ثنائية الترهيب والترغيب في خطبة طارق بن زيادالباب: مقالات الكتاب
د. زينب ميثم علي العراق |
الملخص:
إن بلاغة الخطبة ووظيفتها الاقناعية لم تكن حكرًا على الخطباء فحسب، وإن كان النص الخطابي قد كتب في فترات متقدمة يختلف عما كان سائدًا فخطبة طارق بن زياد تدل على الذهنية النقدية المتفتحة للعرب ومن عاصرهم في استعمال الألفاظ وترتيبها ليخرج النص وكأنه كتب في العصور الحديثة بل حتى المعاصرة، وهذا ما جعل بعض الكتاب والنقاد يرتابون في نسب هذه الخطبة لطارق بحجج واهية أمثال إغفال بعض المصادر ذكرها، فقد ألقى طارق خطبة عسكرية اشتملت على مواقف منطقية حذر قائد جنوده من الفشل والاستسلام، وفي المقابل بين لهم ما سيترتب على هذا الانتصار من نعم ومنازل في الدنيا والآخرة، وقد استعمل ثنائية الترهيب والترغيب في نصه لإقناع مواليه بخطبته.
دأب الباحثون على إطلاق عدة مسميات على الثنائيات التي يدرسون وفقها أعمالهم الأدبية وعديدة هي الثنائيات التي تستعمل لدراسة أدب ما وهذه الثنائيات غالبًا ما تكون متعاكسة أو متشابهة أو أولها يؤدي إلى آخرها أي يحذر من شيء ما لكي يمهد للحصول على المبتغى، وهذا النوع الأخير الترهيب والترغيب تقع ضمنه خطبة طارق بن زياد فالترهيب هو "كل ما يخيف ويحذر المدعو من الاستجابة"1، أما الترغيب فهو "كل ما يشوق المدعو إلى الاستجابة"2، وتنتمي هذه الخطبة لفترة القرن الأول للهجرة، وهي مدة حكم الولاة في الأندلس أي منذ وطئت أقدام المسلمين أرض الأندلس، والفترة التي أعقبت فتح الأندلس، وشهدت هذه الفترة والتي تلتها الكثير من الكتابات الشعرية والنثرية، ولعل أبرز النصوص النثرية في هذا العصر هي خطبة طارق بن زياد] التي يكتنفها الغموض والشك في إن كان طارق هو الذي كتبها أم لا، فقد اشتهر العرب منذ عصر ما قبل الإسلام بالخطابة، وعرفوا بفصاحة اللسان وقوة البيان، وبراعة التعبير، وشدة التأثير، وازدهرت الخطابة ازدهارًا في عصر الرسول (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء، وبلغت القمة في عصر بني أمية لتوفر دواعيها الدينية والاجتماعية والسياسية، وازدهرت في العصر العباسي الأول، وظلت الخطابة السياسية نشطة قرابة قرن من الزمن في البيت العباسي، وإلى جانب السياسة نجد الخطب الدينية والجهادية والحفلية، وكانت الخطب الدينية تفيض بالوعظ والنصح والإرشاد، أما الحربية أو الجهادية فكانت تأخذ طابع الاستنهاض والاستبسال وشحذ الهمم وبذل النفوس, أما الحفلية فكانت تلقى في المناسبات كإعلان البيعة للخليفة أو ولي العهد3، وأما في الأندلس فأن الخطبة جاءت وليدة الفتح، ففي عصر الولاة وتمتد هذه الفترة من الفتح 92 هـ إلى مجيء عبدالرحمن بن معاوية (الداخل) واعتلاء سدة الحكم في قرطبة وهي مدة حافلة بالأحداث الايجابية والسلبية بالقياس إلى الوجود العربي الإسلامي في الأندلس4، كثرت الخطب بسبب الحروب والصراعات في عصر الولاة وهذه الفترة هي ما يهم من عصر الأندلس كون خطبة طارق بن زياد تنتمي لهذه الحقبة الزمنية، أما في عصر الملوك والطوائف ضعفت الخطبة ودخل إليها السجع المتكلف، وفي عصر المرابطين اتجهت الخطبة لدعم الدولة والسلطة، وفي عهد بني الأحمر وجهت الخطب نحو الحث على الجهاد5، فالخطابة هي من موضوعات النثر الرئيسة ويذكر الدكتور حازم خضر إن خطبة طارق هي من النصوص الأوائل للخطبة في الأندلس ولكن لا يمكن اعتمادها مثلاً عن الخطابة لما يكتنف صحة نسبتها من الشكوك6، فخطبة طارق بن زياد هي من النصوص الأوائل التي تصل من الأندلس والتي أغفلت المصادر ذكرها، وبعضها أهملها، حتى المصادر التي تذكرها تنقلها بأشكال مختلفة، فأقدم نص للخطبة هو نص ابن خلكان7، وينقل النص عينه المقري8، ويذكره أحمد زكي صفوت بطريقة مغايرة عن ابن خلكان9، أما ابن قتيبة الدينوري فينقله بطريقة مغايرة تمامًا عن النصوص الأخرى10.
ويقع الترهيب في الخطب منذ بدايتها "أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر"11، والذي تجسد في شكل مادي، إذ إن طارقًا قام بإضرام النار في السفن التي أقلتهم ليحث الجنود على القتال وإن لا رجعه ولا استسلام لهم، "إذ جرد من وسائل الارتداد والرجعة إلى الشاطئ الإفريقي، أو بعبارة أخرى قد جرد من السفن التي حملته في عرض البحر إلى اسبانيا"12، وقد نفت بعض المصادر وقوع هذه الحادث ومنهم الدكتور عبدالرحمن علي الحجي الذي يذهب إن طارقًا لم يحرق السفن؛ لأن السفن هي لليليان، وأن جيش طارق يقاتلون من أجل عقيدة، وإنهم من ساعة عبورهم جاؤوا مجاهدين مستعدين للشهادة، وطارق متأكد من هذا المعنى، فإذا كانت السفن سفن ليليان فليس من حق طارق التصرف بها، وإن كانت للمسلمين فليس حرقها عملاً عسكريًا سليمًا أو مناسبًا، ما دام يحتاج إليها والى نجده واتصال دائم بالمغرب لأي غرض13, ويروى إن طارقًا أقبل لمحاربة جيش جرار وخاف أن يستحوذ الرعب على جنده لقلتهم فأحرق السفن التي أقلتهم حتى يقطع من قلوبهم كل آمل في العودة14، وكذلك يروي الزركلي "وتغلغل في أرض الأندلس، بعد أن أحرق السفن التي جاء عليها بجيشه"15، ويذهب محمد عبدالله عنان إن طارق أحرق السفن التي نقل عليها جيشه من الشاطئ الإفريقي إلى الشاطئ الأندلسي، وقيل إن طارقًا ما كاد يعبر بجيشه إلى الشاطئ الأندلسي حتى أمر بإحراق السفن التي عبر عليها بجيشه، وذلك لكي يدفع جنده إلى الاستبسال والموت، أو النصر المحقق، ويقطع عليهم بذلك كل تفكير بالتخاذل والارتداد16، وقد كان لإحراق السفن أثرًا في الانتصار، إذ ربما لو بقيت السفن لاستسلم جيش طارق خاصةً إن عدد المقاتلين كان قليلاً بالنسبة للجيش المنافس، فقد كان عمل طارق عملاً قيادي حكيم، فهو يعد من القادة الناجحين يعرف ما يفعله، فضلاً عن ثقة موسى بن نصير له الذي لم يشك في كفاءته لهذا العمل الذي أناطه به، وكذلك حرق السفن هو نوع من الترهيب الذي استعمله طارق في تحذير الجنود من أن لا شيء أمامهم سوى الظفر أو الخذلان.
تقع الخطبة في ثلاثة مقاطع، وتتناول ثلاثة أغراض وهي: التحذير والترهيب، والمقطع الثاني الإغراء والترغيب، والثالث إبراز الخطة والتوجيه.
المقطع الأول: "واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة وأنتم لا وَزَرَ لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم وأن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرًا، ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب من رُعبها منكم الجرأة عليكم فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا وانأ أبدأ بنفسي"17.
في هذا النص يتضح الترهيب من أمور عديدة وهي: الضياع وأن لا شيء لهم في هذا المكان لا طعام ولا سلاح إلا ما يستخلصوه لأنفسهم بالقوة من أيادي أضدادهم، فضلاً على أنهم غير مرغوب بهم فيهم، وكذلك يحذرهم من أن يتغلغل الخوف جوف قلوبهم ويتأثروا لأنهم من أقوى جنود المدينة ويجب عليهم أن لا يخشوا القتال ويرهبهم من الخسارة في هذه المعركة والفشل والخذلان اللذان سيلحقان بهم بعد المعركة فإن عار الخسارة سيلحق بهم وبأسرهم في حياتهم وحتى بعد مماتهم.
المقطع الثاني: "واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفة الألذ طويلاً فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فما حظكم فيه بأوفى من حظي وقد بلغتم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدرِّ والمرجان والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذي التيجان وقد انتخبكم الوليد بن عبدالملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانا، ثقة منه بارتياحكم للطعان واستماحكم بمجادلة الأبطال والفرسان ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم والله تعالى ولي أنجادكم على ما يكون لكم ذكرًا في الدارين"18.
في وسط الترهيب والتحذير يبث طارق بعض المغريات ليرغب جيشه في القتال فهو يشحذ همتهم ببيان ما سيحصلون عليه في حال الانتصار وأولى هذه المغانم هن بنات اليونان اللاتي يتصفن بجمالهن وحسنهن، وكون الجيش أكثرهم شباب فهو يغريهم بالزواج من هذه الفتيات وإكمال نصف دينهم، وكذلك يبين ما سينالونها من أموال وثروات موجودة في هذه الجزيرة فهي خالصة لهم حال تحقيقهم النصر، والأمر الأخر هو أنهم سيصبحون إبطالاً ويخلدون أسمائهم، فضلاً عن رضا الملك عنهم الذي سيترتب عليه آثار مادية ومعنوية والاهم منه رضا الله عز وجل فأنهم سينالون ثواب إعلاء كلمة الله في الأندلس، ويصف إن هذه المغانم لهم خالصة دون غيرهم، إذ ما حققوا النصر في المعركة.
المقطع الثالث: "واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لُذْريق فقاتله إن شاء الله تعالى فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون"19.
في المقطع الأخير من الخطبة يوجه طارق جيشه، بعد أن أرهبهم وأرغبهم على نحو لا يستثني نفسه منهم يبدأ بإبراز الخطة وانه سيقتل قائد الجيش الغريم لذريق، ويطلب منهم إن يخلفوه فيما نوى عليه -قتل لذريق- لأن جنوده بعده يخذلون ويتسلل التخلي لأفكارهم.
وتنوه الرواية الإسلامية بما كان لهذا الخطاب من أثر فعال في إذكاء همم المسلمين وشجاعتهم وثقتهم، ودفعهم إلى طريق النصر والظفر20، قوبل هذا الخطاب العسكري بالتشكيك ومن أبرز المشككين الدكتور عبدالرحمن علي الحجي الذي ذهب "أن تعرض القليل جدًا من مؤرخينا الأندلسيين المتأخرين ـــ دون المتقدمين ــــ للخطبة قد يشير إلى عدم شيوعها وعدم معرفة المؤرخين لها، وهو أمر يقلل أو يمحو الثقة بواقعيتها"21، هذا وينطلق بتشكيكه من عناصر عدة:
- لم تكن الخطبة وما فيها من السجع من أسلوب ذلك العصر (القرن الأول الهجري) وغير متوقع لقائد جيش إن يعتني بهذا النوع من الصياغة، وإن المعاني التي تناولتها الخطبة لا تتلاءم والروح الإسلامية العالية، التي توفرت لدى الفاتحين، ومقدار حبهم للإسلام وإعلاء كلمته، ورغبتهم في الاستشهاد من أجل ذلك، فهي لا تشيد بدوافع الفتح وأهدافه ـــــ وهي معروفة مألوفةــــ التي أنبتتها ورعتها العقيدة الإسلامية، عاملة على ابتغاء مرضاة الله تعالى وحده، لتعلوا راية الإسلام وتسود شريعته ويكون الدين كله لله.
- يلاحظ في الخطبة العديد من الأخطاء، ويلاحظ فيها التناقض في المعاني، وبعض ما فيها مخالف لحقائق تاريخية كاستعمال (اليونان) التي ربما جاء ذكرها للسجع فالمؤرخون الأندلسيون، اعتادوا أن يستعملوا في هذه المناسبة القوط أو الروم، كذلك العلوج والعجم أو المشركين والكفار.
- كان من المتوقع إن تحتوي الخطبة على آيات من القرآن الكريم وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم)، أو وصايا وأحداث ومعاني إسلامية أخرى تناسب المقام كالمعهود.
- إن طارق وأكثر الجيش كانوا من البربر، مما يجعل من المناسب إن يخاطبهم بلغتهم، إذ من المتوقع ألا تكون لغتهم العربية وقد وصلت إلى مستوى عالِ22.
وبالإمكان دحض ما جاء به الحجي من خلال سياق الخطبة فحسب، إذ إن أكثرية الجنود من الشباب وإغرائهم بالزواج من بنات اليونان أمر طبيعي لحث الشباب بعد أن ذعروا بحريق السفن، إذ خشي عليهم من الارتداد والاستسلام فبين لهم ما سيمتلكونه، فضلاً عن وجود فقرة تشير إلى إعلاء كلمة الله، وبالتالي ينتقض رأي الأستاذ المرتاب، أما كلمة يونان فقد ذكرها طارق لأسباب جغرافية، وكذلك لملائم نصه الخطابي، أما عن تضمينها للآيات والأحاديث فالمجال لم يسعفه لأنهم كانوا في وضع استعداد لمعركة بدأت بعد حرق السفن، ولم يكن الحجي المرتاب الأوحد للنص، إذ نجد محمد عبدالله عنان يقول علينا "إن نرتاب في نسبة هذه الخطبة إلى طارق، فإن معظم المؤرخين المسلمين، ولاسيما المتقدمين منهم لا يشير إليها، ولم يذكرها ابن الحكم ولا البلاذري، وهما أقدم رواة الفتوحات الإسلامية ولم تشر إليها المصادر الأندلسية الأولى، ولم يشير إليها ابن الأثير وابن خلدون، ونقلها المقري عن مؤرخ لم يذكر اسمه، وهي على العموم أكثر ظهورًا في كتب المؤرخين والأدباء المتأخرين، وليس بعيدًا أن يكون طارق قد خطب جنده قبل الموقعة، فنحن نعرف كثيرًا من قادة الغزوات الإسلامية الأولى كانوا يخطبون جندهم في الميدان، ولكن في لغة هذه الخطبة، وروعة أسلوبها وعباراتها، ما يحمل الشك في نسبتها إلى طارق، وهو بربري لم يكن عريقًا في الإسلام والعروبة، والظاهر أنها من إنشاء بعض المتأخرين صاغها على لسان طارق مع مراعاة ظروف المكان والزمان"23، وهذا عذر واهي وإن لم تذكرها المصادر فهذا لا ينفي أن طارقًا هو كاتبها، كذلك توهم الدكتور أحمد هيكل من نسبة هذه الخطبة لطارق واستند على أدلة عديدة منها إن طارق كان بربري، وكان أول عهده بالإسلام والعربية عام تسعة وثمانين وهو العام الذي استولى فيه موسى بن نصير على بلاد المغرب فلاً يعقل أن يكون طارق قد اكتسب في هذه السنوات الثلاث اللسان العربي الفصيح الذي يؤهله لكتابة مثل هذه الخطبة، فهي ترد في مصادر متأخرة، وأيضًا الأساليب المستعملة في الخطبة السجع والمحسنات البديعية لم تكن معروفة في تلك الفترة24، وأيضًا من الأسباب الأخرى التي تدعو الكتاب إلى الشك في خطبة طارق هي إننا لم نطلع لطارق نصوص أخرى, فلا يوجد لدية غير هذه الخطبة, وثلاثة أبيات قالها في الفتح هي:
رَكِبْنــا سَفينــاً بالمَجـــاز مُقَيَّـــراً
عسى أنْ يكونَ اللهُ منّا قدِ اشْتَرى
نفوسـاً وأمـــوالاً وأهـــلاً بجنَّـــةٍ
إذا ما اشْتَهَيْنا الشيءَ فيها تَيَسَّرا
ولسْنا نُبالي كيف سالت نُفوسُنا
إذا نحن أَدْركنا الذي كان أَجْدَرا25
وهذه الأبيات على عكس الخطبة لا يشك أحد في نسبتها لطارق، ويذهب ابن سعيد أن هذه الأبيات مما يكتب لمراعاة قائلها ومكانته لا لعلو طبقتها ويذهب ابن بشكوال "إن طارقًا كان حسن الكلام ينظم ما يجوز كتبه" فهي منسجمة مع المعانِ الإسلامية26، فالمصادر تذكر أن هذه الأبيات من قصيدة لكنها لا تذكر القصيدة كاملة، ومن هذا المنطلق احتج الكتاب على إن الخطبة ليست لطارق، لأنهم لا يعرفون أسلوبه في الكتابة، كذلك المصادر لا تذكر الشيء الكثير عن طارق وحياته، ولا تنقل القصيدة التي قالها في الفتح وأغلب المصادر التي ذكرت الفتح لا تذكر الخطبة وإن ذكرتها فبشكل مبتسر، وأغلب الالتباسات كانت في أن طارق لا يجيد العربية لكنه دخل الإسلام في وقت مبكر وتعلم العربية كما ذكر صاحب الإعلام وهو من الرجال الثقة، ومقابل هذه الآراء التي وهمت بنسبة الخطبة لطارق والتي نرى بها أنها ادعاءات من أجل شهره وأهمية النص لا أكثر فاغلب المرتابين أسماء غير معروفه ربما أردوا الشهرة لأنفسهم على حساب نص طارق، فتوجد على النقيض منها أراء نسبت الخطبة له منها رأي عبدالله كنون الذي يذهب إن كان أصل طارق بربري فأنه قد نشأ في حجر العروبة وبالإسلام والمشرق، ويذهب أن أباه أسلم وأسماه اسم ليس من أسماء البرابرة، أما مسألة نبوغه بالعربية فهذا يرجع إلى أنه نشأ في بيت إسلامي عربي27، هذا ويذهب ابن عذاري إن طارق من أبوين من الإسلام وان والده أسلم من أيام عقب بن نافع لذلك شب طارق في بيت مسلم28، هذا فضلاً عن المصادر التي تنقلها وتثبت صحتها لطارق ومنهم ابن خلكان والمقري وأحمد زكي صفوت ومحمد عبدالله عنان وابن قتيبة الدينوري، ومن خلال الآراء المشككة والمؤيدة للخطبة نخرج بأن لم ينكر أحد من المرتابين وجود خطبة، لكنهم لا يرجحون أن هذا النص الذي بين أيدينا هو الخطبة الصحيحة التي ألقاها طارق وقد كان رفضهم منطلق من شكليات بحت فهم يرفضونها لأنها لا تناسب عصرهم من ناحية الأسلوب الذي كتبت بهِ، ولو نظروا من جانب آخر لصنفوا الأسلوب الذي كتبت فيه بأنه أسلوب مميز أسلوب اعتمد الترهيب والترغيب وفيه وعي عالِ، حقق وثبة في مجال كتابة الخطب، إذ اختزل الكثير باليسير من الكلام، وإما من أيد نسبتها لطارق ففي قبولهم ردًا على الاعتراضات المشككة والتي انصبت بصورة خاصة على أن طارق بربري فقد نشأ في بيت إسلامي وتعلم مبادئ الإسلام والعربية وكتب هذه الخطبة بعد أن نضجت تجربته الكتابية وبعد أن تمرس بأساليب الكتابة الشعرية والنثرية.
ونخلص إن الترهيب كان من الخسارة في المعركة، الضياع والفشل، والعار الذي سيلحق بهم إذا ما أخفقوا، والترغيب بما سيظفرونه المتمثل ببنات اليونان ورضا القائد، والملك ويتوجون أبطال وتخلد أسمائهم، وكذلك ثمة غنائم مادية تمثل بالأموال والأراضي التي سيكسبونها، والأهم هو رضا الله بإعلاء كلمته وإعلان الإسلام في هذه الجزيرة، هذا وأن ما وصل إلينا من أدب القرن الأول ضئيل جدًا، ويعتريه الشك والغموض لكنهم لم يفكروا بمضمون الخطبة انصب الرفض من منطلقات شكلية بحث لا أكثر فنلاحظ عدم شك المصادر التاريخية في فتحة للأندلس فهو القائد الفاتح للأندلس، ومن البديهي أن يلقي خطبة قبل بدء أي معركة، فهذه الخطبة صادرة من رجل قيادي يعرف كيف يقود معركة، وتوضح فطنة كاتبها الذي استعمل أساليب سابقه لأوانها فهو يرغبهم ويغريهم بأمور كانت منطقية، وبهذا يتضح أن المسميات الحديثة ما هي إلا إعادة نفض الغبار عن المفاهيم القديمة وتقديمها بحلة مغايرة.
الهوامش والمصادر:
1 - أصول الدعوة، عبدالكريم زيدان، مكتبة الانجلو، القاهرة 1975: 670.
2 - المصدر نفسه: 670.
* هو طارق بن زياد الليثي فاتح الأندلس أصلة من البربر، وهناك اختلاف في نسبة طارق إلى الإسلام، فمن الغريب أن الرواية الإسلامية لا تحدثنا عن فاتح الأندلس بشيء قبل ولايته لطنجة، بل إنها لتختلف في أصله وفي نسبته، فقيل انه فارسي من همذان، وقيل أنه من سبي البربر، وذكر أنه بربري من بطن من بطون نفزة، ويؤكد صاحب البيان أنه من بربري نفزة، كما يؤكد ذلك المقري في نفح الطيب، فهو مسلم بربري من قبيلة نفزة وهي البتراء. فبدليل ما تقدم يتضح أنه بربري، باتفاق أكثر من رواية، ويذكر أنه أسلم وتلقى الإسلام عن أبيه زياد عن جده عبدالله، وقد كان قائدًا عسكريًا ناجحًا، وقائدًا ممتازًا مخلصًا للإسلام ومتحمس لنشره، فهو جندي عظيم في غزوات المغرب عرف بفائق شجاعته وبراعته، وقدر موسى بن نصير مواهبه ومقدرته واختاره لحكم طنجة 89ه، وما يليها وهي يومئذ أخطر بقاع المغرب العربي الأقصى وأشدها اضطرابًا، ثم اختاره لفتح الأندلس. ينظر: الإعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، تأليف خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، ط5، بيروت 1980، المجلد الثالث، حرف الطاء 217. ينظر: دولة الإسلام في الأندلس، تأليف محمد عبدالله عنان، مكتبة الخانجي، ط 4، القاهرة 1997: 40. وينظر: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، لابن عذاري المراكشي، تحقيق ومراجعة ج.س. كولان وإ. ليفي بروفسنال، دار الثقافة، ط2، بيروت 1980، ج2: 6. وينظر: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تأليف الشيخ أحمد بن محمد المقري، تحقيق د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ج 1: 119. كذلك يرد وصف لطارق بن زياد في بعض المصادر التاريخية فيرد في الإمامة والسياسة: "إنه رجلاً طويلاً أشقر.."ينظر: الإمامة والسياسة، ابن قتيبة الدينوري، تحقيق علي شيري، دار الرضوان، ط1، بيروت 1990، ج 2 :74. ويورد صاحب النفح: "إن طارق كان ضخم الهامة.. "ينظر: نفح الطيب،ج1، 107. ويذكر انه كان طويل القامة ضخم الهامة، وهي صفات فيما يبدو بربرية، ينظر: صفحات مشرقة من التاريخ الإسلامي، د. علي محمد الصلابي، دار الإيمان، الاسكندرية 2003, المجلد الأول:311. ويذكر محمد عبدالله عنان "البربر حسبما شهدنا من التجوال في بعض ربوعهم بالمغرب، يكثر بينهم الطول والشقرة" ينظر: دولة الإسلام في الأندلس:41. وينظر: دولة الإسلام في الأندلس: 40. وينظر: التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى غرناطة، تأليف د. عبدالرحمن علي الحجي، دار القلم، ط 2، بيروت 1981 : 47.
3 - ينظر: الأدب العربي في العصر العباسي، د. ناظم رشيد: 154-157.
4 - ينظر:في الأدب الأندلسي, د. محمد رضوان الداية: 28 .
5 - ينظر: الأدب العربي في العصر الأندلسي، هناء دويدري, الموسوعة العربية.
6 - ينظر: النثر الأندلسي في عصر الطوائف والمرابطين، د. حازم عبد الله خضر: 68 .
7 - ينظر: وفيات الأعيان: 321 – 322.
8 - ينظر: نفح الطيب: 240 -241 , وهو النص الذي اعتمدته في دراسة الخطبة.
9 - ينظر:جمهرة خطب العرب: 314-315.
10 - ينظر:الإمامة والسياسة, ج 2, 106-107, لن نعتمد الخطبة من كتاب الدينوري لما يكتنف الكتاب من غموض وعدم صحة النسب للمؤلف.
11 - نفح الطيب: 240 .
12 - دولة الإسلام في الأندلس:49.
13 - ينظر: التاريخ الأندلسي:62.
14 - ينظر: جمهرة خطب العرب، احمد زكي صفوت، ج 2 : 314.
15 - الإعلام:217.
16 - ينظر: دولة الإسلام في الأندلس:48.
17 - نفح الطيب:240-241.
18 - المصدر نفسه:241.
19 - المصدر نفسه:241.
20 - ينظر: دولة الإسلام في الأندلس:47.
21 - ينظر: التاريخ الأندلسي:59.
22 - ينظر: المصدر نفسه :60–61.
23 - دولة الإسلام في الأندلس:47–48.
24 - ينظر: الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة:69–70.
25 - نفح الطيب:265.
26 - التاريخ الأندلسي:61.
27 - ينظر: النبوغ المغربي في الأدب العربي:23.
28 - ينظر: البيان المغرب في معرفة إخبار الأندلس ج 2 : 5.
تغريد
اكتب تعليقك