الشعور بالنقص: العوامـل المـؤثرة والمضاعفات... الباب: مقالات الكتاب
د. محمد مسلم الحسيني أخصائي علم الأمراض - بروكسل |
الشعور بالنقص هو إحساس طبيعي تكويني فطري يحصل عند الإنسان المدرك لحاجياته ولضروريات عيشه حيث يمده هذا الشعور بالطاقة والاندفاع لسد تلك الحاجات وتحقيق تلك الضرورات، ومن لا يشعر بالنقص لا يصبو إلى التكامل!. تتفاوت درجات هذا الشعور بين الناس، فمنهم من يحمله شعورًا خفيفًا كامنًا ومنهم من يتجلى عليه بارزًا واضحًا، غير أن فقدان هذا الشعور تمامًا عند الإنسان له دلالات غير صحيّة حيث يعني القصور الفكري والبلادة، بينما المبالغة فيه قد تؤدي إلى عقدة نفسية سماها عالم النفس سيجموند فرويد بـ"عقدة النقص" وسمّاها عالم النفس المختص ألفرد أدلر بـ"مركب النقص". حينما يفتقد الإنسان الحب والحنان أو الأنس والسعادة أو المال والجاه أو العلم والمعرفة أو الشهادة والتحصيل العلمي أو جمال الشكل والمظهر أو الاحترام والتقدير أو غيرها من الأمور التي تشغل مساحة من الأهمية في وجدان المرء وإحساسه، يشعر عندها بالنقص. هذا الشعور قد يكون طارئًا يزول بزوال الحالة أو زوال مسبباتها وهو المسار الطبيعي لهذا الشعور أو قد تطول مدته لبقاء الحالة أو بقاء أثرها حيث تصحبه ضغوط نفسية قد تؤدي إلى المضاعفات.
الشعور بالنقص يشبه عارض الحمى في فائدته للإنسان، فلولا الحمى لهلك الإنسان لأنها مؤشر عن خطر وعن وجود مرض يعتري الإنسان. بفضل الحمى يراجع المريض الطبيب ولولاها لما أنتبه المريض إلى مرضه ولتطور المرض وقضى الإنسان. بنفس هذا السياق، فبدون الشعور بالنقص يبقى الإنسان خاملاً غير مباليًا بحاجاته ولا يستجيب لمتطلبات وإرادات حياته الصعبة المعقدة، أي بمعنى آخر أن هذا الشعور يعد مصدر حث وطاقة لدفع الانسان إلى التعويض الإيجابي لحالة النقص من أجل تلبية الضروريات الإنسانيّة الآنية والآجلة. قد يتبادر إلى أذهان البعض بأن الشعور بالنقص هو عقدة النقص أي لا فرق بينهما وهذا غير صحيح، لأن الشعور بالنقص غير الملتصق بالمضاعفات يعد حالة اجتماعية ونفسية طبيعية، بينما عقدة النقص هي حالة مرضيّة نفسيّة اجتماعية تحتاج إلى رعاية وعلاج.
العوامل المؤثرة على حالة الشعور بالنقص: تتفاوت درجات وشدة الشعور بالنقص عند البشر كما تتفاوت طبيعة هذا الشعور وطبيعة مضاعفاته وذلك طبقًا لمؤثرات وعوامل داخلية وخارجية ندرج منها ما يلي:
1 - عامل الفطرة: رغم تشابه الناس بوجود عامل الفطرة في تكوينهم غير أنهم يتفاوتون بمقدار هذه الفطرة وزخمها. درجة الشعور بالنقص الفطرية تتباين من فرد لآخر طبقًا لطبيعة العامل الوراثي الذي يلعب دورًا هامًا في هذا التباين، فمن الناس من تكمن مشاعر النقص في نفسه وتظهر في مواقع وظروف خاصة ومنهم من تصبح معاناته من هذا الشعور بارزة طاغية يترتب عليها ردود أفعال مختلفة أمام المؤثرات الثابتة. رغم هذا التباين في درجة التفاعل أمام النقص فلا يوجد إنسان طبيعي لا يمتلك خاصيّة الشعور بالنقص طالما لم يبلغ الإنسان حالة الكمال ولن يبلغها!.
2 - عامل الشخصيّة: شخصيّة الإنسان المتمثلة بالمظهر والجوهر تلعب دورًا هامًا في تحديد طبيعة ودرجة الشعور بالنقص، حيث لها الأثر الواضح في تخفيف أو تنشيط هذا الشعور. الأمثلة على تأثير المظهر في خلق الشعور بالنقص متنوعة وكثيرة فالذي يعاني من عاهات جسدية أو من قباحة في الخلقة أو من سحنة استثنائية "أسود في مجتمع أبيض" أو غير ذلك من الأمور المشابهة، سيعاني بلا شك بشكل أو بآخر من آثار ذلك، وواحد من تلك الآثار هو الشعور بالنقص الذي قد يتطور نتيجة الضغط النفسي المزمن إلى عقدة النقص. أما جوهر الشخصية المفسّر بالإدراك والإحساس فله الدور الكبير أيضًا في صناعة وتحديد درجة الشعور بالنقص، فالمرء ذو الإدراك العميق تختلف ردود أفعاله ويختلف تفهمه لحالة النقص عمّن له سطحية في التفكير وفي الفهم، كما أن الشخص مستقر الإحساس تكون تفاعلاته أمام حالة النقص مختلفة عن تفاعلات مرهف الحس أو مضطرب الحساسيّة.
3 - الوسط الاجتماعي: يؤثر الوسط الاجتماعي بتربوياته وثقافاته وعاداته ومعتقداته بشكل مباشر أو غير مباشر على حالة الشعور بالنقص وعلى مضاعفاتها. مرحلة تربية الأطفال تعد من أهم المراحل في نشأة الشعور بالنقص وتحديد طبيعته ودرجاته. سبل التربية والإرشاد التي يتبعها الآباء في تربية الأبناء قد تحفز الشعور بالنقص عند الأطفال وهكذا تحفز ردود الفعل التعويضية عندهم والتي قد تتباين من شخص لآخر ضمن مؤشرات ومؤثرات مدروسة. تحفيز الطفل للقراءة والتميّز بالتلويح والإشارة إلى أشخاص تميزوا بدراستهم ونتائج امتحاناتهم ستخلق دون شك حالة الشعور بالنقص عند الطفل وسيعقب هذا الشعور تفاعلات وردود أفعال تعويضية قد تكون إيجابية بحث الطفل على الدراسة والمنافسة أو قد تكون سلبية حيث يشعر الطفل بالإحباط والدونية وفقدان الثقة بالنفس، وهذا يعتمد على طبيعة التحفيز وعلى طبيعة الاستجابة. كما أن فريق من الآباء يتعامل مع الأبناء بأسلوب الإهانة والزجر والاضطهاد والتنكيل وهذا كفيل بأن يفقد الطفل ثقته بنفسه وينحدر إلى صوب العقد النفسية وأهمها عقدة النقص.
4 - عامل النسبية: النقص في حاجات الإنسان مسألة نسبيّة غير مطلقة والشعور بالنقص له نفس الحكم في هذه النسبية، فهناك من الأثرياء من يشعر بالنقص أمام أثرياء أغنى منهم، وهناك من الأذكياء من يشعر بالنقص ممن هم أذكى منهم، كما أن هناك من الحسناوات ممن يشعرن بالنقص من الأجمل والأروع. هنا ينبعث عامل الغيرة عند البعض بواعز الشعور بالنقص من الآخر الذي هو أعلى مرتبة أو درجة أو مقام، وهذا يحدد درجة النسبيّة في طبيعة الحاجة التي تفسر بلوغ بعض المكتشفين والمبدعين والأثرياء الذروة بينما كانوا يعانون من شعور النقص في مرحلة من مراحل تألقهم.
5 - عامل الاهتمام: فقدان الحاجة بحد ذاتها لا تولد شعورًا بالنقص إن لم تكن موضع اهتمام المرء وتوجهاته، فالعوز المادي والفقر "على سبيل المثال وليس الحصر" لا تخلق الشعور بالنقص عند من لا يهتم بالمادة وبأخواتها. هذا يعني بأن شعور المرء بنقص في أمر ما يجب أن يقترن باهتمام ذاتي إدراكي حسي بهذا النقص وبدون هذا الاهتمام لا يحصل الشعور بالنقص رغم وجود النقص.
مضاعفات الشعور بالنقص: حينما يقترن الشعور بالنقص بضغوط نفسية شديدة وحينما يشكل هذا الشعور حالة معاناة طويلة تنبعث من عمق مراحل الطفولة وحينما يصعب على الذات تخطي أثر هذا الشعور بردة فعل تعويضية إيجابية عندها ستحصل المضاعفات....
1 - عقدة النقص: هي حالة نفسيّة مرضيّة تنشأ عن وجود نقص مزمن لعنصر حيوي في حياة الإنسان يصعب أو يستحيل تعويضه وتتصف هذه العقدة بوجود أعراض غير صحيّة وتصرفات غير اجتماعيّة، كالشعور بالدونية وفقدان الثقة بالنفس وبالانعزال والتقوقع على الذات والتردد بأخذ القرار والغيرة السلبية مقرونة بكراهية الغير واستخدام العنف أحيانًا ضد الآخرين، مما يؤدي كل هذا إلى حالة من الفشل الاجتماعي الواضح. تحصل عقدة النقص غالبًا عند من لديه خلل في القدرة الجسدية أو العقلية أو عند من يعاني من عيوب بارزة في المظهر أو عند وجود خلل في طبيعة التربية أثناء الطفولة ووجود مؤثرات سيئة فيها. تنشأ هذه العقدة عادة في فجر الطفولة ومراحل المراهقة والشباب وحتى إن اكتشفت علاماتها في مراحل متأخرة فإن أسبابها كامنة في مراحل العمر الأولى.
2 - التعويض السلبي: في الحالات الطبيعية وكردة فعل لحالة الشعور بالنقص يحصل تفاعل وتعامل إيجابي ذاتي لسد النقص أو تعويضه، فيعوض الرسوب في الامتحان بالدراسة المستفيضة والنجاح، ويعوّض الفقر والعوز المادي بالغنى من خلال الاجتهاد والسعي، حيث تنبعث طاقة الحث كردة فعل إيجابية لحالة النقص وذلك من أجل التعويض وسد الحاجة وهذا ما نسميه بـ"التعويض الإيجابي". غير أن هناك من الحالات ما يحصل فيها ما نسميه بـ"التعويض السلبي" أي أن ردود أفعال المرء أمام النقص بدل أن تكون بناءة ومثمرة في تلبية الحاجة فقد تظهر بأوجه سلبية غير مجدية وغير اجتماعية، وأمثلة التعويض السلبي كثيرة نذكر منها: الشعور بالكبرياء والأنفة، تبجيل الذات والانتقاص من الآخرين، استخدام القسوة واتباع أسلوب الإهانة في التعاملات العامة مع الغير، اعتماد الكذب والافتراء كوسيلة تعويض للنقص كما يحصل عند من يدعي امتلاك درجات أكاديمية عالية وهو لم يكمل حتى الدراسة الثانوية، هذه الأمثلة وغيرها تعتبر ردود أفعال سلبية منبعثة كتعويض سلبي لحالة الشعور بالنقص.
3 - الكآبة التفاعلية: حينما يهمل من يشعر بالنقص نداءات النفس ومعاناتها بسبب نقص ما حاصل في أمر ما، وحينما يعالج هذا النقص بإشغال النفس بأمور أخرى من أجل الابتعاد عن مواقع الألم وخلق حالة النسيان، تبقى تأثيرات عدم إشباع الحاجة وعدم تحقيق ما تصبو إليه النفس كامنة في منطقة اللاشعور حتى تتبلور بمرور الزمن ومن خلال شدة المعاناة إلى حالة اكتئاب نفسي تفاعلي واضح. هذه الكآبة قد تتجلى أيضًا حينما يصبو المرء ويسعى بكل قواه لمعالجة النقص الموجود لكنه في نهاية المطاف يشعر بأنه غير قادر على إشباع حالة نقصه وتجاوز ذلك من خلال التعويض الإيجابي. بمعنى آخر أن الكآبة التفاعلية قد تحصل بسبب إهمال دعوة الشعور بالنقص لتحقيق الحاجة لغياب الهمّة وتواري العزم أو لاستحالة أو صعوبة تحقيق هذه الحاجة رغم وجود الهمّة وتوفر العزم.
علاج هذه المضاعفات ليس عملية بسيطة وسهلة إنما يتطلب معالجة الأسباب والبحث في حيثياتها وذلك من خلال تعاون دؤوب ومستمر يحصل بين المرء ونفسه من جهة، وبينه وبين المختصين في علم النفس والتحليل النفسي من جهة أخرى. معرفة أسباب العلّة وتجنب دواعيها هي الطريقة المثلى للوقاية منها فـ"الوقاية خيرٌ من العلاج" وهذه مهمة تقع على عاتق الآباء والمربين في أغلب الحالات والأحيان!
تغريد
اكتب تعليقك