الأسلوب الساخر في رواية (سونيتشكا) للكاتبة الروسية لودميلا اوليتسكاياالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-02-01 16:44:11

عزام أحمد جمعة

أستاذ اللغة الروسية في جامعة بغداد/كلية اللغات /قسم اللغة الروسية

أصبح القرن العشرين، كما هو معروف يسمى بـ"مملكة السخرية" وفي الوقت نفسه فقد شهد هذا القرن ذروة النثر النسائي في الأدب الروسي، إن هذه الظواهر التي جاءت في نفس الوقت لا يمكن إلا أن تخلق تعايشًا مذهلاً للسخرية والنثر النسائي.

لقد كانت البداية الساخرة الموجودة في نص ليودميلا أوليتسكايا "سونيتشكا"، الذي نشر عام 1992، هي نموذج مثالي لاستعراض ظاهرة السخرية في نثر المرأة.

فمن خلال العنوان نفسه، تبدأ الكاتبة لعبة مع القارئ، مشيرة إلى بطلات الأدب الروسي في القرن ال 19، فشحصية سونيا في رواية الكاتبة أوليتسكايا مستعدة تمامًا للتضحية بنفسها وحب المقربين منها بإيثار مثل بطلات الكاتب دوستويفسكي في رواية (الجريمة والعقاب) وليف. تولستوي في رواية (الحرب والسلام)، ومع ذلك، فقد تم وضع الإطار الزمني للأحداث من بداية الخمسينات إلى سبعينات من القرن العشرين.

هي قصة عن الحياة حزينة لفتاة غير جميلة تدعى سونيا، تكرس سونيا حياتها لحب زوجها وعائلتها، حتى تكتشف ذات يوم أن زوجها يخونها مع صديقة ابنتها.

تمتد مفارقة السرد الساخر إلى الصورة المبالغ فيها لامرأة ذات "الجورب الأزرق" وهي أمينة مكتبة   تعيش وحيدة وتقضي حياتها في عالم الكتب، فهي انطوائية، خجولة ومترددة.

قال شقيقها الأكبر مازحًا "بسبب قراءتها التي لاتنتهي للكتب، اتخذت مؤخرتها شكل الكرسي، وأنفها شكل الكمثرى"[1، ص. 2].

توضح الكاتبة أيضًا للأسف "لم تكن هناك مبالغة كبيرة في السخرية: فقد كان أنفها حقًا على شكل كمثرى غامض، وسونيشكا نفسها، كانت ذات رقبة نحيفة طويلة، واكتاف عريضة، وقدمان هزيلتان ومؤخرة صغيرة، كان لديها شيء واحد فقط طبيعي - ثدي كبير، نمى وكبر مبكرًا بطريقة ما في غير مكانة وملتصق بجسم نحيف.

 حنت سونيتشكا كتفيها، متراخية، وارتدت أردية واسعة، محرجة من ثروتها (ثدييها) التي لا قيمة لها في الأمام ومؤخرتها المائلة الهزيلة" [1، ص. 2].

عالم البطلة متقلص، ومجالها يتضاءل منها نحو كتبها هذا التركيز الزائد على القراءة وعالم الكتب يجعلها تعيش في عالم محدود يتقلص حولها: "على مدى عشرين عامًا كاملًا، من سن السابعة حتى السابعة والعشرين، قرأت سونيتشكا دون انقطاع فقد كانت تنغمس في القراءة كما تنغمس في حالة إغماء، ولا تنتهي هذه الحالة اتلى مع آخر صفحة في الكتاب.  [1، الصفحة 3]

تصورالكاتبة في شخصية سونيتشكا شخص معزول عن العالم الواقعي، حيث تسعى إلى العيش في مساحات مغلقة، كما تصف حالة روحها بأنها "هادئة" و"ملفوفة في شرنقة من آلاف الكتب التي قرأتها، [1، ص 9].

وحياتها الفعلية محدودة بحدود القبو التي تقرأ فيه، لكن ومع ظهور روبرت فيكتوروفيج في حياتها (زوجها، شخص مثقف وفنان، أكبر منها بعشرات السنين)، يبدأ توسع حدود وجودها، وخروجها الوهمي من المساحات المغلقة، لكن وبعد الزواج "بعد أن تزوجت، بدأت القدرة التي كانت تمتلكها سونيتشكا على فهم الحياة من خلال الكتب تتلاشى تدريجيًا، وبدأت تتحجر وتصبح أقل حيوية. فجأة، أدركت أن الأحداث البسيطة والتفاصيل الصغيرة في الواقع أصبحت أكثر أهمية بالنسبة لها من ما تقرأه في الكتب. [1، ص 20] وعندما أنجبت ابنتها، تغير كل شيء بشكل عميق، كما لو أن الحياة التي عاشتها قبل ذلك انقلبت رأسًا على عقب، واختفى معها اهتمامها بالكتب الذي كانت سونيتشكا مولعة به..." [1، ص21 ].

بعد تركها لعادة القراءة، انشغلت سونيتشكا بشكل كامل في الاهتمام بابنتها والتزامات المنزل، ومع مرور الوقت، تحوّلت من فتاة ذات توازن نفسي هش إلى امرأة منزلية عملية" [1، ص23 ].

لقد تحولت من شابة تتمتع بحسّ نفسي هش إلى امرأة منظّمة ومتعقّلة تدير منزلها وتعتني بابنتها، لكنها ورغم هذا التحوّل، لا تزال محافظة على طابعها السابق من الانطوائية وعدم فتح نفسها بشكل كامل للعالم الخارجي.

تعتبر سونيتشكا زوجها "سعادة غير متوقعة" ولكنها تقوم بوضع حاجز بينها وبينه. وهذا التصرف، بحسب رؤية المفكر الروسي ميخائيل باختين، يمثل نوعًا من التعامل الساخر مع العالم –"يشبه الاحتفال الذي يعيشه الفرد بمفرده مع وعي حاد بانعزاله " [2، ص21 ]. هذا هو الشعور الذي تشعربه البطلة.

تُسلِّط الكاتبة اوليتسكايا الضوء على تجاهل بطلتها سونيا للقضايا والتفاصيل المهمة، وفي نفس الوقت تشير بشكل ساخر الى اهتمامها بالتفاصيل الصغيرة في أعمالها المنزلية "الفن المقنع والمعنى العالي وجمال الابداع المنزلي لسونيتشكا" "حكمة، حكمة عالم النمل" [1، ص39]، بأبداع تستعرض الكاتبة هذه الجوانب بشكل مُبهِر وفني، تجعل من الواضح أن سونيتشكا تقدم شكلًا من البُعد عن المظاهر العالية والتقديرية في حين تكون عاطفيًا متميزة ومتعمقة في الأمور المنزلية.

يفكر زوج سونيتشكا للحضات بها وهو يغوص في عالمه الفكري، ويعد هذا التركيز على الشخصية المتحدثة، وكما يشير نورثروب فراي، الناقد الأدبي الكندي المعروف في نظريته عن انماط السرد، بمثابة  مساحة مفتوحة تسمح للقارئ بالمشاركة بشكل أعمق في القصة، حيث يمكن للقارئ أن يضيف تفسيره الشخصي للأحداث، هذا يؤدي إلى عدم وجود حدود صارمة بين الخير والشر في السرد، حيث لا يكون هناك وجهة نظر واضحة من الكاتب حول من هو الشخص الصالح ومن هو الشخص السيء، وبدلاً عن ذلك، يترك الكاتب المجال للقارئ لاتخاذ قراره بناءً على تقديره الشخصي.

أن الكاتبة اوليتسكايا تدمج صوت القارئ مع صوتها، مما يخلق تفاعلًا وحوارًا بينهما، وهذا يعني أن السرد لا يتبع خطًا واحدًا من التقديرات العاطفية، بل يقدم نظرة مزدوجة للأحداث المُصوَرة، وهذه النظرة لا تسمح للقارئ بالتجرد من المشاعر تمامًا سواء في مواجهة المعاناة أو السعادة، بل تتيح له مشاركة فكرية وعاطفية تجاه الأحداث والشخصيات في القصة.

ومن هنا، يتمكن القارئ من العيش مع مصير الشخصية "سونيتشكا" من منظور خارجي وذكي، حيث يشعر بتفوق فكري على الشخصية التي يتم تصويرها، وهذا هو ما يميز النمط الساخر عن بقية الأساليب الأخرى في السرد، وهو الفكرة التي طرحها الناقد الأدبي الكندي نورثروب فراي.

وتستمر الأحداث وتنضم إلى هذه العائلة، بعد زواج دام لمدة تقريبًا عشرين عامًا، صديقة ابنتهما، الشابة والجذابة ياسيا، التي تصفها الكاتبة اوليتسكايا بأنها "ذات وجه مدور بيضوي" و"وثديي ماعز" [1، ص. 30].

 لم تستطع سونيتشكا مقاومة هذا وتقبل ياسيا في عائلتها، حتى يقوم هذا الثلاثي (روبرت فيكتوروفيتش، وزوجتة سونيا وياسيا) بالظهور في الحفلات العامة، مما يثير الشائعات والأقاويل بين الناس، ومع ذلك، لم يكن هناك مايشير الى لفت الانتباه "لأنهم تصرفوا (روبرت فيكتوروفيتش، سونيا وياسيا) كعائلة واحدة، وجلسوا على مائدة منزلية واحدة..." [3، ص. 60].

وفجأة، يتوفى روبرت فيكتوروفيتش زوج سونيشكا بشكل مفاجئ، في سريره مع ياسيا الشابة، وهنا يأتي استخدام السخرية والتناقض في السرد. يتمثل هذا في تغيير الأدوار والصفات المعتادة للشخصيات، وفي هذا السياق، يتم تبديل أدوار "ياسيا" و"سونيتشكا" على نحو مفاجئ ومبالغ فيه، فياسيا، التي كانت مصدر إلهام وسيطرة لروبرت فيكتوروفيتش، تفقد موقفها وقوتها، وتصبح فجأة كطفلة صغيرة، ومن ناحية أخرى، تتغير سونيتشكا، إلى صورة الأم الحكيمة والقوية، حيث يتم توضيح هذا التبديل في وصف لحظة جنازة روبرت فيكتوروفيتش، حيث تظهر ياسيا الصغيرة وهي تلتصق بسونيتشكا "كانت ياسيا ترتدي فستانًا أسوداً من الحرير وتلتصق بسونيتشكا الضخمة الغير مرتبة، حيث تختبئ تحت ذراعها، وتبدو كفرخ صغير تختبئ  تحت جناح بطريق" [1، ص. 120].

وهنا فأن نهاية الرواية الغيرمألوفة والمفاجئة تضيف إلى الصورة الساخرة قيمة فنية، تغيير الأدوار والصفات المألوفة للشخصيات، حيث تصبح "سونيتشكا" القوية والمؤثرة، في حين تتحول "ياسيا" إلى الشخص الضعيف والمحتاج. يعكس هذا التغيير توجه السخرية والتناقض الذي يميز القصة.

إن السخرية تسلط الضوء على ضيق الإطارات المألوفة والتقليدية، وتشجع القارئ على التفكير في إعادة تقييم وبناء نظام جديد للقيم. هذا يتجلى في تغير مفهوم الأسرة من إيجابي إلى سلبي، مما يعكس طابع التعبير الساخر.

القصة تثير تساؤلات حول ضرورة تغيير مسار حياة "سونيتشكا" والدور المفروض عليها أن تقوم به كزوجة وأم. وهل يجب على النساء أن يتبعن مسارات التقليد والتضحية بأنفسهن على نحو لا يلبي تطلعاتهن الحقيقية؟ هذا يعكس التوجه الساخر والتفكير الموجه نحو إعادة تقييم الأدوار الاجتماعية المفروضة.

المراجع:

1. أوتسكايا، لودميلا يفغينيفنا. "سونيتشكا". موسكو، 2009.

2. باختين، ميخائيل ميخائيلوفيتش. "إبداع فرانسوا رابل والثقافة الشعبية في العصور الوسطى والنهضة". الطبعة الثانية. موسكو، 1990.

3. سادوفنيكوفا، تامارا فيكتوروفنا. "سونتشكا الأبدية: حول بويتيك القصة لودميلا أوتسكايا 'سونتشكا'". صف اللغة والأدب. 2007. العدد 17. ص. 58-60.

4. فراي، نورثروب. "تشريح النقد"، في: الجماليات الأجنبية ونظرية الأدب في القرنين التاسع عشر والعشرين. موسكو، 1987.


عدد القراء: 4200

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-