندر أو تنعدم عند الأشخاص الذين تشح أو تقل انبعاثات الشحن الكهربائية في أدمغتهم. كما أن هذه الظاهرة قد لا تحتاج إلى مؤثرات وحوافز لحدوثها عند من تنشط في دماغه انبعاثات الشحن الكهربائيّة أي ليس من الضروري حصول شد عاطفي وانفعال كمحفز لحدوث هذه الظاهرة.
ثانيًا: مرضى الصرع وخصوصًا صرع الفص الصدغي تنتابهم ظاهرة الديجافو بشكل متكرر يتناسب مع كثافة الشحن الكهربائية المنبعثة في أدمغتهم، وهذا دليل على عمق الصلة بين ظاهرة الديجافو وانبعاث الشحن الكهربائية في الدماغ.
ثالثًا: المرضى الذين يستخدمون بعض الأدوية المحفزة لنشاط الشحنات الكهربائية الدماغية تنتابهم هذه الظاهرة وقت استخدام هذه الأدوية وتزول بالتوقف عن تناول الأدوية المحفزة. من الأدوية التي تحفز ظهور ظاهرة الديجافو والتي تحفز بدورها انبعاث الشحنات الكهربائية في الدماغ هي دواء الـ" أمنتادين Amantadine " ودواء الـ" فينايل بروبانولامين Phenylpropanolamine "، وأخذ هذين الدوائين معًا يزيد من انبعاث الشحن الكهربائية في الدماغ ويزيد من حصول ظاهرة الديجافو.
رابعًا: نسبة حدوث ظاهرة الـ"ديجافو" تزداد في مرحلة العمر المحصورة بين 15 إلى 25 سنة وهي الفترة التي تكون فيها انبعاثات الشحن الكهربائية في الدماغ على أوجها لوجود المحفزات العاطفية والانفعالية التي تزداد ذروتها في هذه المرحلة من العمر.
خامسًا: بنفس هذا السياق وبنفس هذه الميكانيكيّة تفسر الظاهرة الأخرى والتي هي أقل انتشارًا والتي تسمّى بـالـ"جامه فو Jamais vu" وهو مصطلح يعني باللغة الفرنسيّة "لم أرَ هذا من قبل" أي أن المرء يكون أمام موقف أو حالة أو مكان أو شخص معروف ومعلوم لديه غير أنه يشعر وكأنه يراه لأول مرة!. على سبيل المثال وليس الحصر، يتحدث شخص ما مع أبيه أو أخيه فتنتابه على حين غرّة لحظات من الشعور الغريب توحي له بأن الشخص الذي يتحدث إليه غريب عليه لا يعرفه ولم يره قط من قبل، حيث يستمر هذا الشعور للحظات قليلة جدًّا لا تتجاوز الثواني ثم ينتهي. ميكانيكيّة حصول هذه الحالة، في نظري، مشابه تمامًا لميكانيكية حصول ظاهرة الديجافو أي حصول خلل وقتي وسريع في الذاكرة تحت تأثير الانبعاثات الكهربائية في الدماغ. الاختلاف بين الحالتين يكمن فقط في أن انبعاث الشحنات الكهربائية في الدماغ في الـ"جامه فو" تربك مركز الذاكرة بنوعيه الطويل والقصير بشكل مؤقت حيث ينسى الإنسان كل شيء يتعلق بالماضي البعيد والحاضر القريب أي أن انغلاق الذاكرة المؤقت يكون كليًّا وهكذا ينسى المرء أباه وأخاه ولكن لحسن الحظ للحظات قصيرة جدًّا لا تتعدى الثواني.
بوجود هذه الحقائق العلمية الواضحة وبوجود هذه الصلة الصريحة والمضطردة بين انبعاث شحنات الدماغ الكهربائيّة المؤثرة على مراكز الذاكرة وبين تكرار حصول هاتين الظاهرتين، قد نجد أنفسنا على مشارف عين الحقيقة في تفسير ميكانيكية حصول ظاهرة الـ"ديجافو" أو (رأيت هذا من قبل) وظاهرة الـ"جامه فو" أو (لم أرَ هذا من قبل). ربما يتحمل هذا التفسير الثقة في معرفة ميكانيكية هاتين الظاهرتين أكثر مما تتحمله التفاسير الأخرى وأن صدرت عن فطاحل فلاسفة علم النفس أمثال أميل بواراك وسيجموند فرويد!.
تغريد
اكتب تعليقك