حوار الحضارات والسلم العالميالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-02-01 18:34:16

د. سمير نور الدين دردور

أستاذ القانون المقارن بالمركز الجامعي صالحي أحمد – النعامة – الجزائر

شغلت فكرة "حوار الحضارات" حيزًا كبيرًا في كتابات ونقاشات المهتمين بتقارب الأفكار والرؤى والتطلعات. ذلك أن الموضوع لم يعد ترفًا فكريًا تزينه اللقاءات والمحاضرات ولا دعابة سياسية تتداولها الصحف والفضائيات ولا اهتمامًا عابرًا تتجاذبه الميول والنزوات بل أصبح ضرورة حضارية يفرضها واقع النظام العالمي الجديد.

إن هذا العالم الجديد الذي وجب أن تشترك في صناعة مستقبله لمجتمعات باختلاف عناصرها وأديانها وثقافتها والمحكوم عليها بالعيش والتعايش مع بعضها البعض حري أن تتحقق فيه مبادئ الاحترام وقبول الغير وأن تتواجد فيه آليات الحوار والتحاور ولا يمكن لهذا الحوار أن يرتقي إلى المستوى الحضاري المنشود إذا كان قائمًا على أساس التمييز القاري أو العنصري أو الديني أو اللغوي ومقاسًا على قواعد الهيمنة والاستحواذ والاحتواء.

إن الذاكرة التاريخية للبشرية لا طالما تستحضر هول الصراعات الفتاكة بين البشر في إطار عقلية "الصراع الحضاري" تحت دافع إبادة المخالف ومحق المعاند وتجريد ضحية التدافع غير المتكافئ من كينونته الوجودية وهويته الشخصية. حينما يسود الاعتقاد أن المحور الأساسي الذي تدور حوله عجلة التنمية البشرية هو الإنسان في فكره وتفكيره والذي صنع الحضارة بجهده وفلسفته وقيمه الدينية والثقافية والاجتماعية يكون بديهيا أن نركز اهتمامنا على عنصر الحداثة في المفاهيم الإنسانية الحضارية والرامية إلى تعارف الشعوب وتبادل العلوم والمنافع.

إن المجتمعات التي بنت حضارتها على أنقاض الصراع والدّمار لكفيلة اليوم أن تنتقل من الصراع إلى التعايش ومن الدمار الشامل إلى البناء المتكامل. حري بهذه الحضارات التي تتطلع إلى الارتقاء من صناعة الجسور الجوية والبحرية إلى تشييد جسور الحوار بين المجتمعات ومن الأبراج الناطحة للسماء إلى كواكب تقبل الغير والإنصات إلى آماله وآلامه. منطلق النظام الدولي الجديد الذي تطمح البشرية لتحقيقه ليس اقتصاديًا عدائيًا ولا عسكريًا غاشمًا ولا سياسيًا متسلطًا بل أخلاقيًا تحكمه القيم السامية والمثل العليا. غير أن هذا الحوار لا يستوجب حتمًا اشتراط طلب الذوبان في ثقافات الغير وإنما يتطلع إلى خلق فضاء عالمي يسوده الاحترام بين الشعوب والدول والعيش في كنف السلم والاستقرار.

يقتضي الوصول إلى مستوى التعايش العالمي المرور الاضطراري عبر جسر حوار الحضارات بمقتضياته وشروطه وظروفه. من منطلق الجديّة في الطرح أن نقر ابتداءً أن الحوار هو جوهر حضاري يراهن عليه العديد من المفكرين والسياسيين لمعالجة قضايا الحروب والإفزاع النووي والمجاعات والأمراض والإرهاب العابر للقارات وغسيل الأموال والاتجار بكل ما هو محظور. ومن مسلمات الواقع الجزم أن ليس كل تقدم في حياة البشر هو بالضرورة من فعل الحضارة الغربية بل إن الواقع التاريخي يطالعنا عبر الشواهد الحية أن الحضارة الشاملة للإنسان شاركت في صنعها الكثير من الحضارات وكان من أبرز معالمها مظاهر الحوار الثقافي والديني و دورها في استتباب الأمن بين الشعوب.

إن الدعوة إلى حوار الحضارات هي من مقومات الحضارة الإسلامية وأصبحت في العصر الحديث موضوع نقاش وبحث في الفكر العربي والإسلامي ولا زالت محل مخططات حكومية وغير حكومية من شأنها رفع المغالطات التي تحوم حول الإسلام ودفع شبهات العنف والتعصب والإرهاب عنه. إن الحضارة الإسلامية بأسسها الإنسانية والفكرية والثقافية لكفيلة لخوض بناء جسور الحوار بين الشعوب والمجتمعات بحكم احتوائها على مقدرات التحضر والتقدم والعيش مع الحضارات الأخرى في فضاء موحد ينبذ التقزيم والإقصاء والتعنيف والتجهيل وكل مساوئ الهيمنة على مستقبل الشعوب.

خليق بمجتمعاتنا الإسلامية والعربية اليوم أن تنقل قيم الحوار الحضاري من سطور الأسفار إلى آفاق الأمصار ومن ضيق الأبصار إلى رحابة الأفكار وتبرز استعدادها لتجسيد مبادئ الحضارة الإسلامية في التفاعل الإيجابي مع الشعوب وبناء نظام عالمي يسوده احترام الفوارق الثقافية وخصوصية الأديان وتزول فيه التصنيفات السلبية التي أوجدها المغرضون في ترتيب مشروع "صراع الحضارات".

"محور الشر/محور الخير"، "الجنوب/الشمال" "الشرق/الغرب"، "العالم الأول/العالم الثالث"، "الشعوب المتحضرة/الشعوب المتخلفة"، "القارة السمراء/القارة الصفراء"....كلها تعابير تنبع من خلفية التقسيم الجغرافي والتمييز العنصري وتؤسس التباينات على قواعد الفقر والغنى وكلها معاول أوجدت لهدم الحضارة الإنسانية جمعاء، و لعل أول تحدي يصادف الحوار الحضاري هو إذابة، بل إزالة هذه الفوارق العدوانية.

لم يعد الآن للمنتسبين للحضارة الإسلامية سبيل إلا مسلك التفكير في موضوع الحوار الحضاري الجاد وقنواته وأهدافه وجدول أعماله وهيئاته، ليس استعطافًا لحضارات أخرى وإنما توضيحًا للحركية الحضارية التي يمكن أن تقوم بها الحضارة الإسلامية في سبيل الاستقرار والسلم العالمي بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية والثقافية والدينية وإبعادًا للفكرة النمطية التي يحملها الغرب خاصة عن الإسلام. ولعل هذا النهج هو ما دأبت عليه منظمة الأمم المتحدة حين اعتمدت "اليوم العالمي للعيش معًا في سلام" في السادس عشر مايو من كل سنة وهو اقتراح تقدمت به الجزائر وصادقت عليه بالإجماع الجمعية العامة للأمم المتحدة فِي دورتها الثانية والسبعون التي انعقدت في الثامن من ديسمبر 2017 بموافقة 172 دولة من إجمالي 193 على اللائحة رقم 72/130.

تتمثل الإشكالية الكبرى في هذا الموضوع في الرهان على قدرة العرب والمسلمين في تصميم مشروع حضاري يبرز قيمهم الحضارية في ضوء واقع غربي يرى العرب والمسلمين من زاوية العنف والتخلف. يطرح للنقاش في هذا المجال أساسيات الحوار وكيفيات مد الجسور للوصول إلى الحضارات الأخرى في سبيل اعتماد حوار حضاري يحقق التنوع الفكري والثقافي بين الأمم ويذيب فوارق "التفوق المادي" للحضارة الغربية على حساب الموروث الثقافي والعقدي للحضارات الأخرى. لحوار الحضارات طاقة إيجابية تخدم بفعالية قضية السلم العالمي فهو لا ينظر إلى الحضارات بنظرة الصراع وإنما بنظرة العقلية السوية الرافضة للمغالبة العسكرية والاقتصادية والرّامية إلى فرض الثقافات على الشعوب المستضعفة. ولعل أعظم مشروع ينتظر الإنسانية اليوم هو الانتقال من مفهوم العصبية للدولة والأمة إلى العصبية للحضارة البشرية باختلاف تركيباتها التاريخية وبقيمها الإنسانية التي تحفظ الديانات والثقافات للشعوب المختلفة.


عدد القراء: 4055

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-