نهضة التعليمالباب: مقالات الكتاب
د. وليد فتيحي |
وشاء الخالق أن تكون المعجزة همسة في الغار، لم يسمعها الله إلا لنبي آخر الزمان. إنها أول أمر.. أول فرض نزل به القرآن، فأصبحت شعار أمة.. (أمة اقرأ).. إنها ثورة العلم على الجهل.. أمة أدركت أن الأخذ بالعلم من أسمى صور العبادة للرحمن.. أمة أخرجت بالعلم العلماء، فتحقق بهم أسرع وأغرب طفرة حضارية في تاريخ الإنسان. إنها البداية.. إنها النهاية، وكل ما بين البداية والنهاية يذكرنا بأول كلمة نزل بها القرآن.
يقول المفكر الجليل مالك بن نبي في كتابه (شروط النهضة) «إن الحضارة إنسان وتراب وزمن، وبذلك فإنه عند نقطة الانطلاق ليس أمامنا سوى هذه العوامل الثلاثة وفيها ينحصر رأس مال الأمة الاجتماعي، وكل ما عدا ذلك من مبان وصناعات، يعد من المكتسبات لا من العناصر الأولية».
إن المحور الأساسي للعوامل الثلاثة هو الإنسان، وبه تعرف الحضارة بأنها جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره.
والمجتمعات إما أن يغلب عليها روح عالم الأشياء أو يغلب عليها روح عالم الأشخاص والأفكار، فإن غلب عليها روح عالم الأشياء، فإنك تجد الاستثمار في الحجر أكثر من الاستثمار في البشر، وإن غلب عليها روح عالم الأفكار، فإنك تجد الاستثمار في البشر أكثر من الاستثمار في الحجر.
وقد أدركت المجتمعات بالدراسات والأبحاث أن أفضل استثمار يكون في المراحل الأولى من حياة الإنسان، أي مرحلة الدراسة، خاصة في المجتمعات التي يشكل الشباب فيها الأغلبية.
وقد أكدت الدراسات التي منها دراسة كل من McCartney في عام 2009 وكذلك دراسة Lawrence J. Schweinhart في عام 1993م أن كل دولار يستثمر في مراحل التعليم الأولية يدر عائدًا على الاستثمار يصل إلى 17 دولارًا أي سبعة عشر ضعفًا.
تؤكد الدراسات أن أهم عامل في نجاح منظومة التعليم في المدارس هو المعلم، وأن المعلم المتمكن الفعال يؤثر على تحصيل الطالب بمقدار 3 إلى 4 أضعاف معلم آخر ضعيف غير فعال، وأن التأثير التراكمي على مدى ثلاثة أعوام يعادل تحصيل %37 مع المعلم غير الفعال، مقارنة بـ %90 مع المعلم الفعال المتمكن.
وفي فيلم وثائقي بعنوان (في انتظار سوبرمان) (Waiting for Superman) أنتج عام 2010م بين أن نفس الطالب بين يدي معلم فعال متمكن يستطيع أن يحصل على ثلاثة أضعاف العلم مقارنة بالمعلم غير الفعال الضعيف، أي أن تحصيل عام واحد مع معلم فعال أفضل من تحصيل ثلاثة أعوام مع معلم غير فعال.
وبذلك أصبح التحدي الحقيقي الذي يواجه النظام التعليمي أو منظومة التعليم هو كيفية رفع مستوى الملايين من المدرسين، أو: هل هناك طريقة نستطيع بها أن نحرر التعليم لنجعل الطالب يمتلك مفاتيح المعرفة في أي مكان وأي وقت يريد؟ وأن تكون المعلومة متاحة للكل بأفضل طرق إيصالها وشرحها؟ وأن نحمي الطالب من أن يصبح رهينة وضحية معلم غير فعال؟
من أوائل من تنبه إلى هذا الاحتياج ولبى نداء الحاجة شاب أمريكي من أصل هندي اسمه سلمان خان عرف بتفوقه وحصل على درجة الكمال في امتحان السات SAT ويحمل ثلاث درجات من معهد ماساتشوتس Massachusetts Institute of Technology) MIT) وماجيستير في الهندسة وعلوم الحاسب الآلي، وكذلك ماجستير من كلية هارفارد للأعمال.
بدأت القصة في أواخر عام 2004م حيث بدأ في تدريس مادة الرياضيات لأقارب له عبر الإنترنت وعندما زاد طلب الأقرباء والأصدقاء للمساعدة، قرر توزيع الدروس على موقع يوتيوب وأنشأ عام 2006م حسابًا على اليوتيوب، وبسبب شعبية الفيديوهات المعروضة وشهادات التقدير التي تلقاها من الطلاب، قرر سلمان ترك عمله كمحلل مالي في صناديق الاستثمار في أواخر 2009م وتفرغ لتطوير قناة أكاديمية خان على اليوتيوب بدوام كامل.
واليوم تعد أكاديمية خان التعليمية أشهر نموذج عالمي في هذا المجال، فتقوم بتوفير التعليم عالي الجودة لأي شخص في أي مكان في العالم. وقد حققت أكثر من 42 مليون زائر، ويوفر موقعها على الإنترنت أكثر من ثلاثة آلاف وستمئة محاضرة صغيرة بمعدل عشر دقائق للحلقة عبر فيديوهات مخزنة على اليوتيوب لتدريس مواد مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء والتاريخ والفلك والاقتصاد، إضافة إلى أكثر من 123 وحدة تدريبات آلية مع تقييم مستمر.
وقد ابتعد خان عن أسلوب المدرس الذي يشرح الدرس على السبورة بتقديم المحتوى بطريقة توحي بالجلوس بجانب الطالب والعمل معه على حل المشكلة، فلا يرى الطالب وجه المدرس إنما يرى كتابته ورسوماته البيانية على السبورة الإلكترونية والفيديوهات التعليمية، حيث بينت الدراسات والمشاهدات أن هذه الطريقة هي أكثر الطرق فعالية للتعليم، وبذلك يستطيع الطالب إعادة تشغيل الفيديو حتى يستوعب الموضوع بلا خجل، وأحدث خان تحولاً وثورة حقيقية في العملية التعليمية حول العالم.
أحدث خان هذا التحول لأنه انتقل من التعليم التقليدي التلقيني إلى التعليم التفاعلي النشط والذي بينت الدراسات أنه يزيد من استيعاب الطلاب للمادة بنسبة تتعدى خمسين بالمئة، نظرًا لقدرته على تفعيل أجزاء الدماغ المسؤولة عن الفهم والحفظ بطريقة أكثر فعالية، وذلك لانسجامه مع الطريقة الطبيعية الفسيولوجية لانتقال المعلومات في أجزاء الدماغ في عملية التعلم.
ويتطلع خان لأن يجعل من أكاديميته المدرسة الافتراضية الأولى المجانية في العالم، حيث يتاح لأي إنسان أن يتعلم ما يريد بالمجان، وقد استحق خان بذلك أن تصنفه مجلة (التايم) كواحد من مئة شخصية عالمية أثرت بفعالية في حياتنا المعاصرة.
نموذج آخر حذا حذو أكاديمية خان فأنشئ عام 2009م موقع إلكتروني من قبل ريتشارد لادلو Richard Ludlow وأطلق عليه اسم أكاديمية الأرض (Earth Academy) والذي يقدم فيديوهات محاضرات مجانية عبر الإنترنت على أيدي نخبة من الأساتذة من جامعات مرموقة مثل:
هارفارد وإم آي تي وبرينستون وميتشجان وستانفورد وكاليفورنيا وباركلي وييل
Harvard,MIT,Princeton University ,University of Michigan ,Stanford University ,University of California ,University of California,Berkeley ,Yale University
وفي عام 2011م بدأت تركيا بتطبيق أكبر مشروع استثماري في التربية والتعليم في تاريخها بقيمة 7 مليارات، وأطلق عليه اسم مشروع (الفاتح) تيمنًا بالقائد العظيم محمد الفاتح، ليتم توزيع القارئ الإلكتروني (آي باد) مجانًا مشمولًا ببرنامج الفاتح على 15 مليون طالب ومليون مدرس وتركيب ألواح ذكية بدلًا من الألواح السوداء في 570000 صف دراسي و42000 مدرسة.
ونقل التعليم في تركيا إلى عصر التقنية، لتصبح الكتب الدراسية كلها مضمنة في جهاز الآي باد بالفيديوهات التوضيحية والصور والخرائط والرسوم البيانية. وبذلك يأتي الطالب إلى المدرسة ومعه الآي باد فقط، لا عشرات الكتب التي ترهق كاهله، وتؤدي لأضرار جسدية في الظهر والعمود الفقري خاصة في المراحل الأولى كما تبين الدراسات.
أما في عالمنا العربي فقد تم إنشاء أكاديمية التحرير في عام 2012م بعد ثورة 25 يناير بمصر بمجهودات شبابية على غرار أكاديمية خان من خلال جهود الشاب المصري وائل غنيم وشعارها (ثورتنا على المعرفة التقليدية) وتهدف إلى تحرير المعرفة من شكلها التقليدي عن طريق فيديوهات مبتكرة وجذابة ومنهج مجاني على اليوتيوب، مما يساعد على إتاحة العلوم للجميع في أي وقت ومكان وأي جهاز ورفع فعالية التعليم، وهي تعتمد على الأنظمة المفتوحة التي تزدهر بإسهامات جميع المشاركين وتسعى لأن تصبح النسخة العربية من أكاديمية خان العالمية في جميع التخصصات.
نعود للمعلم والذي يعد من أهم عوامل إنجاح المنظومة التعليمية.. ما هو تأثير تطبيق هذه البرامج التعليمية عليه؟ وما هو دوره؟ إنه من الصعب أن نرتقي بملايين المعلمين في بضع سنين إلى المستوى الذي نأمله.
وبما أن هناك مجموعة من المعلمين المتميزين المبدعين ذوي الملكات الخاصة والقدرات الفائقة في التدريس بأسلوبهم الشيق الذي يأسر الطلاب ويوصل المعلومة لهم بكل سلاسة ويسر، وبما أنهم ندرة، فإذا تم تفعيل هذه الندرة المبدعة في تدريس هذه المواد بأحدث الطرق التقنية والوسائل التوضيحية المتقدمة والفيديوهات وتم تغطية كافة المواد من الابتدائي إلى الثانوي وضمنت في جهاز آي باد، فليس الطالب وحده هو الذي سيستفيد وتزداد فعاليته وتحصيله الدراسي، وإنما الأساتذة أيضًا سيتعلمون..
سيتعلم الأساتذة من الشرح النموذجي، ليصبح هذا الشرح المسجل هو المثال والقدوة لملايين المعلمين، وهذا أكثر فعالية وتأثيرًا من أي دورات تدريبية تقليدية، ويصبح المعلم حريصًا على أن ينافس في الأداء مع الشرح النموذجي الذي بين أيدي الطلاب، ويصبح الطالب حارسًا على جودة التعليم فلا يقبل بأقل مما يرى، ونقدم كذلك لأولياء الأمور خيار المساهمة والمشاركة في المراجعة والشرح بكل يسر وسهولة دون اللجوء إلى الدروس الخصوصية في المنزل، فالمنهج متاح بين أيديهم في أجمل صوره وأكثرها فعالية بالصوت والصورة.
بل سيصبح المعلم أكثر فعالية، حيث إن الطلبة سيأتون وقد استمعوا إلى الدرس، ويصبح دور المعلم ليس إعطاء المعلومة وإنما تعليم أمور أخرى لا تقل أهمية، وهي الحث والتحفيز والتشجيع على المشاركة والمناقشة والحوار وممارسة التطبيقات العملية على المادة والدعم المعنوي والمادي.
بل ومحاولة إيجاد طرق لتجسيد وتحريك وتفعيل المفاهيم والأفكار الجديدة التي كونتها المعلومة في عقل الطالب، أي تحويل الأفكار من النظرية التجريدية إلى تطبيقات عملية محسوسة وملموسة، وهي بمثابة الاختبار والفحص والامتحان العملي النشط للنظريات والأفكار التجريدية، وبذلك تكون قد اكتملت وتحققت دائرة التعلم في دماغ المتعلم من استقبال المعلومة إلى التفكر فيها لتكوين المعرفة وأفكار جديدة إلى تفعيل هذه المفاهيم والأفكار في الدماغ إلى أنشطة عملية حركية.
هناك دراسات عديدة تؤكد أهمية تقييم المعلم ومكافأته بسخاء لا على سنوات خبرته وشهاداته وإنما على التحصيل الدراسي وأداء طلبته في الاختبارات الموحدة على مستوى الدولة، وبذلك نكافئ المعلم الفعال المتمكن الذي يحمل اهتمامًا حقيقيًّا بنجاح طلبته، وينجح في إيقاظ شعلة حب المادة في قلوبهم ويرفع من حـماســهم للعلم والتحصيل.
إن الطريقة التقلـيدية للتعليم التي تعتمد على أحادية المنهج وتنتج نسخًا متشابهة من الأشخاص ذوي الأهداف والرؤية النمطية، أصبحت غير مقبولة لهذا الجيل، فهي لا تفتح المجال للاختلاف والإبداع والتعددية في الأهداف والتوجهات للمتعلمين، ولا تضع بالاعتبار اختلاف القدرات والمهارات والاحتياجات من شخص لآخر.
إننا في أمس الحاجة في عالمنا العربي لثورة في التعليم، وليس علينا أن نبدأ من الصفر، بل نبدأ من حيث انتهى الآخرون، خاصة وأن الدراسات والشواهد والنتائج كلها تؤكد نجاح هذه المشاريع التعليمية الرائدة للنهوض بالمنظومة التعليمية طلاباً ومعلمين.
ولن يكون هناك ما يعود على المجتمع بعائد استثماري أعلى من الاستثمار في التعليم الأولي، ففي هذه السنوات يتم تشكيل دماغ الإنسان وتكوين الشبكات العصبية التي بها يستطيع أن يفكر ويحلل ويخطط للمستقبل.
وكل عام يمر على الطالب بين يدي معلم ضعيف غير فعال هو إهدار لعقل الإنسان. إن هذا النوع من الاستثمار إن لم يوضع في تلك السنوات الأولى.. سنوات التشكيل.. تشكيل عقل الإنسان.. عقل الطالب المدرسي.. طالب اليوم.. رجل وامرأة الغد، فلن تجدي عشرات الأضعاف من الاستثمارات لاحقًا لتعويض ما ضاع في السنوات الأولى عندما كان الدماغ أكثر تأهيلاً وتهيئة للتشكيل والتغيير والتطور المذهل لو أنه أُحسن رعايته والاستثمار فيه.
فمتى سنرى في عالمنا العربي ثورات تعليمية كتلك التي يشهدها العالم من حولنا؟
ومتى سندرك أن رأس المال الحقيقي الذي نملكه هو الإنسان الذي يصقل اليوم ويشكل بطرق أقل ما يمكن أن نصفها بأنها متأخرة ومتخلفة عن كثير من شعوب أخرى قد لا تملك ما نملك من ثروات ومقدرات طبيعية واستثمارات واحتياطات مالية.
تغريد
اكتب تعليقك