المعنى والإيقاع في الشعرالباب: مقالات الكتاب
مروة نبيل مصر |
ترجمة: مروة نبيل1
باتريك سوبيس2
هناك ثلاثة تعريفات رئيسية للمعنى. الأول- والأكثر صرامة- نجده في التعريفات "الصورية" للمعنى في الرياضيات؛ مثل تعريف العملية الثنائية لطرح رقمين حقيقيين من حيث العملية الثنائية الأولية للجمع، والعملية الأحادية للنفي، وصورة هذا التعريف:
x-y = x+ (-y).
أما المعنى الثاني- والأكثر شيوعًا- هو استخدام المعاجم، أو البحث عن معاني الكلمات في القاموس. وإذا كان هذان المعنيان كافيين كنظرية كاملة للمعنى؛ فإن الكثير من الأدبيات الفلسفية والنفسية حول المعنى يجب اعتبارها زائدة عن الحاجة؛ وليست ذات صلة.
قد أقول لصديق بصوت رافض: "أليس معنى فعلك واضحًا بالنسبة إليك؟"، وقد أقول في محادثة أخرى: "لم يسبق لي أن أتطرق إلى معنى تلك الموسيقى من قبل"، أو أقول في سياق آخر: "بدأت أفهم مؤخرًا المعنى الحقيقي للفضيلة في أخلاق أرسطو". سيتفق الجميع تقريبًا على أن معنى "المعنى" المستخدم في هذه الأقوال ليس أيًّا من المعنيين (الصوري والمعجمي)؛ لذلك سأرسم الآن المعنى الثالث للمعنى، "المعنى الترابطي"(2) Associative meaning، وهو المعنى المُطَبَّق على الشعر؛ فعندما أقول: "مؤخرًا فقط، أصبح المعنى الأعمق لهذه القصيدة واضحًا بالنسبة إلي مؤخرًا"؛ فإنني هنا بالطبع لا أقصد المعنى الصوري أو المعنى الموجود في المعجم. سأستخدم المعنى الأوسع "للمعنى الترابطي" المألوف لنا، وسأبحث عن "الترابطات" في المحادثات العادية، وفي الأفكار الخاصة الصامتة. وسيكون "المعنى الترابطي" على هذا النحو؛ جزءًا طبيعيًا من الحياة العقلية لنا جميعًا، بل وجزء من الطبيعية نفسها.
إن المحادثات العادية مليئة بالترابط، والسبب واضح في بداية أطروحة "هيوم"(3) في "الطبيعة البشرية" Human Nature؛ حيث أكد أن "الترابط" هو محرك العقل؛ بالطريقة نفسها التي يُنظر بها إلى الجاذبية كقوة تثير الحركة في النظام الشمسي وبقية الكون. ثم شهد "المعنى الترابطى" صعودًا وهبوطًا في آخر مئة وخمسين عامًا من علم النفس، لكنه استعاد مكانته الصحيحة من حيث الأهمية في "علم الأعصاب الحديث" Modern Neuroscience؛ إذ تُعتبر "الترابطات" Associations الآن جزءًا مهمًا من نشاط الدماغ البشري، كما أنها تُعد آليةً في التعلُّم؛ تختلف كثيرًا عن مقياس التطور التدريجي Evolutionary Development.
"الشبكة الترابطية" Associative Network التي تعد جزءًا أساسيًّا من أدمغتنا- والتي لن أصفها بمصطلحات عصبية Neural بل بمصطلحات نفسية Psychological معيارية- أقول أن لهذه الشبكة دور مركزي في معظم أنشطتنا العقلية. كما يعود الاعتراف بأهمية "الترابط" إلى "أرسطو"؛ وفي الفلسفة الحديثة جعله "هوبز"(4) مركزًا لنظريته في "العقل". ليس من الضروري إعطاء تاريخ للترابط في هذا السياق؛ بل تكفي الإشارة إلى ما هو حي ودقيق، وهو الأوصاف العقلية التي قدمها "هيوم" عن "العواطف" Passions، حيث تظهر نظريته في "الترابط" من نواح عديدة أكثر النظريات أصالة وتفصيلاً وتطويرا. وبشكل عام؛ فإن المعنى الأوسع للمعنى الترابطي: أي جلب "العواطف"- أو كما نقول الآن "المشاعر" Emotions- مرتبط بشكل خاص- من وجهة نظري- بأهمية الإيقاع في الشعر. النقطة التي أثيرها الآن هي أنني عندما سأتحدث عن الإيقاع والمعنى لن أقصر نفسي على "المعنى الترابطي" الذي يتميز بطابع "معرفي" بحت؛ فالترابط الذي أعنيه متحرر تمامًا من أي تمثيلات عقلية.
عندما أستمع إلى محاضرة حول "علم الأعصاب" أو "تاريخ المفهوم الأرسطي للشكل" يمكن أن يتجول ذهني بسلاسة ويرتبط بصور ومشاعر غير متوقعة مرتبطة بهذه الصور، عادةً لا تكون في "الإدراك الواعي" Conscious Awareness، إنها تكون للحظات؛ وسرعان ما تتلاشى؛ عندما أعود للتركيز على محتوى المحاضرة. إن هذا النوع الواسع من الترابط الحر هو المهم؛ لما هو مهم حول "المعنى" في الشعر.
أدافع عن تضمين "الصور الذهنية" Mental Images كجزء من معنى التعبيرات اللفظية، بالإضافة إلى أنواع أخرى من التجارب المختلفة. لن يتفق الجميع في الفلسفة أو علم النفس مع هذه الأطروحة القوية حول الصور؛ ومع ذلك، فإن غرائزي الأرسطية لا تميل فقط للمكانة المركزية للشكل، وبالتالي للصور؛(5) ولكن أيضًا لإحساسي العلمي بأنه بدون تماثل الأشكال التي تشكل الصور في الدماغ، من الصعب رؤية كيف يمكن للدماغ أن يعمل بسلاسة في التعامل مع العالم الخارجي. أما الأوصاف المجردة؛ التي تحل محل الصور؛ كما تخيلها بعض الفلاسفة؛ ليست موضوعية؛ بل مأخوذةً في ظاهرها. بينما "الصور الذهنية " بالنسبة إلي؛ مركزية لهذا المعنى الأوسع للمعنى الترابطي. وقراءتي للشعر مليئة بمثل هذه "الترابطات" الذهنية.
2 - الإيقاع:
يوجد الإيقاع في أشياء كثيرة، وفي العديد من العمليات. أغلب السمات الرئيسية للإيقاع في هذه السياقات المختلفة هي بعض المفاهيم المركزية عن "الدورية" periodicity؛ لكن لا يُمكن النظر إلى كل الظواهر الدورية على أنها ذات إيقاع؛ فمثلاً: من الغريب أن أقول "أن بندول الساعة جيدة الأداء كان له إيقاعًا جميلًا"؛ فليس لكل شيء منتظم في تواتره؛ الصفات البديهية التي نربطها عادةً بالإيقاع. لكن الفنون التي يتفق عليها الجميع والتي تتمتع بإحساس قوي بالإيقاع؛ أي "الشعر والموسيقى والرقص؛ تُظهر لنا أن مصدر الإحساس البشري القوي بالإيقاع؛ قد يرجع إلى الإيقاع الفطري للتنفس ودقات القلب. كذلك أنشطة أخرى يتجلى فيها الإيقاع كالمشي والجري. يتجلى الإيقاع بشكل خاص في الجري؛ ليس فقط في البشر؛ بل في الخيول والعديد من الحيوانات الأخرى؛ ومن أجل ذلك كله؛ لن ينجح أي تعريف صوري رياضي بسيط، في توضيح ماهية "الإيقاع"؛ ويظهر لنا أيضًا أن للإيقاع طبيعة نوعية؛ يمكن قياسها كَمْيًّا.
الاعتراف بالطبيعة "النوعية" الدورية للإيقاع اعتراف مألوف في جميع الثقافات. وعادة ما يقال أن هذا الاعتراف الواسع مشتق بشكل مباشر من إيقاع الكلام؛ ولذا فإن الموسيقى الصوتية - أي الغناء - يسهل التعرف إليها في كل مكان، وندرك جميعًا أصوات الطيور وأغانيها. كما يُعد إيقاع الغناء الجماعي، أو الترانيم، أو ضرب الأرض بالأقدام؛ من الظواهر الشائعة أيضًا؛ حيث يكون الإيقاع اجتماعيا وأكثر وضوحًا.
هناك علاقة بين "الوزن" Meter والإيقاع سواء في الموسيقى أو الشعر؛ بل وهناك تاريخ معقد من الجدل حول علاقتهما؛ وليس من الضروري الدخول في هذا الجدل هنا. لكنه من المقبول عمومًا أن الشعر التقليدي "الموزون" بقوة؛ أقرب إلى الموسيقى من الشعر الحر؛ على الرغم من أنه يمكن تحدي هذه الفكرة بالإشارة إلى عدم وجود "وزن" ثابت في كثير من الموسيقى الحديثة.
3 - أربعة أمثلة:
أعرض أولاً المقطعين (الأول والثاني) من قصيدة "ويليام بليك" "النمر" The Tyger؛ وهي واحدة من أكثر القصائد شهرة، كانت جزءًا من تجربتي في المدرسة. لكنني ما زلت أتذكرها لسبب خاص جدًا حدث في عام 1943، عندما كنت على متن سفينة في جنوب المحيط الهادئ، في طريقي إلى مقر عملي الجديد كخبير أرصاد جوية في سلاح الجو الأمريكي. رسونا وسط إعصار؛ وتم اتخاذ القرار بربط السفينة بالمرسى وانتظار العاصفة. بقينا ست وثلاثين ساعة على متن السفينة، كانت تجربة مرهقة؛ حتى بعد استكمال الرحلة؛ كانت الوحدات المؤقتة المخصصة لإقامتنا قد دمرها الإعصار بالكامل؛ فتطايرت جميع الخيام، وانقطعت الكهرباء، وانتشر الوحل في كل مكان؛ لذلك كان من واجبنا إعادة الخيام والتنظيف، والانتظار حتى يتحسن الطقس - وهو ما حدث بسرعة كبيرة - لكن الكهرباء ظلت مقطوعة لعدة أيام. كنا نجلس في المساء للعب الورق على ضوء بضع شموع، والقليل جدًا من القراءة. وعندما نتعب؛ كنا نتلو قصائد نتذكرها من الماضي. تذكرت أنا والبعض الآخر قصيدة "النمر" على وجه الخصوص؛ وبعد هذه السنوات العديدة؛ وجدت أنه من الممتع أن أنظر إلى إيقاع هذه القصيدة.
إن الإيقاع مثل الجمال؛ قد يتعرف عليه الجميع؛ لكن لا أحد يصفه بشكل مناسب. لم أكن صبورًا في أيام شبابي كفيلسوف على مثل هذا العجز عن وصف شيء ما؛ نما تسامحي مع مرور السنين، وأدركت أن العديد من الأشياء- إن لم يكن معظمها- بشري للغاية، مثل "الإيقاع". في قصيدة "النمر" قمت بتمييز أربع دقات أو مقاطع لفظية على السطر، بالإضافة إلى نمط الإيقاع أو "القافية". وأخذت من علم الأصوات في اللغة الإنجليزية "وزنًا" يتكون من تواتر مقطع لفظي عينه؛ ولذا قد تتضمن المخططات الأكثر تفصيلاً لهذا الوزن؛ أشكالًا مختلفة لتمييز وجود الإيقاعات وغيابها بين المقاطع المتواترة. هناك تحليلات جيدة ودقيقة لهذا الوزن، إلا أنها لا تربطه بالمخططات الأكثر تفصيلاً في علم الأصوات الحديث. فللنظر الآن إلى القصيدة:(6)
Tyger! Tyger! burning bright
In the forests of the night
What immortal hand or eye
Could frame thy fearful symmetry
***
In what distant deeps or skies
Burnt the fire of thine eyes
On what wings dare he aspire
What the hand dare sieze the fire
ومن المفارقات، أن ترابطاتي الآن بهذه القصيدة، وذاكرتي غير المكتملة عن "الترابطات" التي كانت لدي في عام 1943، تركز بالكامل تقريبًا على الجودة التنويمية للقصيدة، والتي أعزوها إلى الإيقاع القوي الواضح فيها. وهو نفس الإيقاع الخاص بالعديد من أغاني الأطفال المألوفة، فهي تشبه:
Twinkle, twinkle little star
How I wonder what you are.
قد تكون الذكريات غير الواضحة لمثل هذه الأمثلة المتراكمة في سن مبكرة؛ قد ساهمت في متعة تلاوتنا في تلك الأمسية؛ ويبدو أن المعاني المترابطة تتدفق بسلاسة من شيء معرفي ضيق للغاية؛ إلى شيء عاطفي وإيقاعي غالبًا؛ لذا فإن أي فصل للمعنى عن الحقيقة التجريبية أو الشعور سيبدو عشوائيًّا. حتى عبارة "المعاني الترابطية التحليلية" ستبدو غريبة. هذا لا يعني أنه لا يمكن التمييز بين أنواع مختلفة من المعاني الترابطية؛ ففي بعض الأحيان، تحدث هذه المعاني الترابطية صراحةً في القصيدة، وأحيانًا تترك للعالم الخاص، وغير المعلن؛ للمستمع أو القارئ.
هنا مثال من "وردزورث" Wordsworth. وسأقتبس قصيدته "تجولت وحيدا كسحابة" كاملة، والتي كتبها عام 1804(7)
"كنت أتجول وحيدًا مثل سحابة":
تحوم على الوديان والتلال،
حين وقع بصري فجأة على حشد،
جَمْعٍ من أزهار النرجس البرية الذهبية؛
إلى جانب البحيرة، تحت الأشجار،
تتمايل وتتراقص مع النسمات.
كانت تمتد، كما النجوم التي تلمع
وتومض في درب التبانة،
في خط متصل إلى ما لا نهاية
على امتداد شاطئ خليج.
بلمحة واحدة رأيت عشرة آلاف منها
تميل برؤوسها في رقص مفعم بالبهجة.
الأمواج بجانبها كانت ترقص. لكنها
فاقت الأمواج المتلألئة طربا.
لا يملك شاعر إلا أن يحس بالفرح
برفقة كهذه يغمرها المرح:
حدقت وحدقت، لكنني لم أدرك حقًّا
مقدار الثروة التي ساقها لي هذا الاستعراض:
إذ أنني حين أستلقي على الأريكة،
خالي البال أو متأملًا،
فإنها كثيرًا ما تومض فجأة
في تلك العين الداخلية
التي هي نعمة الخلوة
فتملأ قلبي حبورا،
ويرقص مع النرجس.
لاحظ في المقطع الأخير: أن "النرجس"- آخر كلمة في المقطع- هو مصدر الوميض على تلك "العين الداخلية" في السطر العاشر. واستخدام الشاعر لفكرة الوميض؛ وما تلاه من عبارات تكمل القصيدة؛ مثال دقيق للغاية؛ يصف كيف نكون مدركين بوعي؛ للترابطات التي تكون في الأساس غير واعية.
هذا مقطع قصير في نهاية رواية "جيمس جويس" "سهر فنيجان" Finnegans Wake 1939:
‘‘كل الحمقى والبؤساء وغير المميزين يلومون "عرافات البحر". لا، ولا لجميع رقصاتنا الجامحة، وكل ضجيجها الجامح. أستطيع أن أرى نفسي بين العرافات كشيء مُفَتَت. كم كانت جميلة تلك الأمازيغية البرية؛ عندما تمسك بصدري... "نيلونا" المتعجرفة؛ كم هي ساحرة، إنها ستنتزع الشعر. "عرافات البحر" هم العواصف. والتعليق، والشنق، وصدام صرخاتنا حين نثب ونكون أحرارًا’’
المعنى هنا زلق؛ لذا فإن مجموعة متنوعة من "الترابطات" تأتي بسهولة. لكن الإيقاع قوي أكثر من إيقاع العديد من القصائد. هذا ما أتذكره، الحال نفسه في قصيدة النمر.
كمثال أخير، والذي يولد "ترابطات" شخصية للغاية بالنسبة إلي؛ أقتبس بالكامل قصيدة للشاعر الإنجليزي "ستيفن رومر"(8) من مجموعته الأخيرة (Yellow Studio 2008)؛ كتبها أثناء مرض والده الميئوس من شفائه؛ أو بعد وفاته مباشرة.
"المفعم بالحماسة"
لا شيء يُنسيني عواطفي الأولى
تَستحوذ عليَّ طُوال الوقت؛
كل نزهة لأبي في الأَهْوار، كل مرة استمع فيها
إلى "الفونوجراف" اللاسلكي
في صالونه الخاص،
أو أسبوعيًّا في قاعة ألبرت.
في عمر السادسة عشر؛ قرر أبي أن المدرسة بغيضة؛
وأن لا شيء مهم إلا الموسيقى، وعلم الطيور، وولد اسمه "سترود"، والله.
بعد خمسين عامًا،
صمد بعض المتخصصين المخضرمين في "الوعي" و"الجينوم"-
على حد زعمهم- أمام احتجاج والدي
بأن شغف القديس "ماثيو باخ"
نتاج للدماغ البشري
مثل الأدوية أو الغسالة.
ولا يوجد شيء اسمه التدخل الإلهي
وأنا أتفق، بشغف، وغرور أكرهه الآن،
وأندم عليه.
لم يكن والدي يشبه والد "رومر" إلى حد كبير، ولكن بمجرد قراءة هذه الكلمات الشخصية؛ بدأت عملية الترابط عملها، واسْتَعدْتُ مجموعة من الذكريات الشخصية لوالدي الذي توفي منذ عام 1970. كانت المشاعر التي أثيرت شديدة للحظات. لكن وجود نوع التفسير العصبي الذي سأقدمه لاحقًا؛ لا يقلل بأي حال من الأحوال من المشاعر التي لدي حتى الآن؛ عند إعادة قراءة القصيدة.
4 -الشعر والعلم:
كانت إحدى مهام "علم النفس العلمي" Scientific Psychology فرز الأنواع الكثيرة من "الترابطات" الحرة التي تحدُث استجابةً للعديد من القصائد. إن كلمات القصيدة تثير "ترابطات" حية، وذات مغزى؛ داخل المستمع أو القارئ، وهي "ترابطات" شديدة الخصوصية؛ الشاعر ذاته لا يُمكنه توقعها على الإطلاق. نقطتي الخاصة هي أن أنماط كلمات القصائد لها ميزة، تؤدي إلى ظهور ما أعتقد أنه أهم وصف نفسي أو عصبي في الشعر: إن إيقاعات الكلمات تتماشى مع إيقاعات الدماغ. أو، يتم تثبيت عمليات الدماغ على إيقاع القصيدة، وغالبًا لا يلاحظ المستمع أو القارئ هذا الإيقاع بوعي.
في حالة الموسيقى؛ كثيرًا ما يكون لـ"حلقة قفل الطور"(9) Phase-Locked Loop مظهرًا سلوكيًّا واضحًا، سواء في الاستماع، أو التأرجح، أو الغناء على إيقاع الموسيقى. لكن إيقاع الشعر ينتج إيقاعًا في الدماغ. سؤالان يمكن طرحهما على الفور حول ما قلته توا: ما الدليل على أن الدماغ يتأثر بالإيقاع؟ وإذا كان هذا صحيحًا فما سبب ذلك؟ إجابتي يمكن العثور عليها في ملاحظة نوع الأنشطة العادية التي ذكرتها بالفعل؛ إننا جميعًا قادرون تقريبًا على الغناء والتصفيق والرقص - في الجو المناسب ومع الجمهور المناسب، ولدينا جميعًا إحساس بمتعة هذا. تأتي البيانات الواضحة والأكثر دقة حول ما أقول؛ عندما نستجيب لقدر كبير من الموسيقى الهادئة، التي تستدعي أقل قوة جسدية؛ إيقاع الشعر كإيقاع الموسيقي الهادئة؛ وإن لم يكن حاضرًا عالميًّا اليوم؛ بالطريقة نفسها التي توجد بها الموسيقى.
على مستوى أكثر عمومية؛ لقد تم التعرف على "إيقاع" الكلام، وتحليله والتعليق عليه، حتى قبل النُحاة السكندريين؛ ذلك حين لاحظ أرسطو أن إيقاع الكلام يبقى، حتى عندما لا يكون وزن الشعر موجودًا. وفي اليونانية القديمة، لم يُقاس الوزن بالمقاطع المتواترة؛ بل بالضربات المنتظمة. إليكم ما يقوله أرسطو:
"لأن كل الأشياء محدودة بالعدد، والعدد الذي ينتمي إلى شكل الإملاء هو الإيقاع، والأوزان هي تقسيمات؛ لذلك يجب أن يكون النثر إيقاعيًا، وليس موزونًا؛ وإلا فسيكون قصيدة. ولا يجب تنفيذ هذا الإيقاع بصرامة، ولكن فقط إلى حد معين. ومن بين الإيقاعات المختلفة، يكون "الشعر الملحمي" مفضلاً؛ لكنه يفتقر إلى انسجام المحادثة العادية؛ لذا فإن وزن الشعر "العمبقي"(10) The Iambic يشبه لغة الكثيرين، لذلك فهو يستخدم أكثر من غيره في الكلام العام" (أرسطو، فن البلاغة)
يؤكد العديد من المعلقين، والمدربين الرياضيين الجادين على أهمية الإيقاع في الأداء الجيد، سواء كان ذلك في كرة السلة أو التنس أو غير ذلك. بالطبع يذكر هؤلاء المؤكدين أهمية الجسد في إنتاج الإيقاع، لكن لا أحد يذكر الدماغ. ومع ذلك، يجب ألا يعتقد أحد منا أن التحكم في الإيقاع موجود في أي مكان في الجسم إلا الدماغ، وربما في النخاع الشوكي. لكن السؤال عن سبب استجابة الدماغ للمنبهات الخارجية الإيقاعية سؤال أعمق، وأكثر صعوبة.
قد أتبنى إستراتيجية "هيوم"، وأعلن أن "الترابط" صفة أصلية، لا يمكننا شرحها، تمامًا كما لا يمكننا تفسير الجاذبية. ولكن هناك ملاحظات يُمكنني قولها- والتي قد تكون موحية إن لم تكن قاطعة- أحدها بيولوجي: فالإيقاع موجود في كل مكان؛ ليس فقط في الحشود الراقصة في حفل موسيقي هنا وهناك، بل تتألق اليراعات كحفل موسيقي قبل وجود البشر، وقبل وجود أي أحد يستمتع بالموسيقى، كذلك تزقزق الآلاف من اليعاسيب في أمسيات الصيف. هذان مجرد اثنين من عدد هائل من الظواهر البيولوجية التي تُظهر إيقاعًا، لذا يعد الإيقاع- بشكل ما- جزءًا من سلوك جميع أنواع الحيوانات تقريبًا.
ملاحظتي الأخرى تأخذنا في اتجاه الفيزياء، حيث يُفترض أن العمليات التي تُظهر الإيقاع في الدماغ عمليات "كهربائية" Electrical، أو بمعنى أدق، عمليات "كهرومغناطيسية" Electromagnetic. هنا، أود أن أدعي- دون محاولة إثبات ذلك- أن كل الإيقاعات في الدماغ فوق مستوى "الخلايا الفردية" Single Cells. ربما أنها توجد- مع بعض الاستثناءات الكيميائية- في ظواهر الإشارات الكهرومغناطيسية.
الطريقة الأكثر تفصيلاً التي أفكر بها؛ هي أن العمليات "الترابطية" للدماغ هي مجموعات كبيرة من "المذبذبات"(11) Oscillators، كل منها يتكون من العديد من الخلايا العصبية الفردية، وحساب "الترابط" بمعناه الواسع الذي ذكرته على مدار البحث؛ هو نفسه نتائج حسابات "المذبذب". الأهم من ذلك هو "قفل الطور"، أو قدرة هذه المذبذبات- المقترنة ديناميكيًا ببعضها البعض-على تتبع الهيكل الزمني للصوت؛ هذه هي الآلية الحسابية الأساسية للترابط. وإذا كان الأمر كذلك؛ فلا عجب في أن "الدماغ" متوافق جدًا؛ مع المعاني "الترابطية" التي لها تعبير إيقاعي.
المصدر:
العنوان الأصلي للمقال:
"Rhythm and Meaning in Poetry"
مصدر المادة المترجمة:
Wiley Online Library
بتاريخ: 25 - 12 - 2009
رابط:
https://onlinelibrary.wiley.com/doi/full/10.1111/j.1475-4975.2009.00188.x
الهوامش
1 - شاعرة وباحثة دكتوراه من مصر.
2 - "باتريك سوبيس" (Patrick Suppes (1922- 2014، فيلسوف علم أمريكي.
3 - "ديفيد هيوم" (David Hume (1711- 1776، فيلسوف اسكتلندي، أحد فلاسفة "التجريبية".
4 - "توماس هوبز" (Thomas Hobbes (1588- 1679، عالم رياضيات وفيلسوف إنجليزي.
5 - يشير هنا "سوبيس" إلى الفكرة الأساسية التي تقوم عليها فلسفة أرسطو؛ وهي اقتران المادة (الهيولي) بالشكل (الصورة)، اقتران لا ينفصل.
6 - لم ندرج ترجمة مقطعي القصيدة؛ لأن "سوبيس" هنا يريد أن نلاحظ القافية في أواخر الأبيات، بينما ستعمل الترجمة العربية للمقطعين على إخفاء القافية والإيقاع المطلوب ملاحظتهما في هذا المحل.
7 - لتحري الدقة، نقلنا ترجمة "عبدالكريم بدرخان" لهذه القصيدة.. راجع: "ترجمات عبدالكريم بدرخان":
https://www.alqasidah.com/translator.php?translator=bdr5an
8 - شاعر أمريكي مواليد عام 1957.
9 - تشير "حلقة قفل الطور" إلى قدرة "الخلية العصبية" على مزامنة، أو تتبع الهيكل الزمني للصوت. أي أن في العصب السمعي؛ يمكن للألياف أن تقفل طورًا على ترددات أقل من 4 إلى 5 كيلو هرتز. ويكمن معنى "قفل الطور" في أساس القدرة على تحديد موقع الأصوات بناءً على اختلافات الحالة بين الأذنين، أهمها الاختلافات الزمانية الدقيقة. وقد تم اقتراح هذا المصطلح إشارة إلى آلية لترميز النغمة... راجع:
“Phase Locking”, APA Dictionary of Psychology,
https://dictionary.apa.org/phase-locking
10 - "العمبقي" نمط من أنماط وزن الشعر الغربي، خماسي التفاعيل، ولا تظهر قافية في أواخر أبياته.
11 - "المذبذب" عبارة عن دائرة تنتج شكل موجة مستمر، ومتكرر، ومتعاقب بدون أي مُدخلات. تعمل المذبذبات بشكل أساسي على تحويل تدفق التيار أحادي الاتجاه من مصدر التيار المستمر؛ إلى شكل موجة متناوب، يكون بالتردد المطلوب؛ وفقًا لما تحدده مكونات دائرته... راجع:
“Oscillators: What Are They? (Definition, Types, & Applications)”, by Electrical 4U, 2020,
تغريد
اكتب تعليقك