غابة الجُرَيْس The Bluebell Woodالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 20:31:19

د. أحمد الجذع

أكاديمي ومترجم – اليمن

توني بيك1  (Tony Peake)

ترجمة: د. أحمد الجذع

كانت الرحلة الاستكشافية قد انطلقت عند الساعة التاسعة صباحًا بالضبط، قالت مارثا بخفة "لا نريد أن نتأخر عن موعد الغداء، أليس كذلك عزيزتي سارة؟" لكن عندما قُرعت أجراس الكنيسة عند الساعة العاشرة، بالكاد وصلوا إلى سفح التل حيث كانت قمته المشجّرة هي وجهتهم.

كانت مارثا تتحسس بيأسٍ جيب تنورتها، حيث لم تستطع أختها سارة أن تلاحظ، باحثة ًعن منديلٍ غير ملائم نظرًا لكمية العرق التي كان من المتوقع أن يمسحها، وقالت: "أعتقد يا أوين، إذا أخذت هذا الجانب، وحاول أن تتحرك يا ولدي، فالوقت لا يسعفنا، وأنا آخذ هذا الجانب، وأنتِ يا لوسي، إذا ذهبتِ إلى المقدمة …" "وأعتقد،" قاطعت سارة بلطف، "لقد انهكتم أنفسكم. إن هذا التل شديد الانحدار، وإلى جانب ذلك، إن الهروب من جو المنزل له شيء جميل بحد ذاته، ولا أستطيع أن أتذكر متى حظيت بمثل هذه النزهة الرائعة، إذن لماذا لا نكتفي فقط …"

كانت لوسي، التي انتقلت في هذه الاثناء إلى مقدمة كرسي سارة المتحرك، قد ربتت على ذراع خالتها.

وابتسمت لوسي وقالت: "يا خالتي القديسة، لا تقلقي، فنحن نتدبر أمورنا جيدًا. إن كل تلك الساعات التي يقضيها أوين في صالة الألعاب الرياضية اللعينة لا بد أن تؤتي ثمارها، ألا تعتقدين؟" فرد عليها شقيقها الذي كان عادة لا يتكلم إلا بكلمات قليلة: "ومع ذلك، إذا كانت الخالة سارة لا تمانع، ربما نستطيع فقط …" لم يكمل جملته حتى حدقت مارثا في ابنها بنظرة حادة بشكل خاص وقالت بحدة: "هل يجب أن أذكرك يا أوين، أنه منذ أن انتقلنا إلى هنا، كنت دائمًا أعد خالتك بأننا سنأخذها يومًا ما إلى غابة الجُريس، حتى لو لم تُلح هي عليّ بشأن هذا الموضوع، وإذا لم نفعل ذلك اليوم …" ثم قطعت حديثها فجأة ولكن ليس قبل أن تتابع سارة نصف جملة أُختها إلى نهايتها المحتومة، الربيع الأخير، سيكون هذا ربيع سارة الأخير.

"إذن لنبذل قصارى جهدنا، أليس كذلك؟" اختتمت مارثا وصوتها يرن في أُذن سارة مثل صوت الآنسة سبرينغر، مُعلّمة الرياضة السابقة، لدرجة أن سارة لم تستطع منع نفسها من الارتعاش. لقد كرهت الآنسة سبرينغر، التي كانت تعتبر الحياة كلها سباقًا طويلاً ومضنيًا بالعرق، وكان أمثال سارة - لأن سارة لم تبذل جهدًا بالطريقة المطلوبة، في نظر الآنسة سبرينغر - لا قيمة لهم على الإطلاق. الآنسة سبرينغر ذات النفس الكريهة، والمُتبلدة الحس، وقليلة الصبر، تلك الآنسة سبرينغر التي يتربص ذكراها في صورة شقيقة سارة ذاتها، لأن مارثا كانت دائمًا تبذل قصارى جهدها وستظل كذلك دائمًا. على سبيل المثال، بينما كانت هي وطفليها يئنان ويكافحان من أجل تحريك كرسي سارة المتحرك صعودًا إلى أعلى تلةٍ في القرية، في أحسن الأيام، أو هكذا كانت مارثا تقول طوال الصباح، لرؤية أزهار الجُريس في أبهى صورها.

كانت سارة تدرك أنه ينبغي عليها أن تكون مُمتنة، لأنه وفي آخر فرصة متاحة لها في ربيعها الأخير، كانت أختها تبذل كل هذا الجهد من أجلها. كانت سارة متلهفة في أن ترى بأم عينيها، وفي اليوم الأمثل لذلك أيضًا، زهور الجُريس التي طاما تغنت بها مارثا.

في هذه الأثناء صرخت لوسي: "حذار، الخالة تبدو غير مرتاحة على الإطلاق، هل أنتِ بخير يا خالتي القديسة؟ لقد عبستِ بوجهك هكذا. نحن نحاول ألا نزعجك كثيرًا."

مُمتنة، نعم، حقًا يجب أن تكون ممتنة. فلماذا إذن هذا الشعور بالنفور المألوف تجاه مارثا؟ مثلما اعتادت أن تشعر به طوال تلك السنوات في المدرسة، عندما كانت مارثا تفوز في كل سباق، كانت هي المفضلة لدى الآنسة سبرينغر، والتي كانت تردد، لو أنكنّ أيتها الفتيات الأخريات كنتنّ مثل هذه المارثا! هل كان ذلك لأن مارثا تعتقد، أنه حتى الشيء السريع الزوال مثل غابة الجُريس، يمثل دورة أخرى في سباق الحياة؟ إنه سباق، كالعادة، لتكون هي الأفضل، وفي هذه الحالة، سباق ضد الزمن. إنه الزمن بأكثر من مظهر. أولاً، فرصة المشاهدة القصيرة لرؤية الغابة في أبهى حُلِلِها. ثانيًا: حقيقة أن الوقت بشكل عام كان ينفد الآن بالنسبة لسارة، وينفد بسرعة.

وما أن استقلت سارة هذا القطار الفكري، حتى وجدت نفسها أسيرة في عرباته المندفعة، كأنها في سجن من صُنع خواطرها. كان دوي القطار، كلاكيتي كليك! كلاكيتي كليك! يتردد صداه، لربما كان ذلك بسبب تأثير أدويتها.

هل كان هذا فقط أو حتى العاطفة هي التي جعلت مارثا مصممة على أن تُظهر لسارة، بنت المدينة، المناظر الموسمية الهامة في الريف الإنجليزي؟ أم كانت هذه النزهة، وهنا دفعت أفكار سارة بها إلى نفق، مجرد نزهة أخرى في سلسلة طويلة من التذكيرات بأن مارثا هي الناجحة (زوج وطفلان، وفي نهاية المطاف، المنزل الجورجي2 في البلدة، وغابة الجُريس على التل خلف قريتها)، في حين أن سارة المسكينة لم تنجح أبدًا في الهروب من ضاحية لندن الكئيبة حيث وُلدتا؟ أو الحفاظ على وظيفة ثابتة، أو حتى العثور على صديق لها. في هذا الصدد، بغض النظر عن أنها أُصيبت بمرض عُضال وهي في ريعان شبابها. مرض تحملته مارثا فقط وهو المرض المشار إليه بحرف السِّي الكبير3(C).

وفيما يتعلق بالرواية التي طالما أخبرت سارة مارثا دائمًا أنها تكتبها، والتي كانت الذريعة الدائمة لتأجيلها لأي استقرار، حسنًا، لم تكن تلك الرواية التي أُثيرت حولها الضجة سوى مجموعة من الخربشات المبهمة المتناثرة…

خرج القطار من نفق أفكارها إلى يوم ربيعي مثالي، إلى غابة مشمسة جزئيًا وباردة، وبطبيعة الحال، مغطاة – كما كانت تعلم بأنها ستكون- بضباب أكثر قُربًا من البنفسجي منه إلى الأزرق، وأقل لونًا من حالة العاطفة، ومؤشر للأمل.

-"اللعنة!"

-"أوين، من فضلك!"

-"آسف!"

تسببت خصلة من العشب في تعثر أوين، واهتز كرسي سارة المتحرك، وعلى أثره فتحت سارة عينيها.

لقد اكتشفت سارة أنهم ليسوا حتى في منتصف الطريق صعودًا إلى التل، أو في مكان بالقرب من القمة. بعيدة عن وجهتها المقصودة، كما كانت دائمًا، عن أيّ من خطوط النهاية في الحياة، باستثناء واحد بالطبع، المركز الأخير.

كانت لوسي تبتسم ابتسامة خبيثة، وكأنها تشارك سارة في نكتتها الصامتة لنفسها.

-"لغة أوين، تُجنن ماما." أوضحت لوسي دون داعٍ.

- "إنه أوين نفسه،" صرخت مارثا، "الذي يُجنن ماما."

ومع ذلك، لم تُكلّف سارة نفسها عناء الرد، ولا حتى بابتسامتها المبتذلة المعتادة. بدلاً من ذلك، أغمضت عينيها مرة أخرى وأعادت ركوب القطار.

تُرى من منظور مارثا، هل كان أيّ من ذلك مهمًا بعد الآن؟ هل كان مهمًا على الإطلاق؟ إذن فماذا لو كانت حياتها، حياة لا تتكون إلاَّ من شقة مستأجرة، ونقص في العلاقات الاجتماعية، وخليط من الملاحظات غير المكتملة؟ هذه ليست القضية. لم تكن كذلك أبدًا. إذن ماذا لو لم تدوِّن أي شيء ذي أهمية على الورق؟ ومع ذلك فقد منحتها روايتها المزعومة حياة داخلية، حياة فكرية أكثر ثراءً وامتلاءً وتنوعًا من أي واقع آخر، وبالتأكيد، واقع شعرت أنها مؤهلة له. وبالمثل، ماذا لو لم تنجح عائلتها المتصببة عرقًا في الوصول إلى قمة التل؟ في خيالها كانت قد رأت بالفعل غابة الجُريس، وتعرفت بالفعل على ألوانها، وملمسها. حتى أنها إذا ركزت بما فيه الكفاية، لشمّت عطرها الفلفلي الخافت. والواقع، إن غابتها كانت رائعة للغاية، ونابضة بالحياة، وحسّاسة للغاية لدرجة أنه من المحتمل أن تُخيب أي غابة أخرى حقيقية أملها.

الحقيقة، كما هو الحال مع كل الحقائق، كانت بسيطة للغاية. إذا كنتِ تريدين غابة الجُريس، فما عليك سوى إغلاق عينيك. إنه بهذه السهولة. فقط أغلقي عينيك. وهناك تنتظركِ في خيالك، كما تعلمي دائمًا أنها ستكون: باردة، وجذابة، وفيما يبدو بلا نهاية.

وعن بُعدٍ وبهدوءٍ، كانت سارة تدرك دون وعي أن كرسيها قد توقف عن الحركة، من خلال صوت لوسي المرتفع والقلق، والذي أكده صوت أُختها الرنان، ثم صوت أوين الجهير الأجش. لكنها لم تعد تلتفت إلى موسيقاهم المتداخلة. لقد نزلت بالفعل من القطار، وبسرعة الهواء، دخلت غابتها ولدهشتها السارة، كانت تطفو بعيدًا تمامًا عن الأرض. وكأنها تعدَّت حدود الواقع وكانت قادرة، بالتالي، على الإعجاب بكل زهرة دون إلحاق الضرر بأي منها. لتذوق اللحظة كما ينبغي أن تذوقها، في انسجام تام. في سلام تام.

 

الهوامش:

1 - روائي وكاتب قصة قصيرة وكاتب سيرة ذاتية. ولد في جنوب أفريقيا، لكنه مقيم في بريطانيا منذ أوائل السبعينيات.

2 - العمارة الجورجية مسمى يطلق على الأنماط المعمارية التي وجدت بين عامي 1714 – 1830 نسبة إلى اسم أول أربعة ملوك بريطانيين حكموا في تعاقب مستمر في تلك الفترة.

3 - أشار الكاتب إلى الحرف (C) وهو أول حرف من كلمة مرض السرطان (Cancer).


عدد القراء: 257

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-