تعزيز الصحةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-05-10 05:09:46

د. وليد فتيحي

إن أعظم استثمار في أي مجتمع ودولة هو الاستثمار في الإنسان، فالإنسان هو مصدر الإنجاز والإبداع، وكل ما عدا الإنسان لا يعدو أن يكون أداة ومادة بين يديه، فإن أحسن مجتمعٌ الاستثمار في إنسانه   استطاع أن يُفعل المادة بين يديه، فلا يسع المادة إلا أن تستجيب لحركة الإنسان، ليتحول التراب بها إلى ذهب، والصحراء الجرداء إلى أشجار وثمار وجنان.. إنها قصة الحضارات على مر العصور والأزمان.

إن الإنسان جسد وعقل وروح.. ثلاثية متكاملة، وإهمال أي منها سيعوق الإنسان عن أن يقوم بدوره في بناء الحضارة. وقد جعل الله الجسد قالب العقل والروح، فإذا القالب انكسر أو أصابه الضرر أثر سلبًا على الإنسان بكليته ولذلك أوصى الخالق الإنسان أن يحسن الاستخلاف في جسده الذي وهبه الله إياه، وجعل الأخذ بأسباب صيانته وحمايته ورعايته من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، ومما يسأل عنه الإنسان يوم القيامة "وعن جسده فيما أبلاه". ولذلك فإن المسؤولية عن صحة الإنسان تقع على عاتقه نفسه أكثر مما تقع على عاتق الطبيب والفريق الطبي.

 إن ارتفاع وتضخم تكلفة علاج الأمراض في ازدياد مطرد في معظم الدول، وذلك نتيجة نمط حياة غير صحي وزيادة نسبة الأمراض تبعًا لذلك، مما ينذر أنه باستمرار هذا النهج في التعامل مع الصحة، فسيستنزف أكثر وأكثر من الدخل القومي، وستعجز معظم الدول عن تقديم العلاج لمواطنيها، فما هو الحل؟ كيف يمكن أن نوقف هذا النزف والزيادة المطردة؟

ليس هناك من حل إلا بتطبيق مفهوم تعزيز الصحة والذي يعرف بأنه عملية تمكين الأشخاص من السيطرة على صحتهم، مما يؤدي إلى تحسينها. إنها تمكين الإنسان نفسه من أن يحمي نفسه، ويقيها من أن يصبح مريضًا.

لقد أصبح تحقيق هذا المفهوم هو هاجس المخططين الجادين والمنفذين الصحيين في شتى أرجاء العالم.

آلاف الدراسات تؤكد أن برامج تعزيز الصحة فعالة جدًّا على المديين البعيد والقريب على السواء.

وبناء على دراسات مستفيضة تم تحديد مجموعة من التدخلات الوقائية، التي كان لها أكبر مردود وعائد استثماري على المجتمع والفرد والدولة، ومنها التدخين والسمنة والتطعيمات والفحص الدوري لبعض الأمراض: كالأمراض السرطانية للثدي والقولون، ففي دراسة نشرت عام2011 في مجلة Journal Contemporary Economic Policy وجد بعد تحليل ودراسة المعلومات ما بين عامي 1991م  و2007م أن دعم برنامج الحماية من التدخين والإقلاع عنه يمكن أن يوفر ما بين 14 و20 ضعف تكلفة البرامج، وذلك بخفض تكاليف العلاج والأمراض التي يسببها التدخين كالذبحات القلبية والجلطات الدماغية والأمراض الصدرية والسرطانية.

وفي دراسة نشرت في فبراير 2005م في مجلة American Journal of Public Health وجدت أنه لو تم استثمار فقط أقل مبلغ مقترح من قبل CDC -enter for Disease Control-  فإن انخفاض التدخين في الشباب والمراهقين فقط سيخفض تكلفة العلاج بما يزيد عن 31 بليون دولار.

وبهذا الإدراك استطاعت بعض الدول الصناعية الجادة خلال عشرين عامًا ببرامجها الفعالة خفض نسبة التدخين من 45% إلى أقل من 20% والتركيز على المدخنين من الأطفال، ومثال ذلك أمريكا ففي عام 2014م بناء على إحصائيات CDC (Center for Disease Control) انخفضت نسبة المدخنين لتصبح  20% فقط في الرجال و14.5% فقط من النساء بعد أن كانت أكثر من 40% قبل عقدين من الزمن.

وفي دولة مثل أستراليا حيث عدد سكانها أقل بقليل من عدد سكان المملكة العربية السعودية، بينت دراسة أسترالية نشرت في 21 أغسطس عام 2008م أن كل دولار يستثمر في البرامج المكثفة في مكافحة التدخين أدى إلى خفض تكلفة العلاج الطبي بأكثر من سبعين دولارًا على مدى العمر، وأنه لكل عشرة آلاف يقلعون عن التدخين يتم وقاية 500 شخص من سرطان الرئتين  و600 شخص من الذبحات الصدرية و130 شخصاً من جلطات الدماغ و1700 شخص من أمراض الجهاز التنفسي والرئتين.

وكذلك الحال في السمنة التي تؤدي إلى الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني والذبحات الصدرية والجلطات الدماغية وكثير من الأمراض السرطانية.

وصلت النفقات الطبية المرتبطة بالسمنة في أمريكا إلى 90 بليون دولار في السنة أو ما يعادل 9% من مجموع الإنفاق على الصحة وإلى أكثر من 270 بليون دولار في السنة إذا أضفنا إلى الرعاية الصحية الخسارة في الإنتاج بسبب الأمراض والوفيات الناتجة عن السمنة.

وفي دراسة تحليلية عرضت في المؤتمر الذي عقد في واشنطن تحت رعاية CDC (Center for Disease Control) وباحثين من جامعة ديوك Duke University بينت أن تحقيق انخفاض في نسبة السمنة بـ 1% فقط سيؤدي على مدى عقدين من الزمن إلى خفض تكلفة العلاج الطبي بما يزيد عن 85 بليون دولار، علمًا بأن أعلى نسبة سمنة في العالم هي في الكويت وأمريكا والسعودية، بناء على إحصائيات منظمة الصحة العالمية لعام 2011م فإن 70% من الرجال و80% من النساء في الكويت، و80% من الرجال و76% من النساء في أمريكا، و63% من الرجال و66% من النساء في السعودية مصابون بزيادة الوزن.

وفي مسح ميداني قام به فريق من الحملة الوطنية لمكافحة السمنة في جامعة الملك سعود في السعودية  بمراجعة إحصائيات السمنة في المملكة بين عامي 2009م إلى 2011م أظهرت الدراسة ارتفاعًا ملحوظًا في نسبة السمنة وزيادة الوزن في السعودية، حيث إن 18 مليون سعودي مصابون بهذا الداء، أو بنظرة أخرى، فإن المصابين هم 3 أشخاص من كل 4 أشخاص.

وتنفق السعودية أكثر من 19 مليار ريال على علاج المرتادين للمستشفيات لعلاج الأمراض التي تسببها زيادة الوزن والسمنة.

وأوضحت الدراسة أنه بالرغم من أن السمنة ومضاعفاتها في السعودية تؤدي إلى 20 ألف وفاة وخسارة أكثر من 19 مليار ريال سنويًا إلا أنه لم يبدأ بعد الاستثمار في محاربة السمنة، ولا توجد خطة وطنية شاملة لمحاربة السمنة في السعودية.

وفي دراسة قام بها مركز فيليبس Phillips Center على الصحة في الإمارات في عام 2010م وجد أن هناك تناقضًا كبيرًا بين إدراك الإنسان لمظهر جسده وحقيقة هذا المظهر، فـ 75% من الأشخاص في الدراسة أجابوا بأن أوزانهم طبيعية، في حين أن 30% منهم فقط أوزانهم طبيعية، والباقون مصابون بزيادة الوزن، وقد عزا الباحثون أحد أسباب ذلك إلى الزي العربي كالثوب والعباءة اللذين يسهمان في حدوث سمنة متبطنة مختبئة.

إن ما يجعل الأمر أكثر خطورة في العالم العربي هو أن الأطفال يمثلون الشريحة والفئة الأكبر عددًا، حيث تصل نسبتهم إلى 50% من عدد السكان في بعض الدول، فإذا كانت نسبة السمنة والتدخين في العالم العربي من أعلى الدول في العالم، فماذا سيحدث عندما يتحول سكان هذه الدول من أطفال إلى بالغين، ويتحول البالغون إلى مسنين على مدى العقدين القادمين من الزمن؟ بالطبع ستتضاعف الأمراض الناتجة عن السمنة والتدخين مثل الذبحات الصدرية والجلطات الدماغية والأمراض السرطانية، مما سيؤدي حتمًا إلى استحالة تغطية علاج هذه الأمراض، وبذلك ستستنزف موارد الدخل القومي في علاج الأمراض.

إن مفهوم تعزيز الصحة هو المفهوم الشامل الصحيح للتعامل مع صحة الإنسان. إنه تمكين الأفراد من زيادة قدراتهم على التحكم في صحتهم والمحافظة عليها مع الدعم الاجتماعي والاقتصادي والبيئي من خلال عمليات تمكين تعاونية تشاركية وسياسات وخطط عمل وبرامج وأنشطة متكاملة تشمل البيت والمدرسة والجامعة والشارع لتحويل المعرفة والمعلومة والثقافة الصحية إلى سلوك وأسلوب ونمط حياة، وبذلك فهو أشمل وأعم من مفهوم التوعية الصحية القديم. إنها الاستثمار في الإنسان لتعزيز الأنماط الصحية في حياته، لتصبح جزءًا من طبيعة سلوكه وثقافته. وكيف لا يكون هذا أكثر الاستثمارات عائدًا للفرد والمجتمع والدولة، علمًا بأن 80% من الأمراض تكمن في السلوك الإنساني غير الصحيح من غذاء غير صحي وسمنة وتدخين وإهمال الحركة والرياضة والنظافة، والجهل في التعامل مع التوتر والإجهاد وغيرها كثير.

لقد غيرت منظمة الصحة العالمية تعريف الصحة، ليصبح حالة من المعافاة الكاملة بدنيًا ونفسيًّا وروحيًّا واجتماعيًّا، ولم يعد تعريف الصحة يقتصر على الخلو من المرض أو العجز كما كان في السابق.

وبالرغم من كل الدراسات والإحصاءات التي تؤكد خطورة عدم الأخذ بأسباب تطبيق مفهوم تعزيز الصحة على مستقبل الفرد والمجتمع في الدول، إلا أننا نجد أن كثيرًا من الدول العربية ما زالت تعيش في عالم التعريف القاصر السطحي الضيق للصحة، فتضخ جل ميزانياتها لبناء المستشفيات، لعلاج الأمراض، وكلما انتهت من بناء مجموعة أدركت أن التسارع في الطلب قد تعدى قدرتها على بناء المستشفيات وتغطية العجز بغض النظر عن ضخامة ميزانياتها، بل وكذلك سرعة تنفيذها للمشاريع.

إن العجز الحقيقي هو في فهم وتطبيق مفهوم تعزيز الصحة لبناء ثقافات صحية لعلاج السلوكيات غير الصحية في المجتمع، وتفادي الأمراض قبل حدوثها، وهذا هو المفهوم الوحيد الذي سيحدُّ فعلا من التسارع لبناء المستشفيات لعلاج الأمراض الناتجة عن السلوكيات غير الصحية.

إنه التحول من مفهوم علاج المرض إلى المحافظة على الصحة، ومن عيادة المرضى إلى عيادة الأصحاء.

كل دولة تحتاج خطة شاملة لتعزيز صحة إنسانها وتوجه إستراتيجي للوقاية من الأمراض المزمنة، التي يمكن الوقاية منها، والإصابات التي يمكن تفاديها عن طريق توجيه سلوكيات إنسانها إلى سلوكيات صحية وإيجاد بيئة صحية تساعد على تحقيق ذلك.

وبذلك لا تكون الشريحة المستهدفة هي الأشخاص المرضى فحسب، وإنما الأصحاء عامة، والمحافظة على صحتهم والمهددون بالأمراض المزمنة والإصابات بسبب سلوكياتهم وعاداتهم غير الصحية.

إن بناء شراكات قوية متعاونة هو نقطة محورية ومركزية من أجل تطبيق الخطة الإستراتيجية لتعزيز الصحة.. شراكات تُدعَمُ بتطبيق سياسات صحية على جميع المستويات، وتفعيل قطاعات واسعة في المجتمع كالصناعية والتعليمية والترفيهية ومنظمات غير حكومية وكل قطاعات ومستويات الدولة وسن القوانين ووضع النظم والتدخلات الاقتصادية، لتكوين بيئة معيشة وعمل وحياة تدعم السلوكيات والعادات الصحية.

ومن أمثلة هذه الشراكات دور وزارة التعليم في تضمين مفهوم تعزيز الصحة في جميع مناهجها الدراسية، ودور وزارة الإعلام بتكثيف برامج التعليم والتثقيف والتوعية الصحية بطرق مبتكرة وفعالة، وكذلك دور وزارة التجارة في وضع سياسات وقوانين تكافئ العادات الصحية (كالمطاعم التي تمنع التدخين تمامًا) وتغرم العادات غير الصحية (كرفع الضرائب على السجائر)، وتخصيص عوائد هذه الضرائب بالتنسيق مع وزارة الإعلام في التوعية والتثقيف والتحذير من مضار التدخين ومحاربته.

 ودور الكليات الطبية في تعديل المناهج لجعل جوهرها تعزيز الصحة من أجل أن نغير نمط التفكير التقليدي عند الأطباء المتخرجين من خلال المناهج التقليدية.

ودور وزارة الصحة في مكافأة الطبيب المعالج على النتائج الصحية التي حققها مع مرضاه كما تفعل الصحة في بريطانيا، كمثال ربط المكافآت السنوية بمعدل ضغط زيارات المرضى، وكذلك مؤشرات الصحة الرئيسية الأخرى، ولا ننسى دور الوالدين والتركيز عليهما في برامج التوعية الصحية.

ومن أهم الأهداف القومية الأخرى، العمل على رفع إحساس إنسان المجتمع بقيمته، فالاهتمام بالصحة هو انعكاس لهذا الإحساس. وكذلك إنشاء بنك ومركز معلومات صحي قومي، ففي غياب المعلومة الصحيحة الدقيقة سيصعب التشخيص والتقييم الدقيق ومن ثم العلاج والتقويم الصحيح.

إن أهم نقطة في هذا التطبيق هي وضع أهداف من أجل خفض الأمراض المزمنة والإصابات وقياس الإنجاز مقارنة بمؤشرات الأداء والإنجاز الرئيسية المحددة مسبقًا، وإلزام القائمين عليها في الدولة بتحقيق هذه المؤشرات التي تم تحديدها والموافقة عليها مسبقًا لتصبح هدفًا واتفاقية قومية، وتقييم فعالية كل تدخل لخفض الأمراض المزمنة والإصابات باستخدام معايير كمية أو نوعية (كيفية) أو كلاهما، حسب التدخل المراد قياسه وتقييمه.

فعلى سبيل المثال قد يكون أحد مؤشرات الإنجاز خفض التدخين بنسبة 35% خلال خمسة أعوام بمعدل 7% كل عام، وفي كل عام يتم تقييم الإنجاز وتعديل التدخلات بناء عليه.

إن التعامل مع صحة الإنسان على مستوى أي دولة يبدأ بإدراك أن المشكلات الصحية معقدة، لأنها نتاج تأثير البيئة الاجتماعية والثقافية والمادية الطبيعية على السلوكيات، ونظرة الإنسان لنفسه وتقييمه لذاته، لذلك فلا بد للحلول أن تكون شاملة ومتكاملة ومحددة في خطط طويلة المدى، ومشاركة فاعلة حقيقية أبعد بكثير من الدائرة الصحية المباشرة. 

إنها معادلة واضحة جلية إن لم نفهمها اليوم ونطبقها فسندفع ثمن تقاعسنا غاليًا في المستقبل القريب، بل إننا ندفعه اليوم وسيدفعه أبناؤنا وستدفعه أوطاننا أضعافًا مضاعفة، وسيؤدي لا محالة إلى خنق التنمية واستنزاف خيرات الشعوب التي غفلت عن الاستثمار الصحيح في مراحله المبكرة. إنه الاستثمار في البشر قبل الحجر.. فلنبدأ بالإنسان.


عدد القراء: 6371

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-