إشكالات قصيدة النثر في الرؤية والتجنيسالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 21:08:28

أسامة غانم

ناقد

تُعرّف قصيدة النثر بأنها قصيدة تتميز بواحدة أو أكثر من خصائص الشعر الغنائي، وتختلف عن شعر التفعيلة بأنها لا تتقيد بوزن شعري ولا تلتزم بالبحور الشعرية. لقصيدة النثر إيقاعها الخاص وموسيقاها الداخلية، والتي تعتمد على الألفاظ وتتابعها، والصور وتكاملها، الحالة العامة للقصيدة.

وتختلف عن النثر بأنها ذات إيقاع ومؤثرات صوتية أوضح مما يظهر في النثر، وهي غنية بالصور الفنية، تعتمد جمالية العبارة. كما أنها تقوم على الموسيقى الداخلية التي تنشى بين الكلمات في النص.

يعتبر مصطلح قصيدة النثر محط خلاف كبير بين النقاد والباحثين حيث بات البعض لا يفرق بينه وبين مصطلح الشعر الحُرّ، بسب تسميتها الحاملة لسمات الشعر والنثر، الا أنّ البعض الآخر يرى بأن هذين المصطلحين مختلفان تمامًا، ومن أبرز الفوارق بين قصيدة النثر والشعر الحر هو:

1 - اكتفاء قصيدة النثر بمادتها وموضوعها وأصلها شفويًا، أما القصيدة الحرة فقد حلقت لتسجن فوق ورقة أي ليس لها وجود الا كتابيًا.

2 - افتقار قصيدة النثر للتقطيع، أمّا الشعر الحرّ فإنّه يلتزم بالنظم وضرورة وجود فراغات في أواخر الأبيات الشعريّة، بينما تستمد قصيدة النثر هيئتها من بنية جملها. ومثال ذلك قصائد أدونيس في ديوان "كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل"، التي تبين أن كلْ قصائد الديوان تتشكل هيئتها من الجمل:

قبل أن يأتيَ النهارُ، أجيءُ

قبل أن يتساءَل عن شَمسِه، أُضيءُ

وتجيءُ الأشجارُ راكضةً خلفي، وتمْشي في ظلِّيَ الأكمامُ

ثم تبني في وجهيَ الأوهامُ

جُزُرًا وقِلاعًا من الصَّمْتِ يجهل أبوابها الكَلامُ

ويُضيءُ الليلُ الصّديقُ، وتنسى

نفسَها في فراشيَ الأيامُ

ثمّ، إذ تسقطُ الينابيعُ في صدري

وتُرْخي أزرارَها وتَنامُ

أُوقِظُ الماءَ والمرايا وأجلو

مثلَها صَفْحةَ الرؤى، وأنامُ1. "قصيدة شجرة النهار والليل"

لقد قامت الناقدة الفرنسية سوزان برنار (19 نوفمبر 1932 - 17 يوليو 2007) لأول مرة في تاريخ الشعر بكتابة تاريخ لقصيدة النثر من حيث نشؤها في أواخر القرن التاسع عشر، ولاسيما عند بودلير، باعتبارها جنس شعري متميز، وذلك في كتابها الموسوم "قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا" الصادر في باريس سنة 1959، وهو أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة في الأدب في جامعة باريس سنة 1958، بلغ عدد صفحاتها عندما نشرت الأطروحة في فرنسا في كتاب، نحو 814 صفحة، موزعة على ثلاثة فصول مع مقدمة تاريخية عن قصيدة النثر ما قبل بودلير. والذي نشر عن طريق دار المأمون العراقية بترجمة الدكتور زهير مغامس سنة 1993، وتعرّف سوزان برنار قصيدة النثر: "قطعة نثر موجزة بما الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلور ... خلق حر، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجًا عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، ايحاءاته لا نهائية"2.

بينما يأتي تعريف موسوعة "برنستون" لقصيدة النثر، مُحكم، محدد الأدوات، وواضح الغايات، وهو يمثل الرافد الأساسي الآخر لجماعة مجلة شعر أيضًا، بأنها: "هي قصيدة تتميز بإحدى، أو بكل خصائص الشعر الغنائي، غير أنها تُعرض على الصفحة على هيئة النثر، وأن كانت لا تعد كذلك.. وتختلف قصيدة النثر عن النثر الشعري بأنها قصيرة ومركّزة، وعن الشعر الحر بانها لا تلتزم نظام الأبيات، وعن قصيدة النثر بأنها عادة ذات إيقاع أعلى، ومؤثرات صوتية أوضح. فضلاً على أنها أغنى بالصورة وكثافة العبارة"3.

إما في الأدب العربي المعاصر، فقد كانت أول دراسة عن قصيدة النثر متأثرة بأفكار الناقدة سوزان برنار، للشاعر أدونيس، في مقالة له بالعربية عنوانها "قصيدة النثر"، نشرت في مجلة شعر اللبنانية العدد 14 ربيع 1960، فكان أول من أطلق على هذا النتاج قصيدة النثر، ومنذ صدور مجلة شعر تبنت الاتجاهات الشعرية الحديثة، لذا تبنت ما سمّي، فيما بعد، بقصيدة النثر، هادف من وراء ذلك  "قيام شعر طليعي تجريبي"4، وفي نفس المقالة يقوم أدونيس بإعطاء تعرّيف لقصيدة النثر استنادًا على ما جاء بكتاب سوزان برنار، باعتبارها قصيدة : "شاملة، متمركزة، مجانية، كثيفة ذات إطار. هي عالم مغلق، مقفل على نفسه، كاف بنفسه، وهي في الوقت ذاته كتلة مشعة مثقلة بلا نهاية من الإيحاءات، قادرة أن تهز كياننا في أعماقه. أنها عالم من العلائق"5.

أما ماهي قصيدة النثر عند عبدالقادر الجنابي؟، يضع الجنابي اشتراطات محددة في كتابه "ديوان إلى الأبد: قصيدة النثر/الأنطولوجيا العالمية"، وذلك طبقًا لرؤيته لقصيدة النثر المنقولة عن مقال الشاعر الفرنسي لوك ديكون، فهي: "عمل فني، وكأي عمل فني آخر، فهي ذات قابلية لتوليد انفعال خاص، يختلف تمامًا عن الانفعال الحسي أو العاطفي، ولتحقيق هذه الغاية، على قصيدة النثر أن تكون قصيرة ومكثفة، خالية من الاستطرادات والتطويل والقص المفصل وتقديم البراهين والمواعظ، عليها أن تكون قائمة بذاتها، مستقلة بشكلها ومبناها، لا تستمد وجودها إلا من ذاتها، مبعدة ومنفصلة تمامًا عن المؤلف الذي كتبها"6، وهذا الطرح يقترب كثيرًا من مقولة ماكس جاكوب عندما يقول: "قصيدة النثر لا تسعى لخلق شيء سوى ذاتها هي"7، وهكذا يبدو عبدالقادر الجنابي هنا متوافقًا للطروحات التي نقلها شعراء  "مجلة شعر" اللبنانية عن سوزان برنار في كتابها عن قصيدة النثر، ومن القصائد النثرية التي يستشهد بها الجنابي، قصيدة "شائعات سوق يحيى عام 334 هـ" للشاعر العراقي رعد عبدالقادر " 1953 – 2003":

 في سوق يحيى كثرت الشائعات، يقال إن الإله سينزل

في ثلث الليل الأخير بأسلحته.

باعة الشموع استعدوا للحدث، باعة المرايا نصبوا مراياهم في الطرقات

العطارون فتحوا زجاجاتهم الفارغة ليقتنصوا عطره الشارد

قد يكون من الصعب التوقع، ستكون الخيبة أصعب

قد لا يظهر في مراياهم

قد لا تقتنصه زجاجاتهم

ولكن من أين كل هذا الجمال المشع؟ وما هذه الرائحة الذكية الغريبة؟

الكل صامتون راسخون، لا يبرحون أماكنهم، تماثيل، عيونهم ثابتة في محاجرها، تطلع الشمس عليها وتغرب دون أن تطرف ويسقط المطر كالدموع على حجر لحاهم وأقدامهم،

منتبهون لأقل حركة، مهما كانت، لغصن أو لطائرٍ قد يحل بينهم ولكن ومهما أرهفوا أسماعهم ومهما حدقوا، لن يحسوا به، إلا وقد أصبح تمثالاً مثلهم، مثلهم تمامًا، يتوقع أن يحتل البويهيون السوقَ، ويتناقل مثلهم الشائعات. (2001).

وكثير من النقاد والشعراء العرب، رفضوا قصيدة النثر رفضًا قاطعًا لتبعدها عن أن تكون شعرًا بالنسبة للشعر العمودي أو شعر التفعيلة، رغم أن البعض يثبت بان قصيدة النثر شعرًا، فمثلاً نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" اعتبرت نصوص محمد الماغوط وزملائه ليست إلا نثرًا اعتياديًا، وانتهت إلى رفضها رفضًا تامًا اسمًا وشكلاً8، كذلك الناقد العراقي محمد الجزائري يرفض التعامل نهائيًا مع هكذا شكل واعتباره قصيدة 9، وتبعهم في هذا الرأي الشاعر العراقي سامي مهدي الذي يرى أن قصيدة النثر "ستظل شكلاً تعبيرياً نثريًا، لا شعريًا، لأنها تفتقر إلى واحد من أهم عناصر الشعر الموسيقى .. الإيقاع والنظم"10، بينما الناقد والمترجم العراقي عبدالواحد لؤلؤة عدا قصيدة النثر أن لها جذورًا في اللغة، وأساسًا في التراث العربي الإسلامي يتمثل في لغة القرآن، ثم هناك كما يرى لغة المتصوفة، التي يمثلها أروع وأحسن تمثيل المتصوف عبدالجبار النفري في كتاب "المواقف والمخاطبات"، والحلاج في "الطواسين"، فيقول في ذلك "هذا الكلام منثور دونه أسمى أنواع الشعر الموزون المقفى، وهو كلام يدعوك النظر فيه، وتمعن في تفصيلاته ومحتوياته. من هنا كانت قصيدة النثر... نوعًا من الأشكال الكتابية، التي ترقى إلى مرتبة الشعر لغة، رغم أنها لا تقع تحت تأثير الشعر شكلاً"11، والبعض من النقاد وجد في هذا الشعر الجديد أصداء لما ألفت من الشعر الغربي، واعتبروها محاولات جريئة، فالناقد العراقي فاضل ثامر يرى أن قصيدة النثر "نمط من أنماط الكتابة الإبداعية يوجد، ويجب أن يوجد، لا كنفي للشعر الموزون، بل كلون أدبي يقف إلى جانب الشعر والنثر، ويفيد منهما معًا"12. بل ويذهب الناقد فاضل ثامر أبعد من ذلك عندما يعتبر قصيدة النثر معلمًا مهمًا في الحداثة الشعرية "ربما مثلت تجربة قصيدة النثر في الشعر العربي الحديث معلمًا مهمًا من معالم هذا التحديث الشعري، حيث الطلاق التام مع البنية العروضية والموسيقية للشعر العمودي ولعروض الشعر الحر معًا. كما أن الانفلات من آسر البنية المتماسكة قاد أيضًا إلى ولوج فضاءات رؤيوية وصوفية جديدة. إضافة إلى استغوار جريء لمناطق اللاوعي والذاكرة والمخيلة"13.

إن الفضل كل الفضل يعود للناقدة الفرنسية سوزان برنار في كتابها "قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا"، من حيث جعلت الكتّاب العرب يقومونا بالتنظير لقصيدة النثر ويؤسسوا مفاهيمه ويصوغوا أسسه، ولقد أكد أدونيس أنه "أوّل من كتب قصيدة النثر في العام 1958، وذلك لدي ترجمته بعض قصائد سان جون بيرس، مشيرًا إلى أن هذه الترجمة، كشفت له عن طاقات أساليب تعبيرية لا يتأتى للوزن أن يحققها، وبتأثير هذه الترجمة كتب أوّل تجاربه في قصيدة النثر"14، ويتجلى افتنان أدونيس بقصيدة النثر عندما يطلق عليها تسميات عدة: قصيدة التجريب – أو قصيدة الأسئلة – أو الكتابة الشعرية نثرًا. وخاصة إذا عرفنا أن خصائص قصيدة النثر الأساسية التي طرحتها سوزان برنار هي: الإيجاز/الاختصار – المجانية/كثافة التأثير – الوحدة العضوية/التوهج. وهذه الخصائص لقصيدة النثر تتحول عند أنسي الحاج (1937 - 2014) إلى شروط ثلاثة أو عناصر ثلاثة باعتبارها ليست قوانين سلبية بل "إنها الإطار أو الخطوط العامة للأعمق والأساسي: موهبة الشاعر، تجربته الداخلية وموقفه من العالم والإنسان"15، بل يذهب أنسي الحاج في المقدمة لـ "لن" الصادر عام 1960، بالإشارة فيها إلى كتاب سوزان برنار، وأورد التسمية والأفكار التي وردت في الكتاب ذاته، والتي أشار إليها من قبلُ أدونيس في مجلة شعر العدد 14 في  "في قصيدة النثر"، ولكن بلهجة أعلى نبرةً وأكثر غرورًا، إلى حد التطرف، عندما يعتبر أنسي الحاج قصيدة النثر لا تعمل من "أجل تحرير الشعر وحده بل أولاً لتحرير الشاعر. الشاعر الحر هو النبي، العراف، والإله"16. أما أدونيس فكان أكثر رزانة وأكثر هدوء في طروحاته حول قصيدة النثر في مقالته. ورغم ذلك أثنى أدونيس على تنظيرات الحاج وابداعاته في مجال التأسيس لقصيدة النثر العربية. في رسالة بعثها إليه من باريس أوائل 1961م. 17.

لقد قام أنسي الحاج ببناء المقدمة من أجل الإجابة والتأكيد على السؤال الذي جاء في بداية المقدمة، "هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟"18، أجل، لقد قدمت الحضارات الإنسانية، منذ ملحمة جلجامش والواحها الطينية شعرًا عظيمًا في النثر. لذا يمكننا هنا "الإشارة إلى الجمع بين الشعر والنثر في تسمية هذه الظاهرة الشعرية لم تأت صدفة، لأن المصطلحات النقدية لا يمكن أن تأتي اعتباطًا كما هو الحال في معظم النظريات الألسنية في تفسيرها علاقة الاسم بالمسمى"19، ولكن يبقى السؤال معلقًا ومضافًا إليه عدة أسئلة مهمة وجوهرية تحتاج إلى الدراسة والبحث والاستقصاء لتحديد هوية هذه الكتابة الإبداعية ومرجعّيتها الأساسية:

1 - هل قصيدة النثر أو الكتابة الإبداعية التي نجدها اليوم وينخرط فيها شعراء الأمة العربية، شرقًا وغربًا، هي كتابة نجد لها أصولاً داخل تراثنا وتاريخنا الأدبي عامة؟

2 - أم هي مجرد الميل حيث يميل الإبداع الغربي؟

3 - وهل استطاع المنادون العرب بقصيدة النثر أن يقدموا لها خصوصية إبداعية تجعلنا نقول بوجود قصيدة نثرية عربية؟

4 - أم أن هذه الكتابة الإبداعية هي نتاج ضروري لتطوير "حضارة المركز" وقدرتها على ابتلاع الآخر لعجزه عن تطوير ثقافته ووقائعه؟20.

وهذه التساؤلات التي طرحت في بداية الألفية الثالثة في العالم العربي، قد طرحت في العالم الغربي الإنكليزي، قبل نصف قرن من الآن، من أمثال الناقد كلايف سكوت، الذي تسأل في دراسته الموسومة "قصيدة النثر والشعر الحر" والمنشورة في كتاب "الحداثة" الصادر عام 1976م، أي بعد سبعة عشر سنة من صدور كتاب "قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا" في باريس، بمعنى أن من الطبيعي أن تطرح هكذا اسئلة، ففي النفي اثبات واعتراف بها، وتكريس لها، وتعزيز لموقفها، فهو أساسًا قد أعلن عنها كجنس أدبي من خلال العنوان "قصيدة النثر والشعر الحر":

1 - هل قيدت قصيدة النثر نفسها تقييدًا كافيًا يجعلها جنسًا أدبيًا مميزًا؟

2 - هل إنها بدعة أدبية استعملها شعراء غريبو الأطوار؟

3 - أو هل من المستحسن النظر إليها على أنها شيء عابر وانتقالي وعلى أنها تحث الآخرين على الإتيان بأشكال جديدة – شعر حر على وجه التحديد؟21 .

وباستطاعة الناقد أو الباحث العربي، أن يستخلص من مقالة أدونيس "قصيدة النثر"، ومقدمة أنسي الحاج، المعتمدتين على كتاب الناقدة الفرنسية "قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا"، على محاولة الخوض في صياغة أسس نظرية حول قصيدة النثر والعمل على تكريسها كجنس شعري جديد، تتلخص فيما يلي:

1 - إن قصيدة النثر شكلت شكل شعري مختلف تمامًا عن بقية الأشكال الشعرية، حيث "هي، إذن، نوع متميز قائم بذاته، ليست خليطًا، هي شعر خاص يستخدم النثر لغايات شعرية خالصة، لذلك لها هيكل وتنظيم، ولها قوانين ليست شكلية فقط، بل عميقة عضوية كما في أي نوع فني آخر"22.

2 - وأن قصيدة النثر شكلت قطيعة جذرية بالشكل عن بقية الاشكال الشعرية، "إذا كانت قصيدة الوزن مجبرة على اختيار الأشكال التي تفرضها القاعدة أو التقليد الموروث، فإن قصيدة النثر حرة في اختيار الأشكال التي تفرضها تجربة الشاعر، وهي، من هذه الناحية، تركيب جدلي رحب، وحوارُ لانهائي بين هدم الأشكال وبنائها"23.

3 - وأن قصيدة النثر تعتبر ممثلة للتمرد والرفض، الخاضع لمبدأ الهدم – القديم/البناء – الجديد "تتضمن قصيدة النثر مبدأً مزدوجًا: الهدم لأنها وليدة التمرد، والبناء لأن كل تمرد ضدّ القوانين القائمة، مجبرُ، ببداهة، إذا أراد أن يبدع أثرًا يبقى، أن يعوض عن تلك القوانين بقوانين أخرى، كي لا يصل إلى اللاعضوية واللاشكل."24.

 4 - وبما أن قصيدة النثر بصفتها إحدى نتائج الحداثة الشعرية، لأن الحداثة حركة عالمية على ونحو مميز، لكنها غير متجانسة، وهذا ما انعكس على قصيدة النثر التي هي ظاهرة غربية بإشكالات عربية جمة، يقول أدونيس: وجدت قصيدة النثر بصفتها حركة شعرية حديثة، وهي "قصيدة عربية بكامل الدلالة ببنية وطريقة، مع أنها في الأساس مفهوم غربي"25.

قصيدة أدونيس "اجلس قليلاً في حضن الفوضى"، خير من تمثل هذه النقاط الأربعة، ففيها نعثر على ما جاء بكل فقرة، فلقد طْابقّ أدونيس التنظير بالتطبيق، وهذه القصيدة تعتبر من القصائد المتأخرة التي كتبها أدونيس:

قلما تتلاقى النّهايةُ إلاّ في الموت، قبَيْل لحظة الهبوط إلى القبر، تلك التي تتم فيها الهجرةُ التي لا عودة منها.

ربّما يتذكّر المُهاجرُ في هذه اللحظة السّؤال الذي كان يطرح دائمًا على الريح:

-أيّ الأمرين تفضلين أيّتها الرّيح:

أن يتحول الانسانُ إلى سيزيف، أو إلى دون كيشوت؟

وربما وشوشتْهُ الرّيح جوابًا عن سؤاله:

- ما رايُك، أيُها المُهاجرُ، أن تنقل مكان اقامتك من زبد شاطئٍ مُقيم، إلى ظلّ جناحٍ عابر؟26.

تميزت قصيدة النثر بأنها لم تقدم نفسها على أنها بديلُ من قصيدة الوزن، ولم تنف الشعر الموزون، أو بالأصح لم تلغى الآخر بل قامت بالاعتراف به، لكن كانت التجربة الداخلية الوجودية مغامرتها، لذا أراد أغلب الشعراء "المعنى" الكامن في التجربة، بل وتعدت ذلك إلى استلهام التجربة الصوفية، والنثر الصوفي بوصفه شعرًا يمكن القياس عليه، فقصيدة النثر هي الشعر التجريبي الذي يسعى إلى التجاوز والخرق والتمرد، لأنها كتابة ابداعية، وعليه غالبًا ما تبدو قصيدة النثر وكأنها وسيلة لاقتناص اللحظات التي تسبق الشعر، ولذا تعد قصيدة النثر تجربة واعية شاعت في ستينيات القرن الماضي، وهو مشروع تحديثي، ساعدت المجلات الأدبية على بثه وانتشاره مع العمل على التركيز في الترويج لمصطلح قصيدة النثر، لاسيما مجلتي الآداب وشعر اللبنانيتين، ومجلة الكلمة العراقية (1967 – 1975) في أكثر أعدادها الخمس والأربعين التي تمثلتها في مشروعها الحداثوي، فكانت التجارب المنشورة تحمل سمة الريادة والتجريب، عليه استقطبت الكثير من الكتّاب والادباء والشعراء من داخل العراق وخارجه.

ولكن بقى اسم مجلة شعر (1957 – 1970) مرتبطًا بقصيدة النثر، بسبب أن أغلب كتّاب المجلة هم من الشعراء الذين يكتبون هذا الشكل الجديد أمثال: يوسف الخال (1917 – 1987) مؤسسها ورئيس تحريرها، وأدونيس وخليل حاوي ونذير العظمة وأسعد رزوق وأنسي الحاج وخالدة سعيد وشوقي أبي شقرا وعصام محفوظ، فضلاً عن آخرين أمثال محمد الماغوط وجبرا إبراهيم جبرا. ويعزو يوسف الخال إلى الأسباب التي كانت وراء تأسيس مجلة شعر، يقول: "كونت النواة الصالحة لحركة الشعر العربي الحديث، تلك الحركة التي تمكنت برغم كل أنواع القهر والظلم والقمع، من وضع الشعر العربي، بل الأدب العربي عمومًا، على طريق الحداثة ومعاصرة الآداب العالمية جميعًا"27.

عليه تكون قصيدة النثر، عند أدونيس بوصفه مبدعًا ومنظرًا، الوسيلة الاسّهلْ في تثوير الثقافة العربية الراهنة وللموروث معًا، بل العمل على اخترقها من أجل تحديثها، لبناء رؤية تتأسس على عقلانية متفتحة وموضوعية علمية، متجاوزة الترسبات الظلامية، والانغلاق الفكري والإيديولوجي، لأن "المعرفة العربية السائدة تراكم تأويلي للنص الديني، أو شبه الديني"28.

إما أدونيس، يتذكر أن قصيدة النثر إنما هي تجسيد حقيقي لتمثيل الحداثة الشعرية العربية، ويطرح ثلاثة مبادئ أساسية كانت وراء تشكيل قصيدة النثر:

"وقد تبنينا ما اصطلحا على تسميته بقصيدة النثر، انطلاقًا من ثلاثة مبادئ (مستقلة عن مفهوماتها الفرنسية) أوجهها فيما يأتي:

* الأول هو أن الشعرية العربية لا تستنفذها الأوزان، على الرغم من كمالها وغناها فنيًا، وأن هذه اللغة تزخرُ بإمكانات تعبيرية، طرائق وتراكيب يتعذر أن نضع لها حداً تقف عنده، فهي لغة مفتوحة على اللانهاية.

* الثاني هو ابتكار طرق وأشكال أخرى للتعبير الشعري، تواكب الطرّق والأشكال القائمة على الوزن وتؤاخيها، بما يغني اللغة الشعرية العربية، وينوّعها ويعدّدها، وفي هذا إثراء للمخيلة وللذائقة أيضا.

* الثالث هو الرغبة العميقة في جعل العربية مفتوحة على جميع التجارب الشعرية في العالم، وفي وضعها، ابداعيًا، على خريطة الإبداع لكن في الوقت نفسه بانفتاحها ولا نهائيتها تفاعلاً ومقابسة وحوارًا"29.

ومجمل القول إنه مهما اختلف النقاد والكتّاب حول واقع حضور قصيدة النثر في الذائقة الشعرية العربية فان وجودها أصبح واقعًا لا مفر منه وأصبح جزءًا لا يتجزأ من الاجناس الشعرية.

ولا يمكننا دراسة قصيدة النثر وما وصلت إليه من خرق وتجاوز، إلا ضمن رؤيا الحداثة، وما ذهبت إليه من رفض وثورة، فقصيدة النثر نموذج حي للحداثة من حيث الاختلاف في المصطلح والتجنيس على مستوى التنظير والإبداع.

 

الهوامش والاحالات:

1 - أدونيس – كتاب التحولات والهجرة في اقاليم النهار والليل، دار الآداب، بيروت/لبنان، 1988، ص 11.

2 - سوزان برنار – قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة: د زهير مغامس، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد/العراق، 1993، ص 16.

3 - محمد ديب – قصيدة النثر بين الموهبة الفردية والرافد الغربي، مجلة الطريق، العدد 3، سبتمبر/1993.

4 - مجلة شعر – العدد 4 في 1/ 10 / 1957، ص 125.

5 - أدونيس – في قصيدة النثر، مجلة شعر، السنة الرابعة، العدد 14 في 1 / أبريل 1960.

6 - عبدالقادر الجنابي – ديوان إلى الأبد: قصيدة النثر/ لأنطولوجيا العالمية، دار التنوير للنشر والتوزيع، بيروت/لبنان، بلا سنة طبع ولا ترقيم للصفحات.

7 - م. السابق.

8 - نازك الملائكة – قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين، بيروت/لبنان، ط 5، 1978، ص 213- 227.

9 - محمد الجزائري – ويكون التجاوز: دراسات نقدية في الشعر العراقي الحديث، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد/العراق، 1974، ص 13، 73 - 177.

10 - سامي مهدي – أفق الحداثة وحداثة النمط، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد/العراق، 1988، ص 128.

11 - مجموعة مؤلفين – الشعر ومتغيرات المرحلة: حول الحداثة وحوار الأشكال الشعرية الجديدة، دار الشؤون الثقافية، بغداد/العراق، 1986، ص 124 – 125.

12 - فاضل ثامر – مجلة الكلمة العراقية، النجف، العدد: 3/1968، ص 44.

13 - فاضل ثامر – شعرية الحداثة: من بنية التماسك إلى فضاء التشظي، دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد/العراق، 2012، ص 3.

14 - حكيمة شداد – قصيدة النثر تنظيرًا وإبداعًا عند أدونيس، مجلة اشكالات، العدد: 1 / 2018، ص 229.

15 - أنسي الحاج – ديوان (لن)، دار الجديد، بيروت/لبنان، ط 3، 1994، المقدمة.

16 - المصدر السابق. المقدمة.

17 - أدونيس – زمن الشعر، دار الساقي للنشر والتوزيع، ط 6، بيروت /لبنان، 2005، ص 320.

18 - أنسي الحاج - المقدمة.

19 - حكيمة شداد – قصيدة النثر تنظيرًا وإبداعًا، ص 230.

20 - المصدر السابق. ص 229.

21 - تحرير: مالكم برادبري وجيمس ماكفارلن – الحداثة ج2، ترجمة: مؤيد حسن فوزي، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد/العراق، 1990، ص 64.

22 - مجلة شعر – العدد 14 في 1 أبريل 1960، ص 81، وانظر أنسي الحاج: لن، ص 14.

23 - مجلة شعر – العدد 14 ص 75، وعدد 27، ص 117.

24 - مجلة شعر – العدد 14، ص 78.

25 - مجلة مواقف – عدد 41- 42، صيف 1981، ص 10.

26 - albawaba .com / ar /1182286 أدونيس – "اجلس قليلاً في حضن الفوضى"، 6 أيلول 2018.

27 - كامل صالح – الشعر والدين فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي، دار الحداثة، بيروت/لبنان، 2005، ص 236.

28 - أدونيس – كلام البدايات، دار الآداب، بيروت/لبنان، 1989، ص 191.

29 - مجلة الآداب – "حوارًا مع أدونيس حول مجلة شعر وقصيدة النثر"، العدد: 9-10، 2001، ص 47.


عدد القراء: 627

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-