الصراعات السياسية والفكرية وجمالية السرد في رواية «ليون الإفريقي»الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-05-31 18:22:19

د. مازن الناصر

باحث في الأدب العالمي - سورية

برزت الصراعات في رواية ليون الإفريقي لأمين معلوف بوصفها سمةً رئيسةً ميّزت المتن السردي للرواية، وأسهمت في إضفاء طابع التشويق عليها، فضلًا عن دورها في تجلية الواقع العربي في نهاية القرن التاسع، وبداية القرن العاشر الهجريين، ومن تلك الصراعات ما حمل طابعًا سياسيًا وعسكريًا، مثل الصراع الذي حدث بين أبي الحسن علي بن سعد النصري وابنه محمد المعروف بأبي عبدالله على حكم غرناطة، وقد انتهى هذا الصراع باستيلاء الأخير على الحكم قبل أن تسقط غرناطة على يد فرديناند سنة 897هـ.

ومنها الصراع الذي حدث بين العثمانيين والمماليك، والذي انتهى باستيلاء العثمانيين بقيادة السلطان سليم على مصر، وكذلك الصراع بين أنصار ليون العاشر وأنصار مارتن لوثر، وغيرها من الصراعات التي أخذت بعدًا سياسيًا وعسكريًا.

كذلك لم تخلُ الرواية من الصراعات الفكرية، ولعلَّ من أهمها الصراع الذي جسدته شخصيتا الشيخ (استغفر الله) والطبيب أبو عمرو، فهذان الرجلان متناقضان في أفكارهما، ولكلّ واحدٍ منهما طريقته في الحياة، ومواقفه حول أسباب ضعف حال المسلمين في عصرهما، إذ يرى الشيخ (استغفر الله) أن ضعف المسلمين سببه عدم اتباعهم تعاليم الله سبحانه وتعالى، ونهج نبيّه، فكان ينظر إلى كل جديد في العلوم العقلية والإنسانية نظرة ريبة وشك، بخلاف الطبيب الذى ردَّ ضعف المسلمين، وبؤس حالهم إلى قلة إنتاج الكتب في البلاد الإسلامية عما كان عليه الحال في الماضي، وأنَّ معظم الكتب أو المؤلَّفات في القرن التاسع الهجري لا تتعدى أن تكون مجرد نقول عن الكتب القديمة أو مختصرات لها، لذا " كان كثيرًا ما يردد في مرارة أنه في عصور الإسلام الأولى لم تكن تُحصى في المشرق كتب الفلسفة أو الرياضيات أو الطب أو الفلك، وأن الشعراء أنفسهم كانوا أكثر عددًا وتجديدًا في الأسلوب والمعنى."

ومما لاشك فيه أن هذا الصراع بين شخصيتي الشيخ والطبيب بوصفه صراعًا فكريًا بين التقليد والحداثة لا تكاد تخلو منه أمةٌ من الأمم، ولا عصرٌ من العصور، بيد أن ما يثير الاهتمام فيما يخصُّ هذا النوع من الصراعات التي تجلت في هذه الرواية أن الراوي، وهو شخصية والد ليون، لم يتخذ موقفًا صريحًا منه، وإنما عرضه عرضًا موضوعيًا، فكان موقفه من هذا الصراع يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ موقف المؤرخ مما يسرده من أحداث ووقائع، وهذا ما يؤكده ابنه ليون في تعليقه على ما كان يسرده والده، يقول: "وبدا لي أن أبي كان قد تابع عن كثب كل تلك الصراعات، ولكن من غير أن يتخذ قطّ بشأنها حكمًا قاطعًا. وظلّت أحاديثه بعد عشر سنوات عارية من كل يقين."

وهنا تبرز جمالية السرد في الرواية من خلال أمرين اثنين، أولهما مرتبطٌ بخاصية النسبية، أي إن الراوي لا يتبنى موقفًا محددًا، ولا يصدر أحكامًا مطلقة، إذ جاء سرده للصراعات بعيدًا عن التقريرية والمباشرة، ومحكومًا بحكمة الرواية، أقصدُ النسبية أو اللايقين.

 أما الأمر الثاني الذي يبرز جمالية السرد فهو البوليفونية الروائية، أي تعدد الأصوات في الرواية، فالأحداث والصراعات لا تُسرد بوساطة راوٍ واحدٍ، وإنما يتناوب على سردها عدة رواة، فأحيانًا يتولى ليون عملية السرد، وأحيانًا يكون والده السارد، وأحيانًا أمه، وأحيانًا خاله، وكلُّ واحدٍ من هؤلاء الرواة له رؤيةٌ خاصةٌ، ووجهة نظر تميّز رؤيته.

وبناءً على ذلك، فإن سمتي النسبية، والبوليفونية جسدتا جمالية السرد في رواية ليون الإفريفي، وأكدتا حذق الروائي، ووعيه بفن الرواية، وجمالية التأليف فيه.


عدد القراء: 2271

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-