ترنيمةٌ صامتةٌ A Silent Songالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-02-01 21:57:39

د. أحمد الجذع

أكاديمي ومترجم – اليمن

ترجمة: د. أحمد الجذع

ليونارد كبيرا Leonard Kibera

تلمّس الشاب طريقه ببطءٍ نحو باب الكوخ زاحفًا بوهن على ركبتيه ومرفقيه. لكن سرعان ما حشد الألم في عموده الفقري ومعدته التعذيب. وبدون سابق إنذار، مزقت جسده وخزات حادة آتية من وسط بطنه، وأصيب بالشلل للحظة واحدة قصيرة ومؤلمة. ثم اختفى الألم، وتلاشى بنفس الضراوة الوحشية لانقضاضه. تاركًا إيّاه مع عرق بارد. لم يترك أي أثر له إطلاقًا، كما لو أنه لم يكن هناك من قبل، لكنه كان يعلم أنه ارتدَّ للقيام بهجوم آخر. مرة أخرى، تخلى عن الكفاح، وترك تفاؤله، وضرب بجبهته على الأرضية الوسخة المليئة بالبراغيث.

لم يكن يعرف الوقت ولكنه كان جائعًا، فمعرفة الوقت لم تكن شيئًا مهمًا بالنسبة له. ففي ظلام ليلته الأبدية، لم يكن لأشياء مثل الوقت، أو اليوم، أو الجمال أيُّ معنىً. كانت بالنسبة له أشياء تافهة وغير ملحوظة تقريبًا، لقد كانت مستحيلة وتقع خارج حدود الظلام المرير. فعالَمه لا يستجيب إلا لما يشعر به ويسمعه ويهرب منه. لأنه بدا، بالنسبة لمبَين الآن، حينما كانت فترة شبابه تنهار بشكل مرعب تحت وطأة الموت النهائي، أن حياته القصيرة كانت حياة انطوائية. زاحفًا ومبتعدًا بعرجه، تعامل مبَين مع العالم من حوله بسلْبيَّة وإذعان.

لقد فكر في حياته الجديدة هذه بعيدًا عن شوارع العاصمة. حيث كان أخوه، والذي كان واعظًا، قد انتشله من هناك، وأحضره إلى هذا الكوخ الهادئ جدًا، والمثير للشكوك. لم يكن هذا الشعور نابعًا من الافتقار إلى قسوة الحياة المدنية وضوضائها؛ أو إلى انعدام أصوات الخطى السريعة للأشخاص المشغولين الذين يذهبون لعمل، لم يدرك هو كنهه، متبخترين في مشيتهم، ودقيقين في مواعيدهم، إلاَّ أنهم كانوا يجيبون بين الحين والآخر على توسله لرمي قطعة نقدية نحاسية في قبعته تبقيه على قيد الحياة. لم يكن الأمر مجرد الشعور بالنسيم وهزيز الرياح عبر الأشجار المحيطة بسجنه الجديد، بل كان يعلم أن صَمْتَ أخيه في الآونة الأخيرة يخفي شيئًا ما، شيئًا غريبًا، ومع ذلك، ولربما كان يخفيه متعمدًا في نبرة صوته عندما كان يتحدث. أمكنة معرفة ذلك أيضًا، عندما كان شقيقه يكرر كلامه مرارًا وتكرارًا: "لقد أنقذتك من تلك العاصمة الهمجية حتى تتمكن من رؤية نور الرب".

لسبب ما، فقد تذكر العاصمة بنوع من الحنين إلى الماضي، ولا يعني ذلك أنه يعرف تلك العاصمة حقيقةً. ففي الواقع، لقد كان يكسب رزقه في شارع واحد فقط منها، وعندما يصبح الشارع خالياً من المارة، يذهب للنوم في الزقاق الخلفي.

لكن الشارع أصبح يعني حياته. صحيح أنه لم يستطع تحديد كم طول العاصمة، أو كم عرضها، أو مدى جمالها، أو كم كان حجمها. كانت هذه أشياء لا تهم. لقد اعتاد على سماع الحديث عن الطقس المُشْمِس، أو الصباح الرائع، أو الغروب الجميل، لغوٌ لا يستطيع مشاركته مع أحد أبدًا. كان المشاة يصدحون بالغناء إلى السماء الزرقاء، ويصفرون إلى صباح أصحاب المرح والبهجة بينما تغني خطواتهم في طريقهم على الرصيف، وهذا أمر من شأنه أن يعيّر به. وبرغم ذلك، سيكون سعيدًا. لأن هؤلاء هم الذين يستجيبون في الغالب لتوسله. لقد عرف كيف أن المال هو جوهر الحياة في المدينة. أناس أغبياء، وخطوات ثقيلة، وأصوات متعبة، وقلق خائن، وجيوب فارغة. لقد كان يعرف أيضًا ما هي قيمة النهار والليل بالنسبة لهم، عندما دفقت الشمس حرارتها عليه بسخاء، وكان الذباب يزحف على طول حواف شفتيه، أمضى الرجال والنساء الطيبون وقتهم في العمل داخل المبنى المجاور له والعديد منهم في بنايات أخرى أعلى الشارع. ستكون ليلة ميتة عندما تحتجب الشمس، لم يكن يعرف إلى أين ستذهب، ليخضع الشارع بعدها لبرودة عدائية. بعد ذلك كان مبَين يتسلل إلى الزقاق الخلفي، لقد كان دون مأوى ولكن لم يكن أحد يزعجه، ثم يسلّم ضعفه للنوم، وأحيانًا، لخساسة اللصوص. من مكان ما في أعلى المبنى، كان الليل مُفعم بالحيوية مع تلك الطبول التي تقرع بإيقاعات غريبة تستهويه. كانت الحناجر تغني، والقوارير تتكسر، والرجال يشتمون. كان يعلم أن هذا لا ينبغي أن يقلقه. لقد كانت فقط أصوات الرجال والنساء الطيبين الذين ثمِلوا في الماخور الليلي بعد يوم عمل شاق. وكان أيضًا دور القوّادين والعاهرات الوفير أن يبتسموا في طريقهم إلى جيوب الرجال الطيبين بعد يوم راحة طويل، يَحك بعضُهم وجوه بعضٍ أثناء العملية.

لم يعرف أبداً لماذا كانوا يعدون سيئين. لقد استيقظ الرجال والنساء الطيبون عندما أزاحت أشعة الشمس الدافئة القادمة من زقاقه الخلفي برد الفجر المعاند. بعد ذلك ذهبت العاهرات والقوّادون إلى أسِرَّتِهم، فماذا في ذلك؟ نوعًا ما كان يفكر في أولئك الرجال في تلك الليلة بحسد الجاهل الفضولي، يتذكر أنه سأل أخاه ذات مرة عن عمره، فقيل له "أربعة عشر عامًا". لا يستطيع معرفة الكثير، ولكن يمكن أن يكون مبَين أكبر سنًا بكثير. لم يستطع أن يقول - هل هذا مهم؟ لكن من المؤكد أن شقيقه قد تزوج في سن قريبة من عمره. ومع ذلك فمبَين نفسه لن يكون قادرًا على مدّ يده لتحقيق حياته بنفس الطريقة. كان بإمكانه فقط أن يشتاق بعجز إلى ما وراء متناول الظلام والعرج. في مثل هذه الأوقات عندما يتغلب عليه الرثاء المرير للذات، كان يفكر في فلسفته الخاصة بالحياة ثم يبتسم بكل فخرٍ وشجاعةٍ.

"تناول هذا الدواء." كان هذا صوت زوجة أخيه، سارة، أثناء دخولها الكوخ. قامت برفع رأسه ببطء وحنان وأسقته الكأس. ما كاد السائل المُرّ يسير عبر حلقه إلاّ وحدثت نوبة ألم أخرى مزقت معدته.

- "ستكون بخير قريبًا. سيلطف بك الرب". قالت سارة

كان يعرف أنها تعلم أن بقاءه على قيد الحياة شيء ميؤوس منه. انسحبت بعد أن وضعته على السرير والذي حاول التعود عليه منذ أن "تم إنقاذه" من الرصيف الصلب. عَلِمَ من صوت الخطوات الثقيلة أنّ أخاه حِزْقيال قد دخل الكوخ. جلس أخوه على سرِيرهِ. ولم يدر أي حديث بينهما لمدة طويلة. لم يكن من المتوقع أن يبدأ هو نفسه الحديث. حيث كان طوال حياته يتحدث مع نفسه في أفكاره، ولمدة طويلة في الشارع، باستثناء ندائه الآلي بـ "نعم؟"، لم يكن لديه من يخاطبه سوى نفسه. فحينما يتحدث إليه أي شخص، كل ما يمكن أن يفعله مبَين هو أن ينقل الموضوع على نمط من التفكير غير التواصلي في ذهنه.

- "مبَين، هل تؤمن بالرب؟" سأل حِزْقيال.

لم ير سببًا في أن يسأله أخوه هذا السؤال. وأجاب بينه وبين نفسه: "لا أعرف. ولا أعتقد أن معرفة هذا الشيء مهم." لقد تذكر والدتهما المتدينة التي ماتت منذ زمن بعيد، كانت تقول إن كل الرجال عبارة عن تيار واحد، تدفق واحد يمرّ خلال صخور الحياة. ومن خلال عملية لف وتدوير الحصى، سوف يتسخون في الأرض الموحلة. لقد بكى هؤلاء الرجال في شلالات ودوامات الحياة، وضحكوا وغنوا عندما كان التدفق سلسًا وهادئًا. وبينما كان بعضهم يبكي ويدور في الحفر الموجودة في وادي الحياة، كان بعضهم، في أماكن أخرى، يضحك ضحكة المنتصر. لكن بدا لمبَين أنه لم يكن يبكي فقط، بل لم يكن حتى جزءًا من ذلك التيار الذي تشعبت مياهه إلى وادٍ ضيقٍ باتجاه البركة المقدسة. إنّه لم يكن حتى تيارًا منحدرًا من الخليج الواسع إلى الطوفان والفوضى الأبدية في بحر ابليس المشتعل. كلا، بل كان مثل السائل المُرّ الذي في حلقه وليس كالماء العذب، لذلك لم يرَ أي سبب يجعله يؤمن بالرب.

لقد سمع كثيرًا "إنّ الرب قد زوّدنا بكل ما نحتاج إليه". لكن هل فعل ذلك؟ "الرب طهارةٌ بيضاءٌ ونورٌ أبدي." ولكن ماذا كانت تلك النظافة؟ وماذا يعني النور لرجل أعمى؟ ألم تتضمن حياته جهل وظلمة لا يستطيع أحد أن يفهمها؟ ألم يكن الموكب الصباحي لعيد الميلاد المجيد للرجال والنساء الصالحين في العاصمة يعني له أي شيء أكثر من أن الرجال السخيين في الأمس سيحضرون، مما يعني المزيد من المال ليضعوه في قبعته؟ بينما هم يغنون ويصْفِرون بالترنيمة والهَلِّلُويَا باكرًا في الشارع؛ وعندما يسكرون ويشتم بعضُهم بعضًا في وقت أبكر من المعتاد، يشعر مبَين أنه لا ينتمي لأحد، وأنهم قد نسوه. لكن هل تذكّروه من قبل أو لاحظوا وجوده؟ صحيح أنهم سوف يدعون له بطبيعة الحال، وسيلقون له قطعة نقود معدنية. ولكن بدلاً من جلب معرفة المسيح إليه، كان أكثر ما يرغب فيه هو تركه وشأنه، فإن بعض الرجال والنساء المسيحيين الصالحين سيلعنونه مرة أخرى، وسينادونه بالقوي البنية، وأن إعاقته تزداد كل يوم بسبب متعته في التسول بتكاسل.

يمكنه أن يكتشف ذلك أيضًا من خلال الطريقة التي تعاملت بها السلطة في العاصمة معه.  وكان ما يثير استغرابه غالباً أن السيارة الكبيرة التي تقوم بإفراغ صندوق القمامة لم تمحه من الوجود وسط تلك الضوضاء الصاخبة التي تحدثها. ومع كل ذلك، كان مبَين مقتنعًا بأن الاعتقاد والتشبث والحلم بحياة مستقبلية لأمر رائع. كان هذا الشعور مجيدًا، إلى هذا الحد، وبعيدًا جدًا حيث يقبع النور خلف آلام الظلام، نورٌ أكبر وأكثر أهمية من ذلك الذي حرمت منه عيناه. وأن هناك من سوف يفهم ويستنهض براءة حياته المعاقة مع المختار. لقد أعطاه هذا أملاً، وغنى أغنيته السعيدة، في صمت لنفسه، وبشكل سرِّي، تاركًا وجهه واضحًا بيّننًا للمارة. على الرغم أن هذا الفكر السعيد ملأ وقته، فقد كان أيضًا ملجأه في الليل، وحيث وجد الآخرون ملاذهم في الماخور الواقع فوقه، كانت روحه لها وجهة، مثل تلك الرسائل التي كانوا يسقطونها في صندوق البريد العمودي الذي كان يرتكب مبَين أحيانًا خطأ الاتكاء عليه. في كثير من الأحيان عندما كان يجلس هناك على الرصيف، كان يتمنى أنْ تكون هناك نهاية لرحلته. لقد تمنى أن تكون روحه حرة، تتجول في كل مكان، وليست روحٌ محبوسةً في جسد تفوح منه رائحة العرق، جسد لا يغتسل إلا عند هطول المطر، جسد لا يعرفه إلاّ عبر تحسسه له.

- "يا مبَين، لقد سألت هل تؤمن بالرب؟" كان هذا صوت حِزْقيال مرة أخرى.

- "وقد أجبتك لا أعرف،" أجابه بوهن.

- 'لا لم تجبني. كنت فقط ترقد هناك تنْشِج."

استلقى مبَين على السرير، وهو يعلم أن هناك هجومًا آخراً قادم.

"يا مبَين، أنا، أنا أريد أن يُخلّصَك المسيح. هل تعلم إلى أين يذهب العصاة عندما يموتون؟ هل تعرف أين يذهب أولئك الذين خُلِّصُوا؟ كان هناك رجل يدعى جيسـ ... "

- "نعم، أعلم،" قالها مبَين كاظماً غيظه، "لهذا السبب أحضرتني إلى هنا."

- "وهل تقبل أن يُخَلّصك؟"

- 'لا أعلم. لكنني الآن أرى نور الخلاص الذي طالما فكرت فيه بطريقتي الخاصة."

- "أنت أسوأ من يهوذا نفسه!" هسهس حِزْقيال في غضب مكبوت، "ألن تتوقف أبدًا عن التفكير في إلهك حتى وأنت في سكـ ...، في هذه الساعة؟ إني أريدك أنْ تُعَمّد."

لقد أصبح مبَين أكثر هدوءًا الآن، وكان يبتسم لشيء ما بعيد. رأى حِزْقيال بأن الاستمرار بهداية أخيه أمر ميؤوس منه. ومع ذلك، فقد كان عازماً على عدم تسليم روح أخيه للشيطان.

- "مبَين، ألن تتبع طريق الرجال والنساء الصالحين؟"

بدأت قوى مبَين تنهار بسرعة، لم تظهر عليه آثار الألم بل الوهن. ثم ارتعش رأسه على السرير.

انحنى حِزْقيال ولمس بيده المرتجفة الجبهة الباردة لأخيه.

- "لقد توفى." قالها بصوت عالٍ لنفسه.

- "نعم، لقد توفى." همست سارة.

- "وكان مبتسمًا" قالها ملتفتًا إلى زوجته.

- "نعم، كان مبتسمًا."

 

1 - Kibera, L. (1985). A Silent Song. In Grandsaigne, J. de & Nnamonu, S. (Eds.), African Short Stories in English: An Anthology (pp. 99- 103). St. Martin's Press: New York

2 - روائي وقاص كيني


عدد القراء: 3282

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-