قراءة في رواية حمام الدارالباب: مقالات الكتاب
د. داليا حمامي الولايات المتحدة الأمريكية |
الكتاب: "حمام الدار (أحجية ابن أزرق)".
المؤلف: سعود السنعوسي.
الناشر: منشورات ضفاف والدار العربية للعلوم، وبنسخة مصرية عن دار تنمية.
عدد الصفحات: 182 صفحة.
تاريخ النشر: تشرين الثاني/نوفمبر 2017م.
هل يمكن أن يتزعزع الإيمان تحت قسوة تجارب الحياة، ورؤية نتائج ووقائع تخالف كل قانون فطري، وكل طبيعة ألفناها وعرفناها؟
هل باستطاعة كاتب أول وهو سعود السنعوسي، أن يكتب عن كاتب ثانٍ، يؤلف نصًا روائيًا، يكون بطله شخصيةً موازية له، علّه يعلم لم هو لا ينتحر، وينهي حياته العقيمة؟
وأخيرًا، أيمكن أن يتضح لنا أن الشخصية الموازية وروايتها الخاصة بها عن كاتبها؟، هو عين الحقيقة، وإن النص الذي قرأناه أولاً كان وهمًا بوهم، وليس أكثر من نص مرمَّز للحقيقة؟
كتب سعود السنعوسي عن هذا، فأبدع.
ألّف رواية عن مؤلف، يكتب نفسه كشخصية في رواية، فتقوم هذه الشخصية، بتأليف رواية عن مؤلفها، ليتجلى لنا أنها هي المؤلف الحقيقي والآخر هو الشخصية الروائية!
رواية حمام الدار تقع في فصلين رئيسين، هما العهد القديم، والعهد الجديد، وبينهما ساعة تأمل، كمرحلة انتقالية غاية في الأهمية، تشبه فترة نبوّة يقام فيها الناموس، ويعاد إلى الأمور نصابها، وإلى العقل صوابه، وإلى الإيمان ثوابته.
تبدأ الرواية بمقدمة، منها المبتدى وإليها المنتهى، يكتب فيها سعود عن كاتب اسمه "منوال"، أصابته حالة شغف نادرة، لكتابة رواية جديدة، تحت إلحاح من إحدى الشخصيات التي تراءت له في مخيلته، ولم يستطع كبح إغراء كتابتها، هي شخصية عرزال بن أزرق، ويسمّي مخطوطه الأولي (نص لقيط).
هذا النص اللقيط، وهو الجزء الأساسي من العهد القديم، عبارة عن خمسة صباحات لعرزال، تحدث في زمنين، الحاضر الذي يصبح فيه السرد على لسان الكاتب راوي القصة "منوال"، والماضي يروى على هيئة مذكرات، معنونة بعناوين مميزة، سرْدُها على لسان (عرزال)، الشخصية المضطربة نفسيًا التي تعيش حياتها بلا جدوى أو معنى أو هدف.
تأتي بعد هذا الفصل، ساعة التأمل الخاصة بمنوال، هذه الساعة المفصلية التي تبدأ فيها واحدة من الشخصيات في (النص اللقيط) وهي شخصية (قطنة)، بالتحاور مع الكاتب "منوال"، فيأمرها بالذهاب إلى شخصية (عرزال)، لمعرفة سبب عدم انتحاره.
في هذا الساعة، تتجلى عبقرية سعود السنعوسي في السرد.
سرد بصيغة الأمر، حيث يأمر "منوال" شخصية (قطنة) أن تقول كذا وكذا، ويخبرها أن رد (عرزال) عليها سيكون كذا وكذا، ويطلب منها الأناة و التمهل والصبر عليه، ويعود ليطلب منها أن تفعل وتقول وتأتمر بأمره، و يخبرها محذّرًا إياها، من ردود و تصرفات عرزال، مع كل تفاصيل مشاعر وعواطف الحوارات المتوقعة بينهما، وذلك في محاولة من "منوال" لإنهاء النص واختتامه بنهاية منطقية، هو يريدها لكن لا يجرؤ على تنفيذها، حتى لا يلق نص روايته مصيرًا مماثلاً لنصوص سابقة له، ألا وهو البقاء في الدرج السفلي للمكتب بلا نشر.
يُسمح في هذا الفصل لشخصية (عرزال) بالثورة على الكاتب "منوال"، ليتحول (عرزال) بنفسه إلى مؤلف، يعيد كتابة النص اللقيط من وجهة نظره، تحت اسم جديد وهو (نص نسيب).
يبدأ العهد الجديد، الذي يستهلّه عرزال من حيث انتهى "منوال"، من فصل (أثناء ساعة تأمل)، لندخل في ساعة التأمل الخاصة بعرزال، وفيها يحادث ( قطنة) من جديد، و يخبرها أنه هو الكاتب الحقيقي، أنه هو من كتب النص القديم ولكن بيد منوال وعلى لسانه..(أنا الكاتب الذي خط قصة كاتب عاجز عن إتمام نصه، أنا الذي رأيت كل شيء، وأعرف كل شيء) لنفهم حينها أن الكاتب الحقيقي هو عرزال!
وتبدأ (قطنة) بقراءة النص النسيب الذي كتبه المؤلف (عرزال)، وهو نص موازي لما كتبته الشخصية "منوال" سابقًا في العهد القديم، يحكي فيه عرزال الآن، قصة "منوال" الحقيقية مع فقد إخوته، التي شفّرها سابقًا بشخصيات رمزية في نصّه اللقيط، ويكرر تصوير الصباحات الخمسة لمنوال، متضمنة ذكرياته من ماضيه، مضيفًا صباحًا سادسًا يحكي لنا فيه كيف فقد "منوال" طفليه (زينة) و(رحال)، ويقرر الكاتب (عرزال) عندها النهاية الأنسب للرواية.
نلاحظ عند تحول منوال وعرزال لشخوص، تماثُل حاضرهما، واختلاف ماضيهما، هذا الاختلاف هو فقط في أسماء الشخصيات وكيانها، ودورها في حياتهما، و لفهم أفضل، علينا قراءة المذكرات في الصباحات الخمسة، المعنونة بنفس العناوين في كلا النصين، لنعرف عندها من هي الشخصية المقصودة في كل ذكرى لعرزال، ونظيرتها وإسقاطاتها في ذكريات منوال.
فمثلاً بصيرة عند عرزال، هي النَفْس عند منوال، التي كلما حاول أن يستنطقها خرست، لكنها تفاجئه بحكمتها عند صمته، كي تذكره بوجودها إن نسيها، هي النفس بإيمانها الذي يقوى حينًا ويضعف حينًا، هي الأمل والشك، والتشاؤم والتفاؤل، بصقة بصيرة التي لا تخطئ هدفها عند عرزال، هي صوت الحكمة الفطرية عند منوال.
أفعى الدار التي لا تخون عند عرزال، هي فايقة العبدة الوفية عند منوال، بوجهها الذي يشبه وجه الأفعى، بسبب تشوه شفتها العلوية وانشقاقها.
يتحدث عرزال في ماضيه، عن نعجته البربرية (قطنة) المحببة إلى قلبه، وعائلة الحمام التي عشقها، لكن فككها الأب (أزرق) عندما أفلت الحمامتين زينة ورحال، ولم يعثرا على طريق العودة، لتموت الحمامة الأم حزنًا على فراخها، بينما حاضره ضبابي غير مفهوم عن فقده لطفلين توأمين، لا نعرف عنهما شيئًا، وعن حمامة عششت على دكة نافذته مع فرخيها.
بينما يتحدث "منوال" في ماضيه، عن فتاته الأثيرة ( قطنة)، ابنة العبدة فايقة، وعن عائلته التي عشقها، لكن فككها الأب (أزرق)، عندما هاجر مع باقي أبنائه إلى جزيرة أخرى بعد زواجه الثاني، لتموت الأم المكلومة، حزنًا على فراق أبنائها، بينما حاضره هو عائلته التي فقدت حجري أساسها، الطفلان التوأمان زينة ورحال، وعن حمامة عششت على دكة نافذته مع فرخيها أيضًا.
الشخصيتان منوال وعرزال، يعانيان اليتم والأسى، ولوعة فقد الأبناء والأخوة، وحرمان الزوجة، ورتابة الحياة وفراغها من أي رجاء أو أمل، كذلك يوحي لنا السنعوسي، أن "منوال" طفل لقيط، أزرق ليس والدًا له، رغم أنه تكنّى باسمه، فاللؤم الغريب لأزرق عليه، طَرْد العبيد كلهم فجأة وبلا سبب، وزواج أزرق من امرأة أخرى وهجرته مع أبنائه الأربعة، ترك منوال وحيدًا مع الأم، ترديد أزرق لجملة (معزة البيت تحب التيس الغريب)، وجملة ( العبد يحب العبدة)، كلها توحي بريبة علاقته الأبوية مع منوال.
تقنية الراوي في هذه الرواية متنوعة، ففي كل صباح هناك زمن حاضر يُحكى على لسان راوي خارجي هو المؤلف سواء أكان عرزال أم منوال، وسرد للذكريات على لسان البطل عندما نتحول للماضي، ومرة على لسان الراوي يتحدث مع نفسه، ومرة أخرى يتحدث مع شخصية روائية.
يتجلى إبداع سعود وتطوره، في فكرة الرواية المميزة، والتعامل الخلّاق معها، والمعالجة الذكية لها، وهي ليست سهلة الفهم، تحتاج للقراءة مرتين على الأقل للإحاطة بها واستساغتها، واستيعاب دهاليزها، أما الشخصيات فقد جاءت متنوعة، موصوفة بحرفية عالية، بأسماء غاية في التفرد والغرابة، بينما الحبكات الخفية المتعددة في كل فصل، تشدك لقراءة الصباحات التالية، لمعرفة الأحجية وفك شيفراتها.
اللغة بسيطة بمفردات سهلة، تدفعك للتمسك بحبال كل كلمة وكل فكرة مخافة أن تفلت منك خيوط الرواية، التي يطول قليلاً إيجادها.
ما يُلفت في النص هو اختلاف تركيبة الجُمل باختلاف الزمن، فعندما يصبح الزمن حاضرًا، تكون جمل النص قصيرة لا تتعدى الكلمتين أو الثلاث غالباً، تمنح شعورًا بأن النص عبارة عن شهقات متتابعة، مرهَقة، تقطع أنفاس القارئ.
أذكر هذا المثال:
(ألصق السماعة بأذنه، أشتاق للصغيرين، طليقته لا تريد أن تنسى، أركض ياجبان، ثم اقفلت الخط!)
أما عندما يصبح الزمن ماضياً، يتحول السرد إلى جمل ٍ كاملة سلسة عميقة تمس الروح، أذكر على سبيل المثال هذه المقاطع:
(يصير الرحيل أخف وطأة لو أوجد له مسوغًا، مجانية الفقد تحيله جرحاً مفتوحًا في صيغة سؤال).
(تشممت رائحة طين بيتنا القديم في ثوب غادي وجلد رقبته المتغضن، من شأن عشرين سنة يكبرني بها غادي، أن ترتفع به إلى منزلة أب، وأن تهبط بي إلى منزلة طفل صغير).
(لا العقل يسعفني، ولا الايمان، ولا برزخ الأسئلة بينهما).
(من أين لإخوتك غير الدم صلة تجعلهم اخوة؟
صلة تتجاوز تاريخكم بكل هنّاته وسنوات القطيعة، وقت يعانق واحدكم الاخر، صلة تمنحك في العناق شعورًا آمنًا، بأنك تستعيد جزءًا مبتورًا من جسدك).
رواية بديعة عبقرية كلوحة من لوحات بيكاسو، سيراها البعض قمة الفن، و البعض الآخر خربشات مقطّعة غير مفهومة، لريشة تائهة.
بالتأكيد ليست موجهة للقارئ البسيط، ولا ترضي جميع الأذواق، بل تستهدف شريحة معينة من القراء، تلك التي تعطي كل وقتها وتركيزها وصبرها، وتجند كل حواسها وطاقاتها، لفهم متاهة هذه الأحجية العجيبة.
باختصار هي تجسيد لإبداع العقل البشري اللامحدود.
الكاتب سعود السنعوسي:
روائي كويتي وعضو رابطة الأدباء في الكويت وجمعية الصحفيين الكويتيين، فاز عام 2013 بالجائزة العالمية للرواية العربية عن روايته ساق البامبو.
له عدة أعمال منها: سجين المرايا، ساق البامبو، فئران أمي حصة وحمام الدار.
تغريد
التعليقات 3
مقال رائع واهتمام بالتفاصيل مبهرررر
صار عندي فضول لقراءة الرواية .. عبالي امتحن حالي اذا رح انتبه لهالتفاصيل المذكورة بالمقال الرائع
قراءة السيدة داليا للرواية أضفت عليها ابداعا وجمالا ووصفا رائعا للكاتب ولمفاصل الرواية الاساسية الحقيقة قراءة تشد لمتابعة مقالاتها والبحث عن الروايات التي تكتب عنها لقراءتها
اكتب تعليقك