قراءة نقدية لرواية ناقة صالحةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-05-31 23:33:38

د. داليا حمامي

الولايات المتحدة الأمريكية

الكتاب: "ناقة صالحة" 

المؤلف: سعود السنعوسي

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، طبعة مصرية عن دار تنمية   

عدد الصفحات: 173 صفحة

تاريخ النشر: آب/ أغسطس 2019

أذكر حينما قرأت رواية ساق البامبو لسعود السنعوسي، أني قلت في نفسي لن أقرأ بعدها ما هو أجمل و أكثر ملامسة لقلبي منها، ولكن حدث أن قرأت فئران أمي حصة، فضربت أوتارًا حساسة في دواخلي وهزتني بعمق، لأعود و أقول ها هي ذي الرواية الأفضل، لكن عاد إلينا سعود بروايته حمام الدار، بفكرة عبقرية ولغة خلابة، وسرد ذكي وتعابير حزينة، يرغمك صدقها على الذوبان أمامها محبةً لقلم الكاتب الفذ، وعدت وقلت مجددًا محال أن أقرأ أبدع منها، ليفاجئنا سعود أخيرًا برائعته "ناقة صالحة"، بلغتها الفريدة المتمكنة التي أعادنا الكاتب من خلالها لزمن البلاغة والفصاحة، و للعصور الذهبية للغة العربية، فمن أول كلمة ينجح في فصلك عن زمنك، ويعود بك إلى زمن وبيئة لم تقرأ عنهما سابقًا، ويجعلك تغرق في ثنايا حكاية، من حقبة لن تعود.

"ومنزلك قلبي، وأنا لولا الخلوج..ما أترك دياري لديرة صالحة"

جملة لن تعني لك شيئًا حتى تقرأ الرواية، فتضحي موسيقى في روحك ترددها بنغمك الخاص، بنَفَسك الشعري الخاص، والجملة الساحرة في آخر كل مقطع "العلم عند الله" تختم كل القصائد التي تتردد في دواخلك، بإيمان واستسلام عميقين.

الرواية مقسمة إلى ثلاثة فصول.. قبل العلم، والعلم، وبعد العلم.. والعلم هنا ربما هو حكاية الحب التي انتهت بجملة "العلم عند الله" التي نطقها "دخيل بن أسمر"  لـ"صالحة" في لقائهما الأخير، ففصل قبل العلم هو التمهيد أو الأحداث التي يجب معرفتها، قبل الشروع في الحكاية الأساسية، و تداعيات ما حصل قبل 40 عامًا، على لسان إحدى الشخصيات الرئيسة وهو "دخيل بن أسمر"، أما فصل العلم فهو قلب الرواية ومحورها الأساسي تحكيه لنا "صالحة بنت أبوها"، وفي فصل بعد العلم  يعود إلينا "دخيل" مجددًا ليخبرنا النهاية.

القصة بحد ذاتها بسيطة، لكن براعة السنعوسي، وعقليّته الجبارة، حولتها إلى نص ساحرٍ آسر،  بلغة ولا أرقى، وتعابير صادقة فيها نفَس شعري لا يقاوم:

(مات أبي في رحلة الحج.. ودفن في الدرب حيث لا نعرف له قبرًا…

ضاع في الصحراء وأبي لا يضيع أبدًا، وخارطته ليل السماء.. ولكن لا نجوم في القبور).

الرواية كما قال الكاتب مستلهمة من قصيدة قديمة للشاعر محمد عبدالله العوني، وفيها أحجية كعادة السنعوسي، وسحرها يكمن في أن كل منا سيفهم الأحجية بطريقته الخاصة، ويحللها على هواه، أما ما هي الحقيقة؟  فالعلم عند الله.

الشخصيات في النص متخيلة، لكنها نابضة بالحياة لدرجة تجعلك تصدق أنها واقعية، وصف البيئة صادق لدرجة اليقين بوجود مكان يدعى ديار صالحة بالفعل، والملحق الوهمي في نهاية القصة، يعزز لديك هذا اليقين، بطريقة لا يتقنها إلا السنعوسي.

إن بدأنا بالملحق، من المرجع الوهمي، كتاب (صحراء العرب) للرحالة JR Edward، وفيه تُذكر قصة عن فتاة، تقطع الصحراء مشيًا باتجاه الشرق، رآها هو ودليله، راعي الإبل السوداء، وهي تحمل ابنها على ظهرها وقد أضناهما العطش، يوهمنا سعود أنه قرأ هذه القصة في الكتاب، فاستلهم منها روايته، بعد أن أضاف إليها ناقة بيضاء مع حوارها، وقصة حب لم تتم، بين "صالحة" وابن خالها "دخيل بن أسمر"، الذي يضطر إلى الرحيل عن البادية والتوجه إلى الكويت وتغيير اسمه إلى "محمد عبد الله الشاوي"، عقب انتشار قصيدة له يتغزل فيها بـ"صالحة" ويهجو عمها شيخ القبيلة، رغم أنه ليس من نَظَمها، لكن وبحكم العادات والأعراف وبأمرٍ من عمها، تتزوج "صالحة" بإبن عمها "صالح"، بعد أن اغتصبها راعي إبل سوداء، وفي ليلة زفافهما يدخل الشك إلى قلب "صالح" أن "دخيل" هو من اعتدى على "صالحة"، التي تضع مولودها، وهي وحدها من تعرف من هو والده الحقيقي.

 "صالح" الابن البكر لشيخ القبيلة، الذي لا يرَ الأب غيره، رغم وجود الابن الأصغر "فالح"، الشاعر الوسيم والصقّار، فاتن بنات القبيلة، الذي نفهم أنه هو أيضًا يعشق "صالحة" وكان يريدها لنفسه، وقد أسرّها مرة أنه يكره أخيه، وربما يريد التخلص منه.

 تقوم معركة (الصريف) بين آل الرشيد وحلفائهم العثمانيين، وأمير الكويت وحلفائه، ويخبر "فالح" أخاه "صالح" أن الأمير يطلبه بالاسم كي يقاتل إلى جانبه، ويموت "صالح" متأثرًا بجراحه في الكويت، بين يدي "دخيل بن أسمر"، الذي عرف أن الرصاصات التي أصابت "صالح" إنكليزية الصنع، وليست من صنع العثمانيين، الذين اتهمهم "فالح" بقتل أخيه.

يعود "فالح" إلى "صالحة" ومعه بندقيته وبندقية أخيه الانكليزيتان،  ليخبرها أن أخيه قد مات، وأن أمير الكويت لم يطلبه للقتال كما ادعى، فتتجه "صالحة" إلى الكويت، إلى دخيل بن أسمر، صحبة ابنها، وناقتها "وضحى" وحوارها، وعند مشارف الكويت تركل الناقة "وضحى" ولد "صالحة" خطأً فيموت، فتقوم "صالحة" بذبح حوار الناقة أمامها انتقامًا منها، فتغافلها الناقة الثكلى وتبرك عليها وتقتلها، يسمع "دخيل بن أسمر" نواح الخلوج فيهرع إليها، ليجد محبوبته وابنها مقتولين، ويعود إلى الكويت ليحفر قبرًا لصالحة حتى لا يضيع منه كما ضاع قبر أبيه، لكن نقرأ في النهاية إشارة من إحدى الشخصيات الثانوية، أن "دخيل بن أسمر" قد سجن في الكويت، بتهمة قتل "صالحة" وابنها بعد أن وجدا مذبوحين، فيقع القارئ في حيرة جديدة لا يعرف معها أين وما هي الحقيقة، هل الناقة من قتلت "صالحة" أم "دخيل"؟ أم أن "صالحة" قتلت ابنها ونفسها؟ العلم عند الله.

المفردات في الرواية مناسبة تمامًا للبيئة الصحراوية، وقد انتقى الكاتب كلمات لم يسمع معظمنا بها مثل: الرمث، العلندة، الثمام، الصرد، أشخب، بغام، فواخت، تنث ضوع الخزامى .. ورغم ذلك فهناك سحر خاص في لغة النص، ربما جاء من تكرار النفي بـ(لا) النافية، مما أعطى موسيقى رائعة للكلام، تجبرك على تلحينه في صدرك وأنت تقرأ، غير متأكد إن كنت تقرأ شعرًا أم نثرًا:

(لا زرع في الأرض، ولا مياه في الشعاب بعد، تأخرت هذا العام.. لعلها تصل في الغد)

(لا ماء في قربتي، والعرق لا يروي ظمأ، أتكون الكويت سحابة تبشّر بما لا يجيء، أم سرابًا لا يضنيه نأي أبدي؟)

أو ربما جاء من الاستخدام العبقري للأضداد في الجملة الواحدة، كقوله في وصف حب دخيل لصالحة:

(أحببتها لأنها كثيرات في واحدة، صعبة سهلة، حرة فاتنة، ذكية غبية، خجول ماجنة، كذابة صدوق، أحببت وجهًا ما رأيت مثله قط ، يؤاخي بين ملامح النحيب دمعاً و تقطيبة حاجبين، وبين ثغر يكركر)

أو عندما قال:

(تفكّرت فيّ وفي منفاي المالح، وفي عذوبة صالحة)

(أُدبر عن هدير الخليج، أُقبل على نواح الخلوج)

(لم يغرس بها يأسًا في النفس، وهذا أمر جيد.. ركب فرسه وغادر دونما غرس بذرة أمل، وهذا أمر سيء)

لأول مرة أقرأ ولا أنتبه من هو الراوي.. هل هو الشخصية؟ هل هو الراوي العليم؟ مأخوذة تمامًا بسحر الكلمة، و براعة لغة ما قرأت لها مثيلاً منذ زمن، والأمثلة في الرواية كثيرة تكاد تبلغ معظمها..

(لم أفتقد شيئًا إلا مفازةً لا يرى آخرها، وعواء ذئاب الليل، وعيون الماء العذب، وغناء حادي الإبل، وأراضي خبراء بعد ليالي مطيرة، وحليب نوق بطعم الورد، ونقوش الحناء في كفوف بنات القبيلة، واسمي… اسمي الذي نذرت على نفسي أن أعانق من يذكره أمامي وإن بالخطأ، وأعانق فيه نفسي التي أشتاقها في غير هذا المكان)

(في مرقدي على صوت هدير البحر، غفوت أفكر في تلك الديار.. طفوت ما بين حلم وعلم.. وحده الاغتراب يمنحك حنينًا لكل ما تكره في ديار تشتاقها)

(شبّت النار تناهزني ارتفاعًا، استرسل صمت الذئاب، وسبحان من جعل في النار أمانًا وجحيمًا)

المفاجأة الكبرى في الرواية هي الفصل الأخير فيها، عبارة عن كلمة واحدة.. فالح.. وبعدها تنتهي الرواية، لنفهم أن عند "فالح" تجتمع خيوط الرواية، هو من كتب القصيدة التي تسببت بطرد "دخيل بن أسمر" من دياره، و هو أعطى "صالح" خنجره لينتقم من "دخيل" ويتسبب له في جرح دائم في وجهه، وهو قاتل أخيه، وربما هو من أراد أن يجمع "صالحة" بدخيل في الكويت، هذا إن وصلت إليها.. وربما أراد أن تأتي "صالحة" إليه طوعًا ليتزوجها و يظفر بها، ربما… العلم عند الله.

نصيحتي لك صديقي القارئ، أن لا تغتر بصغر حجم الرواية، وأن تقرأها ببطء وتمعن في كل كلمة، بل في كل حرف، وأن تستعين بالمعجم لفهم أفضل، وأن تقرأها أكثر من مرة، وإن كانت هي أول ما تريد أن تلج به إلى عالم روايات سعود السنعوسي فابدأ بغيرها، ودعها للختام، فهي حتمًا مسك الختام.

عن سعود السنعوسي:

 كاتب وروائي كويتي، عضو رابطة الأدباء في الكويت، فاز عام 2013 بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عن روايته ساق البامبو، انضم في عام 2018 لأسرة كتاب مجلة زهرة الخليج و ينشر فيها مقالًا أسبوعيًا.

أعماله:

سجين المرايا (2010)

ساق البامبو (2012)

فئران أمي حصة (2015)

حمام الدار (2017)

ناقة صالحة (2019)

في المسرح:

المسرحية الغنائية "مذكرات بحار"، 2019.

مسرحية "نيو جبلة"، 2020.


عدد القراء: 5837

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 2

  • بواسطة Hanadi من الولايات المتحدة
    بتاريخ 2020-06-27 03:01:02

    مبدعة دائما في تقديم ملخص للرواية تشجعك على قراءة الراوية بكل حب وإقبال دام قلمك الرائع بخير أستاذة داليا.

  • بواسطة wisam من الولايات المتحدة
    بتاريخ 2020-06-07 05:27:54

    كالعادة دالية، أكثر ابداعا في وصف الرواية وأبلغ من كاتب الرواية، كل الشكر من قلبي

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-