بعض مظاهر تأثر الأدب الروسي بالإسلام والقرآن الكريمالباب: مقالات الكتاب
عزام أحمد جمعة أستاذ اللغة الروسية في جامعة بغداد/كلية اللغات /قسم اللغة الروسية |
يظهر تأثير الإسلام في نتاجات الأدب الروسي بشكل متفاوت عبر العصور، ففي الفترات الأولى من الأدب الروسي، كان الاهتمام بالإسلام مرتبطًا بالعلاقات التاريخية والثقافية بين روسيا والأقاليم الإسلامية المجاورة، ثم تم اكتشاف بعض المواضيع المتعلقة بالثقافة والتاريخ الإسلامي في الأعمال الدينية والتاريخية التي ترجمت من اللغات الأجنبية إلى الروسية.
بدأ الاهتمام بالإسلام يزداد في الأدب الروسي على مرّ العصور، وظهرت مواضيع تتعلق بالشرق والثقافة الإسلامية في الروايات والقصص والشعر، إذ يمكن العثور على تأثير الأدب الشرقي والإسلامي في أعمال العديد من الكتّاب الروس المشهورين مثل ألكسندر بوشكين وأنطون تشيخوف وغيرهم.
تطور الاهتمام بالإسلام في الأدب الروسي عبر العصور يعكس أيضًا تغيرات في النظرة الروسية للشرق والثقافات الأخرى ويمكن أن يكون التأثير متمثلًا في العناصر الثقافية والتاريخية المستوحاة من الإسلام والشعائر والتقاليد والشخصيات الإسلامية المتواجدة في الروايات والقصص والقصائد.
في الوقت الذي حكمت فيه القبيلة الذهبية أراضي روسيا الحالية، كان للبلاد روابط تاريخية مع الإسلام. ويعد اليوم، الإسلام هو ثاني أكبر ديانة في روسيا، وليس من المستغرب أن تتخلل الثقافة الإسلامية داخل الأدب الروسي وتنعكس في نتاجات أهم الكتاب والشعراء الروس بدءًا من أقدم القصص الشعرية وحتى أحدث الأعمال الأدبية الفنية المعاصرة.
هناك قصيدة للشاعر الروسي الكبير ألكسندر بوشكين (محاكاة القرآن)، التي تتألف من 9 فصول، وتحمل عنوانًا جريئًا جدًا تجاه المسلمين، قد يبدو غريبًا أن يحاول أحد تقليد كلام الله الخالق العليم، ولكن بوشكين بالطبع لم يكن لديه هذه النية على الإطلاق، بل كانت قصيدته دعوة لأولئك الذين يستخدمون الدين لأغراض شخصية للتوقف عن ذلك، أمّا الذين يدينون بإخلاص ويعملون بالخير يستحقون الاحترام.
توجد آراء مختلفة بين الباحثين حول ما دفع بوشكين للاهتمام بالقرآن الكريم، فمن جانب يعتقد البعض أن كل شيء يرجع إلى المحادثات مع النبيلة (براسكوفيا أوسيبوفا) في أثناء مدّة الحبس المنزلي لمدة عامين التي قضاها الشاعر في ممتلكات عائلته في ميخايلوفسكوي.
ومن جانب آخر هناك أيضًا رأي يقول أنّ ما أثر على ألكسندر بوشكين كان ترجمة نص كتاب الله إلى اللغة الروسية، التي قام بها ميخائيل فيريفكين، وقد عمل المترجم هنا بترجمة نص من اللغة الفرنسية وليس على النص الأصلي باللغة العربية، وقد كانت ترجمة الدبلوماسي الفرنسي (الأندرو دي ري)، ومع ذلك، لا تتعارض هذه النسخ مع بعضها البعض ومن الممكن أنّ المحادثات بين بوشكين وبراسكوفيا أوسيبوفا قد حدثت قبل أو بعد قراءة ترجمة فيريفكين، أدناه ترجمة بعض أبيات المقطع الأول الذي يستهل الشاعر قصيدته بالقسم، ويقتبس من القرآن الكريم الكثير بعض الجمل حرفيًا. ويذكر فيها قصة هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:
قسمًا بالشفع والوتر
وبالسيف وبمعركة الحق،
وبنجمة الصباح،
وبصلاة العصر،
أنا لن أتخلى عنك،
من الذي رعيته،
وأدخلت الطمأنينة في قلبه،
وحفظته من قساوة المطاردة،
أولست أنا الذي سقيتك،
من ماء البيداء عندما عطشت؟
أولست أنا الذي منحت لسانك
سلطانًا عظيمًا على العقول؟
فلتكن شجاعًا، ولتنبذ الخداع،
ولتسلك طريق الحق بهمة عالية،
فلتحب اليتامى، ولتبشر بقرآني،
كل المخلوقات الضعيفة.
وفي قصيدة ألكسندر بوشكين "نافورة بخشيسراي" التي كُتبت في العشرينيات من القرن التاسع عشر بعد زيارته لقصر بخشيسراي في القرم، كلُّ سطر من القصيدة يحمل العديد من الصور الشرقية: خُلفاء ذوي العيون الداكنة، وحرمان مكسوة بالسجاد، ومحميات تحوطها الأبراج ويحرسها الغلمان، وفتيات مخفية تقدم الشراب في الحدائق المليئة بالعنب والورود.
ومع ذلك، ينبع القوة العاطفية للقصيدة من قدرة بوشكين على أن يكون في لحظة في مكان آخر تمامًا في "أغنية التتار"، من الوجدانية الرومانسية التي تميز الإسلام: (طوبى للفقير الذي يرى السعادة عند رويته مكة في سنواته الأخيرة).
أمّا ميخائيل ليرمونتوف فقد كتب قصة قصيرة بعنوان "أشيك- كريب"، المعروفة باسم "حكاية تركية"، في عام 1837، في أثناء مدّة نفيه في القوقاز. تجري أحداث القصة في جورجيا، وتبدأ الحكاية مثل الحكايات الخيالية الأصيلة بوصف تاجر غني ("الذي أعطاه الله الكثير من الذهب") وابنته الجميلة والمغني الفقير أشيك كريب الذي يقع بالحب في الفتاة الصغيرة. تُعتبر هذه القصة، مثل أعمال ليرمونتوف الأكثر شهرة، مثالًا حيًا على مدى تأثره بالمدّة التي قضاها في القوقاز.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، استوحى الروائيون الروس إلهامهم أيضًا من الإسلام، عندما خرج فيودور دوستويفسكي من سجن أومسك في عام 1854، طلب مرارًا نسخة من القرآن من شقيقه. في رواياته الفلسفية، تظهر إشارات إلى التصوف الاسلامي.
يكتب إيفان شاتوف في رواية "الشياطين" وهي الرواية السادسة لفيودور دوستويقسكي التي نشرت في المدّة من 1871 إلى 1872 التي تعد واحدة من أهم أعمال دوستويفسكي وتعدّ رواية ذات طابع فلسفي واجتماعي: "تذكروا قارورة محمد، التي لم تقع منها قطرة واحدة بينما كان يدور على حصانه في الجنة؟" ثم يذكر دوستويفسكي هذه الأسطورة مرة أخرى في روايته (الأبله) التي نُشِرَت في المدّة من 1868 إلى 1869 التي صنفت على إنها واحدة من أشهر أعمال دوستويفسكي وتُعتَبَرُ إحدى روائع الأدب العالمي إذ يذكر.: "... ولم تسقط القارورة المملوءة بالماء لمحمد قطرة واحدة، ولكنه تمكن من رؤية جنة الله كلها).
وفي رسالة من ياسنايا بوليانا في عام 1884، عبر ليف تولستوي عن انجذابه الشديد للإيمان الإسلامي، وصفه بأنه "أدخله عالمًا جديدًا من الروحية والرومانسية". كما أشار إلى أن دينه أصبح شخصيًا لدرجة أنه يمكن اعتباره "مسلمًا صالحًا" بسهولة، وكانت هذه الرسالة تعكس تأثير الإسلام على فلسفته ومعتقداته.
في هذه المدّة من حياته، بدأ تولستوي ينتقد بشدة العنف والعقوبات القاسية، وأصبح مناصرًا للسلام والحب والتسامح بين الناس. وعكست هذه التغييرات في مفاهيمه الدينية والفلسفية على أعماله الأدبية، إذ بدأ يدرس الأديان الشرقية، بما في ذلك الإسلام، واستوحى منها بعض المفاهيم التي نقلها إلى أعماله.
كانت هذه الفترة مهمة في حياة تولستوي وتطوره الروحي، وأثرت على عمله وفلسفته الحياتية. وعلى الرغم من أنه لم يتبنَ رسميًا الإسلام، إلاّ أنّ الإيمان الشامل الذي اكتسبه والأفكار التي تناولها من الأديان الشرقية أثرت على تفكيره وسلوكه بشكل كبير.
حاجي مراد، هي رواية قصيرة أو رواية جديدة كتبها الكاتب الروسي الشهير ليو تولستوي. تمّ نشرها لأول مرة في عام 1896، بعد وفاة تولستوي بثلاثة أعوام. الرواية تستند إلى أحداث حقيقية وتروي قصة الشيخ الشيشاني الشهير، حاجي مرات، الذي قاتل الجيش الروسي خلال حقبة حكم زعيم داغستان الشهير شاميل.
تدور القصة حول حياة حاجي مراد ومعاركه ضد الجيش الروسي، وتتناول أيضًا تفاصيل حياته الشخصية وتحولاته الروحية. يتميز الكتاب بالعمق والتحليل الفلسفي والتعقيد النفسي، ويعدّه البعض واحدًا من أفضل الأعمال الأدبية لتولستوي.
الرواية مليئة بذكريات الصور الإسلامية. عندما التقى القراء بالحاج مراد لأول مرة، "تلاشى صوت المؤذن المرتفع"، وكانت أولى كلماته "السلام عليكم". عندما يهرب من الروس، يركب حصانه الأبيض في الغابة، ويندفع بين الحقول والمآذن. عندما يعود شامل، إمام المتمردين، من قتال الروس، يتلو فرسانه الشهادة باستمرار ويطلقون النار في الهواء.
كتب المترجم ريتشارد بيفير في مقدمة نسخته من الرواية أنّ حاجي مراد هو "نوع جديد من الأبطال لتولستوي": جريء وواقعي ومبدئي". إنه يؤدي بحرص واجباته الشعائرية كمسلم، فهو يشارك ثقافة شعبه دون قيد أو شرط."
أمّا إيفان ألكسييفيتش بونين فقد تأثر بعمق بمعاني القرآن الكريم والقليل فقط يعرفون أنّ الكاتب الروسي الشهير والشاعر، والحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1933، إيفان ألكسييفيتش بونين، كتب 11 قصيدة عن مواضيع القرآن ويظهر ذلك جليًا في أعماله الأدبية، إذ يستخدم مقاطع من ترجمة النص القرآني كعناوين لأعماله، كما ويمكن مشاهدة انعكاس تأثير الآيات القرآنية في محتوى قصائد بونين نفسها. على سبيل المثال، يشير في قصيدة "السر" إلى بداية ست سور تستخدم حروف "الم" - "ألف، لام، ميم": "البقرة"، "آل عمران"، "العنكبوت"، "الروم"، "لقمان"، "السجدة".، كما ندرج أدناه بعض المقتطفات المترجمة من قصائد بونين التي تضهر مدى تأثر الشاعر بالقرآن:
قصيدة "محمد مطاردًا" للشاعر تركز على معاناة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، حيث تم تطرده من مكان إلى آخر ومواجهته للظلم والاضطهاد، حيث يصف الشاعر في القصيدة حزن النبي وعزلته عن الجميع، حيث كان يتكلم في ظل الحزن والقفر
كان يجلس ويتكلم في حزن
وُليت وجه الصحراء والقفر
عزلت عن الجميع، من أحبهم!
في هذه الأبيات، يصف الشاعر حزن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكلامه الذي كان يتحدث به في هذا الحزن. كما يعبر عن رغبته في العزلة والابتعاد عن العالم المزدحم، ويشير إلى العزلة التي عاشها النبي محمد في بعض فترات حياته. يتضح من هذه الأبيات تأثر الشاعر بالقصة الإسلامية وحياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، واختياره لهذا الموضوع كمصدر للإلهام الشعري.
يعكس هذا النوع من القصائد التأثير الثقافي والفكري للشرق الإسلامي على الأدب الروسي، وكيف أن بعض الشعراء الروس استوحوا أفكارهم وإلهامهم من القصص الإسلامية والشخصيات الإسلامية البارزة مثل النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
علاوة على ذلك فأن لدى بونين قصائد تحمل أسماء سور من القرآن الكريم، على سبيل المثال، يمكن العثور في مجموعات أعماله على إشارة إلى سورة الكوثر في القران الكريم، ولكن بترجمة مختلفة بنطق الكلمة - "كوفسير". وتكون آية الافتتاح لهذه السورة هي العنصر النصي الذي يقدم قصيدة بونين:
"إنا أعطيناك الكوثر/الكوفسير".
وفيما يلي ترجمة بعض ابيات القصيدة
هناك انبجس، هناك يجري خلف الضباب،
نهر الأنهار، الأزرق كوفسير(الكوثر)،
وهو يعطي السلام لكل الأرض، لكل القبائل والبلاد،
اصبر، صل، وتوكل.
يسعى جميع المسلمين خلال شهر رمضان المبارك لإحياء ليلة القدر، أمّا إيفان بونين فقد حاول تحقيق ذلك في أعماله الإبداعية من خلال كتابة قصيدة تحمل اسم (السماء). إذ اقتبس من الآية الرابعة من سورة القدر: (سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ )
"إنّ جبريل والملائكة قد نزلوا بأمر من العلي".
في الروايات السوفيتية، نادرًا ما تُناقش القضايا الدينية، ولكن أبطال آسيا الوسطى كانوا لا يزالون يعدّون أنفسهم أشخاصًا يلتزمون بشدة بطقوسهم الدينية. في رواية الكاتب القيرغيزي تشينغيز أيتماتوف "والنهار يدوم أطول"، نقل الكاتب جزءًا من الأحداث إلى الفضاء، ولكن تتمحور القصة برمتها في صحراء كازاخستانية، إذ يحاول عامل السكك الحديدية بوران إيديغي أن يدفن صديقه القديم وفقًا للعادات المسلمة. ويسلط ذلك الضوء على أهمية التقاليد الدينية.
أمّا الكاتب الأوزبكي حامد إسماعيلوف يولي اهتمامًا خاصًا لتقاطع الأماكن والثقافات في روايته "السكك الحديدية". وكان إسماعيلوف يؤكد أنّ قصة أندريه بلاتونوف "الروح" يمكن اعتبارها "مؤلفًا صوفيًا"، إذ تظهر إشارات إلى الأساطير الصوفية على طول القصة. كما تأثر بلاتونوف في وصفه للصحراء بيوميات المسافر المسلم في آسيا الوسطى الذي عاش في القرن العاشر.
يرى الكتّاب الحديثون غالبًا الارتباط الوثيق بين مختلف الطوائف وتجارب الإنسان، ففي أجزاء أخرى من رواياته، يقتبس إسماعيلوف بيتًا من قصيدة الشاعر الصوفي بوبورهيم مشراب: "اليوم أنا روسي، وغدًا شركسي... وبعد غد أصبح مسلمًا، وبعد يوم واحد - كافرًا"
«رفعتُ رأسي وكأنني أرى... أبراجًا حادة للمساجد ترتفع بكبرياء وتدعو بفخر إلى السماء. أسمع بالفعل نداء المؤذن للصلاة.» هذه هي الطريقة التي بدأت بها تاتيانا مازيبينا، الحائزة على جائزة روسيا للمبتدئين في عام 2010، كتابها الذي أثنى عليه النقاد بعنوان "رحلة إلى الجنة". تسرد مذكراتها للقارئ رحلتها البرية من روسيا إلى مصر.
تاتيانا مازيبينا تعدّ الطقوس الدينية وسيلة لنقل المشاعر العالمية وفي كنيسة قديمة في سوريا، تعترف أنها تسمع "كلمة الله"، التي لا تزال تُنطق بهذه اللغة "الله". وفي المنزل التركي الذي تم استقبالها فيه، تفتح مضيفيها بتقدير الزجاجة التي تحتوي على "شعر النبي". ترى مازيبينا الكائن المقدس كـ "موجة ترددية تعمل كدليل للقلوب التي ملأتها الحب وجاهزة للفيضان".
إنّ مازيبينا تربط بين الأديان المختلفة والمشاعر الإنسانية الجوهرية، وتسعى لنقل رسالة الحب والتسامح من خلال تجاربها وملاحظاتها في الأماكن التي زارتها. إنها تنظر إلى الديانات الأخرى بفهم واحترام، وتبحث عن التشابهات بينها وبين العقائد الدينية الأخرى. تعتبر مازيبينا التجارب الدينية والروحية فرصة للتواصل مع الاله والشعور بالترابط الروحي بين البشر.
في الختام، إنّ التأثير الثقافي للإسلام هو مظهر من مظاهر التراث البشري الذي أثرى الحضارة الإنسانية بأفكاره ومعرفته وقيمه. يظل الإسلام رمزًا للتسامح والتعايش السلمي بين الثقافات المختلفة ويساهم بشكل إيجابي في التطور الثقافي للإنسانية بأسرها.
تغريد
اكتب تعليقك