أنسنة الحيوان وحيونة الإنسانالباب: مقالات الكتاب
د. مازن الناصر باحث في الأدب العالمي - سورية |
ينزع ميلان كونديرا صفة الإنسانية عن الإنسان الذي يشير إليه في رواياته بعبارة (الكائن الذي يحمل رأسًا بين كتفيه). ظننتُ أول ما قرأتُ هذه العبارة أنها جاءت لتؤدي سمةً بلاغيّةً أو وظيفةً شعريّةً، لكنني أيقنتُ بعدما قرأتُ كلَّ رواياته أنها تدلُّ على رؤيةٍ عدميّةٍ تميّز عالمه الروائي، وتعبّر عن موقفه الفكري من الوجود الإنساني.
والحقيقة، لم يكن ميلان كونديرا أولَّ من نزع صفة الإنسانية عن الإنسان، إذ سبقه إلى ذلك الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور الذي استخدم عبارة (الكائن الذي يمشي على قدمين) للدلالة على الإنسان.
إنَّ عزوف شوبنهاور وكونديرا عن استعمال لفظ الإنسان والاستعاضة عنه بعبارتين تدلان عليه، وتنزعان صفة الإنسانية عنه يدلُّ دلالةً صريحةً على أن الإنسان لم يرتقِ وفقَ رؤيتهما إلى أن يكون في منزلة أسمى من منزلة غيره من الكائنات كما هو الحال عند الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الذي جعل الإنسان سيّدَ الطبيعة ومالكها، مميّزًا إياه من الحيوان بامتلاكه العقل، وبقدرته على التفكير، وذلك في مقولته الشهيرة "أنا أفكّر إذن أنا موجود".
يشكُّ ميلان كونديرا في رواية ( كائن لا تحتمل خفته) بإنسانية الإنسان، ورقي منزلته، وتفوقه على الحيوان، وبحقيقة أن الإنسان سيد الطبيعة ومالكها، وذلك في القسم السابع من الرواية المعنوّن بـ(ابتسامة كارنين)، الذي حاول فيه أنسنة الحيوان بوساطة خطابٍ روائيٍّ ركّز فيه على تتبع أفعال الكلبة (كارنين)، وتصوير ما تحسُّ به من مشاعر مختلفة من ألمٍ، وحزن، وفرح، وغضب، وسرور، معارضًا بذلك ما ذهبَ إليه ديكارت الذي لم يرَ في الحيوان إلا مسيّرًا وألةً حيّةً، فعندما "يئنُّ الحيوان فالأمر لا يتعلق بشكوى بل بصرير تطلقه ألةٌ تسير بشكلٍ سيءٍ. فحين تئز عجلةُ عربةٍ فهذا لا يعني أن العربة تتألم بل لأنها تحتاج إلى تشحيم"، مُبيّنًا في الوقت نفسه إعجابه بنيتشه الذي اقترب من الحصان، وأحاط برقبته باكيًا، بعدما رأى حوذيًا يضربُ حصانه، مُفسِّرًا بكاء نيتشه بأنه يحمل دلالةً عميقةً تتجسد في طلب المغفرة لديكارت من الحصان.
إذا كان ميلان كونديرا قد عارض فكرة رقي منزلة الإنسان وتفوقه على الحيوان من خلال أنسنة الحيوان، فإن ممدوح عدوان قد طرح مقولة حيونة الإنسان، إذ رأى أنَّ هذا العالم "لا يصلح للإنسان ولا لنمو إنسانيته بل هو عالمٌ يعمل على حيونة الإنسان." مُعبّرًا بذلك عن رفضه لما يحدث في هذا العالم من قمعٍ، واستغلال، ومجازر، وحروب عبثية، ويبدو هذا الأمر واضحًا وجليًا في كتابه: (حيونة الإنسان).
يتفق ميلان كونديرا وممدوح عدوان في شكهما في أن الفكر الذي جعلَ منه ديكارت أساسًا للوجود الإنساني قد أخفق في تحقيق إنسانية الإنسان، بيد أنهما يختلفان في مقولتهما، إذ تشير أنسنة الحيوان عند كونديرا إلى اعتقادٍ بأنّ عالم الحيوان أفضل من عالم الإنسان، بخلاف ممدوح عدوان الذي ظلَّ على اعتقاده بأفضلية الإنسان على الحيوان، يؤكد ذلك ما تحمله مقولته (حيونة الإنسان) من دلالاتٍ.
ختامًا، يمكن القول: إنَّ مقولتي (أنسنة الحيوان) و (حيونة الإنسان) قد لا تخلوان من غلو ومبالغة إلا أنهما تعبران في الوقت نفسه عمَّا يشهده العالم الإنساني من مفارقاتٍ، وجنون.
تغريد
اكتب تعليقك