جدلية تأويلية الفهمالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-05-30 08:34:07

أسامة غانم

ناقد

لا تأويل بدون فهم. اشتراط ليس من الممكن تجاوزه، فعملية الفهم تسبق عملية التأويل، أي العملية التأويلية تأتي بعد استيعاب/استملاك الفهم. وهذا ما أكد عليه شلاير ماخر " 1768 - 1834" حينما يقول: "وحده الفهم هو مهمة التأويلية"1. وليس ذلك فحسب بل جعل هذه المهمّة، مهمّة "الفهم مهمّة لا متناهية"2، وهذا ما ذهب إليه عبدالقاهر الجرجاني (ت 471) في كتابه "دلائل الإعجاز" قبله منذ مئات السنوات.

 لقد شهدت البلاد العربية في القرن الثالث الهجري، ظهور الاتجاه الباطني، الذي كان يؤمن بأن لكل ظاهر باطنًا، ولكل تنزيل تأويلاً. وأن للنصوص الشرعية لها معانٍ باطنية خفية مختلفة عن المعاني الظاهرة. وقد تعددت طوائف الباطنية من حيث الأسماء والألقاب التي أطلقت عليها، ومنها: الإسماعيلية – القرامطة – النصيرية – الدروز – والسبعية – والخرمية3، يقول أخوان الصفا في تأكيد المعنى الباطني للكتب المقدسة والنصوص الشرعية: "أعلم أنّ للكتب الإلهية تنزيلات ظاهرة، وهي الألفاظ المقروءة والمسموعة، ولها تأويلات باطنة، وهي المعاني المفهومة المعقولة"4.

لذا حاول بعض الكتّاب العرب إلصاق تهمة الباطنية قسرًا بالتأويلية الغربية، مع مهاجمة الحداثة، وذلك من خلال مغالطات مفضوحة، والعمل على مقارنتها بالباطنية والغنوصية، وجعلها قرينة لهما، بل الأدهى من ذلك، عندما حاولوا بكل استماتة أن يجعلوا طروحات وآليات وأصول ومفاهيم ومرجعيات الفلسفة التأويلية الغربية، مشابهة للباطنية أي قدم على قدم، وليس هنالك أي فرق بينهما، بل عملوا على طمس مفهوم التأويل من اللغة العربية، وابتعدوا عن علم الدلالة الذي يبحث في المعنى ونظرياته مع كيفية جعل المفردات ذات معنى كليًا، رغم أن "المعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنىّ ثم يفضي بك ذلك المعنى الى معنى آخر"5.

وأطلقوا على الفلسفة التأويلية المعاصرة التي تنتمي الى الحداثة، أي التأويل بشكل اعم اسم "الباطنية الجديدة الحداثية": "تتحدد معالم الباطنية الجديدة بشكل ظاهر في المدرسة الحداثية العربية، فقد تبنت هذه المدرسة حقيقة النظرية الباطنية وامتثلت روحها بكل وضوح، فقد جعلت الرؤية الباطنية أصلاً من أصولها ومنطلقًا من منطلقاتها المعرفية، ورتبت عليها النتائج نفسها التي ترتبت على الباطنية القديمة، فلا يكاد القارئ يجد فرقًا بين التشكلين في حقيقة التأويل الباطني"6.

مقابل هذه الاتهامات والمغالطات، وخلط الأوراق، هنالك بعض الكتّاب العرب من يرفض ذلك، ويبين بأن هذه الاتهامات مزيفة، وبعيدة عن الحقيقة، وليس لها أية صحة من الواقع، كما يقول ذلك د. محمد البو غالي في كتابه "الباطنية بين الفلسفة والتصوف"، عندما يتكلم عن الباطنية وليست عن التأويلية التي تختلف عنها اختلافًا جذريًا، على شكل تساؤلات عقلانية مع الحرص على الوضوح والتفريق بينهما "لماذا يسعى الكل إلى محاكمتها وإدانتها واتهامها هل لطبيعتها وغموضها وآليات اشتغالها ومنهجها أو لعدم عقلانيتها مما يجعل البعض ينزع عنها وضع المعرفة والعلم والمادة العلمية. لماذا هي مضطهدة ولا يسمح لباطني بالتعبير عن باطنيته؟"7.

رغم أنّ هنالك تأكيد بتعّدد معاني القرآن، لأنه الكتاب الوحيد الذي يؤول (يفسّر) نفسه بنفسه هو القرآن، وأصل هذا موجود في كلمة للإمام علي بن أبي طالب في "نهج البلاغة" يقول فيها إنّ القرآن "يشهد بعضُه على بعض، وينطق بعضُه ببعض"8. فالتأويل الذي هو نشاط الفهم وفعّاليّته، ليس علاقته بالنصوص فقط، بل علاقته بالعالم نفسه، فالكلمة الدالة هي تأويل.

الهرمينوطيقا كلمة تعود أصولها إلى الفعل اليوناني hermeneuein بمعنى: أوّل/فسّر، والاسم: hermeneia بمعنى: تأويل/تفسير.

وعلى هذا الأساس اعتبرت الهرمينوطيقا فن تأويل وترجمة الكتاب المقدس فالتأويل هو العلم الديني بالأصالة والذي يكون جوهر فلسفة الدين ويقوم عادة بمهمتين متمايزتين:                   

- البحث عن الصحة التاريخية للنص المقدس عن طريق النقد التاريخي.

- فهم معنى النص عن طريق المبادئ اللغوية.

ويعتبر أول من وضع معالم التجربة التأويلية أرسطو حسب ما أكده غادامير، ولكن حصل تطور كبير للمصطلح مع تطور مراحل التفكير البشري. في البداية كان يقصد بالهرمينوطيقا منهج تفسير للكتاب المقدس وأصوله وأحكامه، لحين مجيء شلايرماخر الذي أخرج الهرمينوطيقا من استعمالها الديني، وتوسع بها حيث اعتبر أن النصوص على اختلاف اشتغالاتها تتفق في كونها ذات بنية لغوية قابلة للفهم والتفسير، وجعلها منهج بحث سيتضح تأثيرها بعد أكثر من قرن، حين يصبح التأويل أحد أهم مناهج العلوم الإنسانية في القرن العشرين، يقول غادامير: "تدل الهرمينوطيقا في علم اللاهوت  "الثيولوجيا" على فن تأويل وترجمة الكتاب المقدس "الأسفار المقدسة" بدقة فهو في الواقع مشروع قديم أنشأه وأداره آباء الكنيسة بوعي منهجي ثم اتسع نطاقها للتحول إلى تصور فلسفي يتجاوز النصوص الدينية"9.

وعلينا منذ البداية أنّ نعلم أن في تعريف المعنى النظري لمفهوم التأويلية ثلاث نقاط أتفق عليها كل من اشتغل بالتأويل من شلاير ماخر إلى ريكور، متواجدة في مفهوم التأويلية:

1 - أنّ التأويلية "فنّ في الفهم".

2 - أنّ الفهم لا يتمّ من غير وظيفة "التأويل".

3 - أنّ موضوع التأويلية هو "اللغة" بعامة.10

وحقيقة الأمر، أنّ هناك الكثير من التساؤلات التي تظهر في تناولنا لـ"هكذا موضوع"، أليس التأويل نوعًا من الفهم؟ وماهي جدلية العلاقة بين النص والمؤول؟ وما هي جدلية العلاقة بين النص والواقع؟ وما هي جدلية العلاقة بين المؤلف والمؤول؟ يكون الوسيط الشامل لهذه الجدلية هو التساؤل، هذا جعل ريكور يعتقد بأنه لا يوجد فهم ذاتي دون وساطة، مما أدى إلى مزيد من المنهج الجدلي في عمله. وهو توجه سعى من خلاله إلى إيجاد أرض حياد تجمع بين متناقضين وتسمح بالتحرك بينهما ذهابًا وإيابًا، وتحديد أرض كتلك يؤدي إلى فهم مضاعف والذي يأتي دائمًا من التأويل ولكنه منفتح على النقد أيضًا.

التأويلية هي فن أن نفهم، وأن نجعل أنفسنا مفهومين، أن الفهم هو الفعل التأويلي المتكّون من ضم أشياء محددة مثل: الكلمات – الإشارات – والأحداث لشيء كامل ذا معنى. لذا أن التأويلية (الهرمينوطيقا) منهج للغوص للبحث عن المعاني والدلالات الخفية، والكشف عن الرموز والإشارات بما يجعله منهجًا قد يتجاوز الداخلية للنص المبحوث. عليه تكون علاقة المؤول بالنص هي علاقة فهم وإدراك المعنى بينهما، يطلق عليها غادامير اسم الحوار "أي المشاركة"، وكما يقول غادامير في نصه "في حلقة الفهم" (1959): "يتجلى نشاط فن التأويل في إيضاح الفهم ليس كتواصل سري وعجيب بين النفوس، وإنما كمشاركة في بلورة معنى مشترك"11، أن الفهم والإدراك مسألة تاريخية في حدّ ذاته، وأن التجربة الهرمينوطيقية والفهم يشكلان أمرًا جدليًا وتابعًا لمنطق السؤال والجواب، من خلال امتزاج الأفقين التاريخيين: أفق الإنسان وأفق النص، ليكون الفهم هو الحصيلة. ففي "تفكير غادامير إنمّا نرى الأشياء في التاريخ ومن طريق التاريخ، وليس من خارج التاريخ، وإنّ التاريخ واللغة لا يشكّلان سدًّا وحائلاً دون الفهم، بل هما وسيلة للفهم والمعرفة"12. فالتأويل عنده عملية فهم، وذلك بربط وعينا الحاضر بالتاريخ، ورأى أنّ الفهم هو فعلُ تأويل دائمٍ.

لم يقدم ريكور نظرية عامة للتأويل، بل اعتبرت تأملاته في الهرمينوطيقيات نفسها مثالاً على الممارسة الفلسفية في التأويل والمؤدية إلى تصور حول ما يجري في النهاية وراء فعل كهذا: الحاجة الى التأويل لإضفاء معنى على الحياة الإنسانية، والانتقال من فهم أولي الى أعمق على أساس التأمل النقدي واستثارة الخيال، واستقراء تقنيات واجراءات الشرح متى تعسر الفهم، واستيعاب معنى الخطاب في العالم الذي يعكسه باعتباره عالمًا يمكننا أن نسكنه. وأخيرًا مزيدًا من فهم الذات التي تعتبر حجر الأساس في تأويلية بول ريكور.

يرى شلاير ماخر ودلتاي، أن موضوعية الفهم والتأويل تحتم على المؤول أن لا يحكم على النص التراثي المنتمي لحقبة تاريخية ما بأحكام يستلهمها من زمنه التاريخي الحالي، لأن ذلك حسب وجهه نظره يُعد نوع من الإجحاف بحق الماضي الذي ينبغي فهمه حسب معطياته وحسب سياقه التاريخي، لا حسب سياق المؤول، لأن المهمّة الملقاة على عاتق الهرمينوطيقا وينبغي عليها القيام بها إنما تتمثل في بذل الجهد التأويلي من أجل استعادة المعنى الأصلي الأول عبر إعادة بناء موضوعية للحظة التاريخية التي شهدت إنتاج النص، الأمر الذي اعترضت عليه بشدة الاتجاهات الهرمينوطيقية التي وحسب منظورها ترى أن الفهم والتأويل لا بد من أن يكون منطلقًا من الحاضر التاريخي الراهن الذي يمثل ويشكّل أفق الموقف التأويلي للمؤول نفسه، وسخرت من المبدأ القائل بإمكانية استعادة الماضي كما هو، ورأت أن ذلك مستحيل، ويتنافى مع التاريخية نفسها، فالماضي قد ولى ومضى وليس من المنطق والواقع القول بعودته في الزمن الحاضر. "فعالمية التجربة التأويلية ترتبط بكل تأكيد مع تحديد حقيقي لكل تجربة إنسانية ومع الحدود المفروضة على تواصلنا اللغوي ومع إمكانية التعبيد"13. حيث يدعي غادامير أن اللغة هي الأفق العالمي للتجربة التأويلية، وكذلك يزعم أيضًا أن التجربة التأويلية هي بحد ذاتها عالمية. هذا ليس فقط بمعنى أن تجربة الفهم مألوفة أو منتشرة في كل مكان. تنبعث عالمية علم التأويل من الادعاء الوجودي بالتفسير التأويلي الذي تقدم به مارتن هيدجر في عشرينيات القرن العشرين، وأن غادامير قد قام بطرح فكرة مبنية على أن التأويل هو الأسلوب الأساسي في وجودنا في العالم، وبالتالي فإن الفهم هو الظاهرة الأساسية في وجودنا. "ففي كلّ إدراك للعالم وتوجه في العالم يشتغل عنصر الفهم، ومن خلال ذلك يقام الدليل على شمولية التأويلية"14، هكذا يتضح أن التأويل هو عالمي، ليس فقط فيما يتعلق بالمعرفة، سواء في العلوم الإنسانية أو في أي علم آخر، هنا يتبين لنا بأن الفهم هو جزء من الفلسفة نفسها، والفلسفة في جوهرها هي التأويل. وهكذا "تصبح الفلسفة تأويلاً للتأويلات"15.

إن مفهوم غادامير عن الفهم على أنه غير قابل للاختزال في الأسلوب أو التقنية، إلى جانب إصراره على أن الفهم هو عملية جدلية مستمرة ليس لها انجاز نهائي، لذلك يقول غادامير ما معناه، أن كل فهم ينطوي على شيء من هذا القبيل هو لغة مشتركة، وإن كانت اللغة المشتركة التي هي في حد ذاتها تشكّلت في عملية فهم نفسه. وبهذا المعنى، فإن كل الفهم، وفقًا لغادامير، تفسيري، ولكنه يعود ليعطي للغة والمفاهيم الأولوية في التجربة التأويلية، فاللغة بالنسبة له، ليس مجرد أداة، يمكننا بواسطتها التفاعل مع العالم، ولكنها هي الوسيط ذاته لهذه المشاركة. على اعتبار أن اللغة هي التي يمكن فهم أي شيء يمكن فهمه، كما اننا نواجه أنفسنا والأخرين. في هذا الصدد، تُفهم اللغة نفسها على أنها حوار أو محادثة بشكل أساسي، عليه "يتعيّن علينا، في ما يخصّ تراثنا الفلسفي، أن نتوصل إلى المهمة التأويلية نفسها. فالتفلسف لا يبدأ من نقطة الصفر، بل يجب أن نفكر ونتكلم باللغة التي بحوزتنا سلفًا. وهذا يعني اليوم، كما كان يعني أيام السوفسطائيين القدامى، قيادة اللغة"16. 

يرى ريكور أن هنالك علاقة جدلية وثيقة وقوية ما بين الشرح والفهم أكثر مما كان يعتقد سابقًا. يأتي ذلك عبر ما اسماه "العملية الجغرافية التاريخية" والتي تشكل مجمل التوثيق والبحث على الكتابة التاريخية مما يدفع للتساؤل عما إذا كان التاريخ يعاد تقديمه كصورة تعتمد على السرد والخطابية. لذا يقدم ريكور التاريخ كمكتوب "يرمز" للماضي باعتباره "كان". على هذا الأساس، يمكنه أن يتساءل مجددًا عن الوجود الإنساني كوجود تاريخي، بكونه داخل الزمان والاستثنائي في نهاية المطاف. بينما يتحقق الفهم التاريخي عند غادامير بالعمل الكلي "للبحث التاريخي نفسه. فما يصدق على المصادر التاريخية، بأن تُفهم كل جملة منها على أساس سياقها فقط، يصدق على مضمونها أيضًا. فسياق تاريخ العالم هو نفسه كلُ يجب أن يُفهم بمقتضاه معنى كل جزئية فهماً كاملاً، وهو نفسه يجب أن يُفهم، في الحقيقة، بموجب هذه الجزئيات. إن العالم التاريخي هو إن جاز التعبير، الكتاب الغامض العظيم، والعمل الكليّ للروح الإنسانية، المكتوب بلغات الماضي. ومهمتنا فهم نصوصه"17.

يرى غادامير أن المؤلف حالما ينتهي من كتابة الأثر، أو أي كتابة ما، ينفصل النص عن المؤلف، لذلك فإن معناه الحقيقي لا يرتبط بسياقه التاريخي. بل من خلال فهم جديد يتم في أفق الأنية/الحاضر. ففي هذه الحالة يصبح الماضي متوازيًا مع الحاضر دائمًا. بل متداخلين فيما بينهما في وضع المعاصرة. فهذه المعاصرة تفسح مجالاً لرؤى المؤول ومفاهيمه المسبقة. التي يعتبرها غادامير أساس وجودنا ونقطة انطلاق الراهن لفهم الماضي والحاضر معًا. لأن مهمة الهرمينوطيقا تنحصر أساسًا في فهم النص وليس المؤلف. أي أنّ النص يصبح معاصرًا. فألفهم هو مشاركة في تيار التراث/الماضي الذي يمتزج فيه الماضي والحاضر. وهذا ما يؤكد عليه غادامير في نظريته للتأويل، فلا ذاتية المؤلف ولا ذاتية القارئ هي النقطة المرجعية، بل هي المعنى التاريخي نفسه بالنسبة للزمن الحاضر. يرى غادامير أنّ التأويلية تدين للوعي التاريخي لبقائها في قلب (مركز) العلوم الإنسانية. أن الوعي التاريخي بالنسبة للتأويل عند غادامير هو من أهم المفاهيم ولذلك سماها "التأويلية التاريخية". فإن "الفهم تأويل دائمًا، ومن هنا، فإن التأويل هو الفهمُ بشكله الصريح"18. هذا نتيجة أن جدلية عملية الفهم في التأويل، مثلاً، هي نتيجة حوار المؤول مع النص، أو اندمج أفقهما كما يقول غادامير. وعليه يتخذ ريكور من تاريخ الفلسفة فضاء لاكتشاف هذه الإمكانية للتواصل والحوار والفهم، ومن ثم فضاء لاكتشاف الحقيقة التاريخية من حيث هي تجربة تأويلية بامتياز19. هنا يستخدم الفهم التاريخي كل المفارقات التاريخانية: "كيف يمكن لكائن تاريخي أن يفهم التاريخ تاريخيًا؟ كيف يمكن للحياة وهي تعبر عن نفسها أن تجعل من نفسها موضوعية؟ وكيف يمكن لها إذ تجعل من نفسها موضوعية أن تضيء معاني جديرة بأن يأخذها ويفهمها كائن تاريخي آخر يتجاوز وضعه التاريخي الخاص"20.

هذا مما يجعل بول ريكور يركز على العلاقات الجدلية بين مختلف التأويلات: الوجودية – البنيوية – التحليل النفسي – الظاهراتية، "سنحافظ دائمًا على العلاقة مع الأنظمة التي تبحث لممارسة التأويل بطريقة منهجية"21. ولكن تبقى أمامه مشكلة فلسفية أعم وأخطر هي تحديدًا "مشكلة وحدة الخطاب الإنساني"، فإن هذه المذاهب المختلفة المتباينة. قد بينت تفكك الخطاب، وذلك لأن وحدة اللغة الإنسانية، تشكل معضلة: "فما نحن اليوم سوى هؤلاء البشر الذين يمتلكون منطقًا رمزيًا، وعلماً تفسيريًا، وأنثروبولوجيا، وتحليلاً نفسيًا، والذين هم، للمرة الأولى ربما، قادرون أن يتناولوا مسألة إجمال الخطاب الإنساني بوصفها مسألة وحيدة"22. تتميز هرمينوطيقا بول ريكور، بانها شمولية في انفتاحها، وامتلاكها على معطيات متعددة وغنية لمسار طويل. بدأ مع الفينولوجيا والوجودية والوعي التاريخي والانثروبولوجيا والتحليل النفسي والبنيوية والفلسفة التأملية والتحليلية، ومحاورات ارسطو وافلاطون، والمرور على ماركس ونيتشه وغادامير، لينتهي به المطاف الى هرمينوطيقا فلسفية تتجمع فيها كل المسارات الفلسفية المتعددة، من خلال جدلية الفهم، التي تشكل محور تأويلها وأساس متانتها وقوتها.

يسمي ريكور الطريق الذي يتم من خلاله تفعيل التراث/الماضي باسم التكرار السردي في كتابه "الزمان والسرد: الزمن المروي ج3"، "المهمة الأساسية لمفهوم التكرار هي إعادة تأسيس التوازن بين فكرة التراث المتداول"23 وبين السرد الأدبي، رغم أنّ الزمان يشكل مقومًا من مقومات السرد التاريخي مع الرمز والخيال، إذ يقول "ومن هذه التبدلات الحميمية بين إضفاء الصفة التاريخية على السرد القصصي وإضفاء الصفة الخيالية على السرد التاريخي، يتولد ما نسميه بالزمان الإنساني"24، استنادًا على الزمانية "للكائن" الإنساني الممتدة الما بين الميلاد والموت التي يعتبرها ريكور امتدادًا للآنية لتاريخية الإنسان "وأي شيء أكثر إغراءً من أن نماهي هذا الامتداد بفاصل قابل للقياس بين "آن" البداية و"آن" النهاية ؟"25، حيث يصبح الميلاد ، إذًا ، حدثًا من الماضي، ويصبح الموت، حدثًا مستقبليًا، وما بينهما أنية الإنسان، التي تشكل بامتدادها وجودها الحقيقي. هذه الآنية التي تبقى تبحث عن سبب وجودها طوال بقاءها بالوجود، متسائلة مثلما تسأل هيدجر: ما الوجود؟26، من خلال جدلية فهم غامضة حول الوجود، لا نعثر فيها إلا على تاريخية الكائن ذاته فقط. وليرجع السؤال المسؤول بوصفه سؤالاً. وهذه الجدلية بين الفهم/التأويل، وبين الذات/النص، والكائن/التاريخ، هي التي تشكّل التأويلية وجودًا.

فإنّ الفهم يدخل في صلب ما هو جوهريّ وشخصيّ. إنه التمتّع بالقوّة على إدراك إمكانات المرء الخاصّة في أنّ يوجد ضمن سياق عالم الحياة الذي يوجَد فيه. إنّه ليس القدرة على مشاركة الآخر مشاعره، ولا ملكة إدراك معنى من أنواع التعبير عن الحياة على مستوىً أعمق، بل الفهمُ هو شيء نحوزُه بوصفه نمطًا للوجود في أساسُ كلّ تأويل، وحاضرُ في كلّ فعلٍ للتأويل، واصلُ مشتركُ في تواجد الإنسان27.

الهوامش والاحالات:

1 - فتحي المسكيني – كيف صارت التأويلية فلسفة، موقع الحوار المتمدن، العدد 3686 في 2/ 4 / 2012.

اتفق ريكور أيضًا مع نظرية غادامير في الهرمينوطيقا/التأويلية والتي تنطوي على أن التأويل نوع من الاستيعاب/الاستملاك. رأى ريكور ذلك باعتباره موجه للممارسة في الحاضر أكثر مما كان غادامير يسميه "استيعاب التراث/استملاك التراث". إذ يظل للتراث دور في الحاضر إذا رفض أو انتقد من قبل الآخر.

2 - المصدر السابق.

3 - أبو حامد الغزالي – فضائح الباطنية، حققه وقدم له: د عبدالرحمن بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت، ص 11- 17. عبد القاهر البغدادي - الفرق بين الفرق، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، ط4، بيروت/لبنان، 2008، ص 250 – 275.  

4 - رسائل أخوان الصفا وخلان الوفا – تراث العرب، بيروت/لبنان، 1957، 4 / 138.

5 - عبدالقاهر الجرجاني – دلائل الإعجاز: في علم المعاني، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، بيروت / لبنان، 2001، ص 177. 

6 - سلطان العميري – الاتجاه الباطني في تشكله الجديد، مجلة البيان في 20/2/ 2012. وموقع طريق الاسلام الالكتروني في 13/ 3/2014. 

7 - احمد الونزاني – قراءة في كتاب الباطنية بين الفلسفة والتصوف للدكتور محمد البو غالي، المدائن بوست.

8 - د حسن ناظم – تأويلية الفهم، مجلة الحياة الطيبة العدد 36 شتاء – ربيع 2017، ص143 – 160.

9 - هانز جورج غادامير – فلسفة التأويل: الأصول. المبادئ. الأهداف. ترجمة: محمد شوقي الزين، منشورات الاختلاف/الجزائر، المركز الثقافي العربي/الدار البيضاء- بيروت، ط2، 2006م، ص 63.

10 -   فتحي المسكيني – كيف صارت التأويلية فلسفة. 

11 - هانز جورج غادامير – مدخل الى أسس فن التأويل والتفكيك وفن التأويل، ترجمة وتقديم: محمد شوقي الزين، مجلة فكر ونقد، العدد 16، فبراير/ 1999، المغرب، ص 85- 106.

12 - محمد عرب صالحي – الهرمينوطيقا الفلسفية عند غادامير: الإنسان ليس تاريخًا محضًا، تعريب: حسن علي مطر، مجلة الاستغراب، العدد 19 ربيع/ 2020، بيروت/لبنان، ص 50-75.

13 - هانز جورج غادامير- مدخل الى أسس فن التأويل والتفكيك وفن التأويل.

14 - هانز جورج غادامير – التلمذة الفلسفية: سيرة ذاتية، ترجمة: حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار الكتاب الجديد المتحدة، طرابلس/ليبيا، 2013، ص 302.

15 - بول ريكور – صراع التأويلات: دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة: د منذر عياشي، دار الكتاب الجديد المتحدة، طرابلس / ليبيا، 2005، ص 43.

16 - هانز جورج غادامير – التلمذة الفلسفية: سيرة ذاتية، ص 305.   

17 - هانز جورج غادامير – الحقيقة والمنهج: الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة: د. حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع، طرابلس/ليبيا، 2007، ص 262. 

18 - المصدر السابق – ص 418.

كذلك فإن مفهوم التأويل عند ريكور هو: "عمل الفكر الذي يتكون من فك المعنى المختبئ في المعنى الظاهر ويقوم على نشر مستويات المعنى المنضوية في المعنى الحرفي – صراع التأويلات ص 44".

19 - د. بلعاليه دومه ميلود – تأويلية التاريخ وسؤال التواصل عند بول ريكور، مجلة المعيار العدد 17 جوان / 2017، الجزائر.

20 - بول ريكور – صراع التأويلات: دراسات هيرمينوطيقية، ص 35.

21 - المصدر السابق – ص 42. 

22 - المصدر السابق – ص 47.

23 - بول ريكور – الزمان والسرد: الزمان المروي ج3، ترجمة: سعيد الغانمي، دار الكتاب الجديد المتحدة، طرابلس/ ليبيا، 2006، ص 113.

24 - المصدر السابق – ص 149.

25 - المصدر السابق – 107.

26 - هانز جورج غادامير – التلمذة الفلسفية: سيرة ذاتية، ص 313.   

27 - د. حسن ناظم – تأويلية الفهم.           


عدد القراء: 4136

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-