الذكاء والعبقريةالباب: مقالات الكتاب
د. وليد فتيحي |
اختلف حوله علماء النفس والفلاسفة منذ أقدم الأزمان، هل هو متوارث فطري أم هو مكتسب بيئي؟ هل هو إلهام؟ هل يولد به الإنسان أم أنه ثمرة العمل والجد والإتقان والإحسان؟..
اختلف علماء النفس منذ القدم فيما إذا كان النبوغ والعبقرية في الإنسان موهبة أم أنها أمرٌ يمكن اكتسابه، وقد كانوا يظنون سابقًا أن الذكاءَ الحاد والعبقري يأتي بسبب جينات وراثية خاصة من نوعها، وأن العوامل النفسية والتربوية والبيئية والجهود التي يبذلها الإنسان لتطوير ذاته هي عوامل محدودة الأثر ولا يرون أن الأداء العبقري في أي مجال من المجالات يمكن اكتسابه لأي شخص يرغب بذلك.
ولكن العلم الحديث والأبحاث والدراسات بدأت تُظهر لنا عدم صحة هذه النظريات، وأن كل شخص يمكنه تحقيق الأداء العبقري في المجال الذي يحب ويريد إذا عمل بما يكفي لتحقيق ذلك.
قبل أن نتحدثَ عن العبقرية التي تعرّف بأنها تمتع المرء بقدر من الذكاء عال يساعده على تحقيق منجزات باهرة في مجالات لم تستكشف من قبل، لا بد لنا أن نعرِّف الذكاء.. فما هو الذكاء؟
لا يوجد حتى الآن تعريف محدد متفق عليه للذكاء، فالذكاء بمفهومه العام يختلف من موقع لآخر، ومن بيئة لأخرى.. من المدرسة إلى العمل إلى الشارع إلى مجالات الحياة الأخرى. مما حدا إلى تطوير نظرية الذكاءات المتعددة، والتي تُعدُّ من أهم النظريات السيكلوجية والتربوية المعاصرة التي جاءت كرد فعل تصحيحي للنظرة القديمة السائدة القائلة بأحادية الذكاء والمعرّف بالذكاء الرياضي والمنطقي.
مؤسس نظرية الذكاءات المتعددة هو البروفيسور هاورد جاردنير (Howard E. Gardner) عالم النفس الأمريكي وأستاذ الإدراك والتعليم بجامعة هارفارد الذي أعاد النظر جذريًا فيما يتعلق بالذكاء وآثاره على التعلم والتعليم، وقدم نظريته الجديدة التي تقوم على أساس تميُّز الفرد عن غيره، وأن كل إنسان يتميز بذكاء خاصٍ به.
فالذكاءات متعددة ومتنوعة ومستقلة لدى المتعلم ويمكن صقلها وشحذها وتنميتها وتقويمها عن طريق التشجيع والتحفيز والتعليم والتدريب لتنمية المواهب وتحقيق العبقريات.
وبذلك فهي تؤمن بعبقرية المتعلم وقدرته على الابتكار والإبداع إذا روعي نوع الذكاء الذي يتميز به وتم التركيز عليه والاستثمار فيه.
ومن أنواع الذكاء، الذكاء اللغوي، وهو القدرة على استعمال اللغة المكتوبة الشفهية في الكتابة والنثر والشعر والخطابة مثل المتنبي والمنفلوطي ومصطفي صادق الرافعي وشكسبير وغيرهم كثير بمختلف اللغات وعلى امتداد الأعراق.
وهناك الذكاء الرياضي المنطقي كعلماء الرياضيات والمهندسين والفيزيائيين والباحثين مثل ألبرت أينشتاين والخوارزمي الذي أسس علم الجبر.
وهناك الذكاء الفراغي أو التصويري أو البصري وهو القدرة على تصور الأشكال والأشياء في الفراغ كالجراحين والرسامين والمهندسين.
وهناك الذكاء الشخصي الذي يفهم الإنسان من خلاله قدراته ويعرف جيدًا نقاط الضعف والقوة لديه، ويكون مستقلاً في تفكيره، وله إرادة قوية وينظم حياته بشكل ناجح وفعال، مثل المفكرين والمصلحين الاجتماعيين.
وهناك الذكاء الجسدي الحركي، مثل القدرة على التحكم بنشاط الجسم وحركاته بشكل بديع، وهي المهارة التي يمتلكها الرياضيون.
وهناك الذكاء الاجتماعي وهو القدرة التي يمتلكها الفرد في التواصل مع الآخرين، وفهم نياتهم ودوافعهم ورغباتهم، مثل السياسيين الذين يحظون بشعبية واسعة، والقياديين أصحاب الجاذبية الخاصة والكاريزما.
وهناك الذكاء الموسيقي، ومثال عليه أبو الفرج الأصفهاني مؤلف كتاب الأغاني في عصر هارون الرشيد، وأمثال بيتهوفين وموزارت. وهناك الذكاء الطبيعي والقدرة على التعامل مع الطبيعة من حيوان ونبات وتمييزها وتصنيفها واستعمالها كالمزارعين والصيادين والجيولوجيين.
وهناك الذكاء العملي اليدوي الميكانيكي الذي يتميز فيه الشخص بقدرته على التعامل مع الأجهزة والمعدات والآلات، ويُكتشف مبكرًا في مرحلة الطفولة، حيث يقوم الطفل بتفكيك اللعبة ثم إعادة بنائها.
واستحدثت أنواع جديدة من الذكاءات مثل الذكاء العاطفي وهو ما تحدث عنه د. دانيل جولمن (Daniel Jay Goleman) وهو القدرة على حث النفس وتحفيزها وتنظيم الحالة النفسية ومنع الأسى والألم من شل قدرة التفكير والقدرة على فهم الآخرين والتعاطف والشعور بالأمل.
وهناك الذكاء الروحي، وهؤلاء وجوههم عليها صفاء وروحانية من نوع خاص، تشعر بارتياح بالنظر إليهم، أمثال الكثير من القادة والزعماء الروحانيين وعلماء الدين، الذين لهم تأثير قوي على أتباعهم، ليس بلاغة وحديثًا أو قدرة على الحوار، إنما ما تشع به أرواحهم من نور وحب وطاقة إيجابية خيّرة.
وهناك الذكاء الحدسي (الحاسة السادسة)، فبعض الأشخاص لديهم قدرة خاصة على التوقع والتنبؤ بشكل لا يمكن تفسيره وإخضاعه للمنطق.
ولكن كيف يتحول هذا الذكاء إلى ذكاء عال وإلى عبقرية؟
إن أفضل نظرية تفسر حدوث العبقرية هي نظرية الدكتور أندروز أريكسون عالم النفس بجامعة فلوريدا الأمريكية، فبناء على الدراسات والأبحاث التي قام بها د. أريكسون على مدى عشر سنوات، فقد أكد أن أي فرد يمكن أن يصبح عبقريًا إن شاء ذلك، فالعباقرة يطورون عادة ذاكرة قوية لتخزين المعلومات ذات الأهمية لهم بطريقة فعالة في الذاكرة طويلة المدى، بحيث يمكن للذاكرة قصيرة المدى الاستفادة منها عند الحاجة.
ويؤكد أريكسون أن هذا النشاط غير العادي للذاكرة هو ما يميز المتفوقين النابغين في كل مجال، وهو نشاط يمكن تطويره واكتسابه.
وقد قام د. ناثالي زوريو مازوير عالمة الدماغ بجامعة كان بفرنسا بتحديد مناطق الدماغ التي تفعّل عند عبقري رياضيات اسمه رود يجيرجام، الذي يستطيع حساب أي رقم أقل من مائة بعد ضربه في نفسه تسع مرات، وتم استخدم جهاز دماغ متخصص (PET Scan) وقارنته بأناس عاديين يقومون بنفس النشاط العقلي في أثناء الحساب، فوجدت أن الجميع يستخدمون اثنتي عشرة منطقة مشتركة في الدماغ في أثناء الحساب، ولكن جام استخدم خمس مناطق إضافية، ثلاث منها أكدت البحوث العلمية أنها مرتبطة بالذاكرة طويلة المدى.
وبذلك بينت الدراسة أن جام يتميز بحفظ الطرق والنتائج والمعادلات الرياضية في ذاكرته طويلة المدى ليستخدمها بسرعة عند الحاجة. بل لم يولد جام بهذه القدرة الاستثنائية، بل كان شخصًا عاديًا، ولكنه بدأ في العشرين من عمره بتخصيص أربع ساعات يوميًا للتدريب على العمليات الحسابية.
ويؤكد د. أريكسون في نظريته بأن العبقرية يمكن أن تطور، فقد قام بتجربة قبل عشرين عاماً على مجموعة من الأشخاص في مختبره، وعمل على تطوير قدراتهم في مجال حفظ الأرقام العشوائية. والمتعارف عليه أن الشخص العادي يستطيع عادة حفظ سبعة أرقام عشوائية متتالية وترديدها، ولكن أريكسون استطاع زيادة هذه القدرة بعد عام من التدريب إلى ثمانين إلى مائة رقم متوالية.
دراسة أخرى قام بها عالم نفس مجري اسمه لازلو بولجار (Laszlo polgar) الذي ألّف كتابًا عنوانه "تربية عبقري" (Bring up Genius) عن كيفية تربية العباقرة وأراد تحدي النظرية التقليدية في تعريف العبقرية، فقد قام هو وزوجته بتدريب بناته الثلاث على لعب الشطرنج حتى أصبحن كلهن من أفضل عشر أبطال العالم في الشطرنج وإحداهن أصغر من يحصل على اللقب العالمي (Grandmaster) في تاريخ الشطرنج، مثبتًا أن التدريب وحده يمكن أن ينتج عباقرة في مجال معين.
ولكن هل كل طفل يتلقى نفس التربية يمكن أن يصبح عبقريًا. بينت الدراسات أن الطفل يحتاج عاملاً رئيسيًا وهو الرغبة الجامحة في التفوق، وهو شعور قد ينمو لدى الطفل في أثناء الساعات المكثفة التي يبذلها للتدريب في موضوع معين.
إذاً الأهم هو القدرة على المثابرة والصبر والعمل.. موهبة القدرة على العمل والإنجاز، وهذه تشكل بالبيئة والظروف والتربية التي يتعرض لها الطفل في صغره. وهذا متوافق مع ما قاله العالم والمخترع الشهير توماس أديسون أحد أعظم عباقرة العصر الحديث في وصفه للعبقرية بأنها 1 % إلهام و99 % جهد مضن، حتى موزارت Mozart لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه لولا التدريب المتواصل والجهد الكبير والعمل المضني والمثابرة والجد منذ نعومة أظفاره.
وهذا متوافق كذلك مع ما أكد عليه مالكوم جلادويل Malcolm Gladwell في كتابه أوت لايرز Outliers من أن أي شخص يمكن أن يصبح مبدعًا وعبقريًا إذا اختار تخصصًا يحبه ووضع عشرة آلاف ساعة من التدريب عليه، وأسماها قاعدة العشرة آلاف ساعة. وبذلك فالقاعدة تؤكد أن أي إنسان إذا استطاع أن يحدد أي نوع من الذكاء يمتلك.. الموهبة والملكة التي يمتلكها وكرس عشرة آلاف ساعة في التدريب، فإن علامات العبقرية والنبوغ والإبداع ستظهر عليه لا محالة.
في عام 1999م قام العالم وليام ديكنز William Dickens من معهد بروكنجز Brookings Institution في واشنطن بوضع نظرية وجدت إجماعًا شبه كامل بين علماء اليوم. تقول النظرية إن من كانت لديه صفة جينية متوارثة تعطيه أفضلية في مجال معين، فإنه سيبدع إذا سمح له بالاستمرار في ذلك المجال.
إن الشرط الأساسي لتحقيق العبقرية هو فهم الذات والإمكانات الفطرية التي يمتلكها كل إنسان وأي نوع من الذكاء يتميز به عن غيره.
إن الحكمة التي طالما جعلها الفيلسوف سقراط شعارًا له (اعرف نفسك) وقوله (ما نحن إلا ما نفعله مرارًا وتكرارًا)، فالإعاقة الحقيقية للإبداع والعبقرية هي إعاقة فكرية نفسية، هي الجهل بقدرات الإنسان وملكاته الطبيعية والتقاعس عن الاستثمار في تلك الملكات والمواهب الفطرية.
لقد وصف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الفاروق عمر بالعبقري، فقال (لم أر عبقريًا من الناس يفري فريه) أي لم أر سيدًا يعمل ويقطع عملاً بإجادة كما يفعل عمر. لقد كان سر عبقرية عمر أنه رجل عمل يسبقه نظر وتقدير. لم يكن رجل تنظير بل رجل تقدير وتخطيط وتنفيذ. عمل وجهد ومثابرة وإصرار وتحد، والأخذ بالأسباب عبادة لله الخالق الوهاب، فرارًا من قدر الله إلى قدر الله، فكان العبقري عمر رضي الله عنه وأرضاه.
لقد تعودنا في المدارس أن نعطي تقديرًا مرتفعًا للطالب المتميز في قدراته اللغوية والحسابية، وبذلك حددنا من يستحق التفوق والأولوية، لكن أين ذهبت بقية الملكات والقدرات الذكائية؟ قتلناها فهي خارج النطاق، نطاق الاهتمام والرعاية المدرسية، خاصة في مجتمعاتنا التي ترى الطاعة والخضوع والاستسلام قيم تربوية، فيخضع أبناؤنا لرؤيتنا ويتفوقون فيما نريده لهم بصرف النظر عن قدراتهم وملكاتهم وما يحبون. ودون هذا الحب لما يدرسون ويتعلمون ويفعلون يصعب عليهم أن يستثمروا الساعات الطوال من التدريب، كما تشترط قاعدة العشرة آلاف ساعة فلا يبدعون، ويقعون في الفخ الداخلي وهو التركيز على نقاط الضعف لإصلاحها وتجاهل نقاط القوة والاستثمار فيها.
لقد شاء الله أن يخلق الناس متنوعين وأن يخلق داخل كل نفس قدرات مختلفة، وهذا يعطي الحياة ثراءً ونموًا وتفاعلاً وتكاملاً قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) ولذلك جعل الله أوجه الذكاء متعددة، ويسر لكل إنسان بما أودعه من ملكات، فالإبداع مشروط بمعرفة الإنسان نفسه (من عرف نفسه فقد عرف ربه)، ومعرفة ملكاته وإمكاناته ومواهبه التي حباها الله إياه وتكريس الوقت الكافي لصقل هذه المواهب الفطرية وتحويلها إلى عبقريات. إنها كما وصفها أينشتين (كل إنسان عبقري، ولكننا إذا حكمنا على السمكة بقدرتها على تسلق الأشجار، فإنها ستعيش طوال عمرها وهي تعتقد أنها غبية).. فكلٌ ميسرٌ لما خُلِقَ لهُ.
تغريد
اكتب تعليقك