مزالق الترجمة (2) الباب: مقالات الكتاب
د. محمد سارح العسيري جامعة الملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية – الرياض |
تشارلز ديكنز بأربع لغات عربية: تجارب متفاوتة في ترجمة قصة مدينتين
في قاعة الجامعة الفسيحة، تجمعت حشود من عمداء الجامعة وضيوف الشرف والمثقفين ووجهاء المدينة، محتشدين بترقب للاحتفاء بمرور 165 سنة على صدور رواية "قصة مدينتين" لتشارلز ديكنز. نظمت جمعية الترجمة العربية هذا الحفل الكبير، وفي أجواء مفعمة بالتوقعات، طُلب من أحد الطلاب المستجدين في كلية الترجمة قراءة المقدمة الأسطورية للرواية باللغة العربية، تلك التي يحتفي بها النقاد كأفضل مقدمة في تاريخ الأدب. وقف الطالب أمام الحضور، وفي القاعة ساد الصمت العميق. كان الجميع يترقب سماع ذلك الأسلوب الأدبي البليغ والتناقضات العميقة. بدأ الطالب بالقراءة: "كان حي 'سان أنطوان' من أفقر أحياء باريس. يطالعك على وجوه أطفاله. في أصواتهم الحزينة. وذلك البول الذي هو طابع الكهول من الرجال". عمّ الذهول القاعة، وتساءل بعض الحضور بصمت مرتبك: هل هذه هي المقدمة الخالدة؟ أين البلاغة في وصف البول في حي سان أنطوان؟ وفي محاولة لإنقاذ الموقف، قفز طالب آخر إلى المنصة ممسكًا بترجمة أخرى للرواية، وبدأ بقراءة المقدمة قائلاً: في أواخر شهر فبراير وفي ليلة من ليالي الجمعة، كانت خيل مركبة البريد تشق طريق دوفر متخبطة متعثرة، ذيولها مرتجفة ورؤوسها مطأطئة". صاح أحد الحضور بحدة، "يا أحمق، أحداث الرواية تبدأ في شهر نوفمبر، فكيف أصبحت فبراير؟" اجتاحت موجة من الاستياء القاعة، وبدأ الضيوف بمغادرة الحفل في احتجاج واضح على هذه المهزلة التي أساءت لهذا العمل الأدبي الخالد. وبعد تحقيق دقيق في هذه الواقعة المؤسفة، تبين أن سبب المهزلة هو استخدام الطلاب لترجمات رديئة للرواية أفقدت الرواية جوهرها ورونقها.
من المهم التوضيح للقارئ الكريم أن العرض المسرحي المذكور هو سيناريو تخيلي، صُمم ليظهر كيف يمكن للترجمات الرديئة أن تشوه الأعمال الأدبية الكلاسيكية وتفقدها قيمتها وتحرم القارئ العربي من تجربة الأدب العالمي بأمانة وعمق. كانت الصدفة هي الدافع وراء كتابتي لهذا المقال، فقد كنت أتجول في إحدى المكتبات الشهيرة بالرياض وانتبهت لصدور ترجمات حديثة لرواية "قصة مدينتين" لتشارلز ديكنز وقتلني الفضول لقراءة تلك المقدمة الباذخة للرواية بأيدي مترجمين آخرين للمقارنة ولكنني صعقت بما قرأته والذي سأذكر تفاصيله لاحقًا. لقد كنت مترددًا بشأن كتابة مقال يتناول هذا الموضوع، ولكن بسبب كثرة صدور هذه الترجمات الرديئة -والتي يقوم بها مترجمون غير أكفاء ودور نشر جشعة تبحث عن الربح المادي دون الاهتمام بالجودة- قررت الإقدام على الكتابة، ليس فقط لتبيين أهمية وقيمة الجهود التي يبذلها المترجمون العرب الأكفاء في مواجهة الترجمات الحديثة الرديئة، ولكن أيضًا كجرس انذار للقارئ العربي الذي يعاني دومًا لمعرفة أفضل الترجمات العربية للنصوص الكلاسيكية العالمية.
في الجزء الثاني من مقالة "مزالق الترجمة" والتي خصصنا الجزء الأول منها للترجمة السينمائية، أختتم حديثي في هذا الجزء عن الترجمة الأدبية. بعد أن استعرضنا كيف يمكن لترجمة المصطلحات ذات الحساسية القومية أن تغير فهم المشاهد وتفاعله مع الفيلم السينمائي، نتجه الآن إلى عالم الأدب، حيث إن ترجمة الكلمات والنصوص الأدبية لا تقل أهمية وتعقيدًا عن النص السينمائي. في هذه المقالة، سنبحر في أعماق الترجمات الأدبية، متناولين تحدياتها وتأثيرها على فهم وتقدير الأعمال الأدبية، خاصةً من خلال تحليلنا لأربع ترجمات عربية مختلفة لرواية "قصة مدينتين" لتشارلز ديكنز.
تُرجمت رائعة تشارلز ديكنز قصة مدينتين إلى اللغة العربية أكثر من مرة ولكن لا توجد معلومات موثوقة عن تاريخ صدور أول ترجمة عربية لها، ولكن المتعارف عليه ثقافيًا أن ترجمة الأستاذ منير البعلبكي رحمه الله هي الأشهر لجودتها والتزامها بالنص الأصلي. ونتيجة لتوالي الترجمات العربية لنفس الرواية، أصبحت كل ترجمة تحمل بصمة المترجم ومنهجيته. وفي هذا المقال، نقارن بين أربع ترجمات عربية لهذه الرواية من حيث الجودة والالتزام بالنص الأصلي.
الترجمة الأولى هي ترجمة شيخ المترجمين الأستاذ منير البعلبكي رحمه الله والتي صدرت في ثمانينيات القرن العشرين وأعيد طباعتها من دار العلم للملايين عام 2013. والترجمة الثانية ترجمة د. الحسين الحسيني الصادرة من مركز الأدب العربي للنشر والتوزيع عام 2013. أما الترجمة الثالثة فهي ترجمة صوفي عبدالله الصادة عن أقلام عربية للنشر والتوزيع عام 2019. والترجمة الرابعة هي ترجمة صادرة عن الحرف العربي للنشر والتوزيع دون ذكر لاسم المترجم عام 2016.
تعتبر رواية قصة مدينتين واحدة من أشهر الروايات في الأدب الإنجليزي وتتميز بمقدمتها الشهيرة التي تبدأ بالجملة "كان أفضل الأزمان، كان أسوأ الأزمان...". وهذه المقدمة مشهورة لعدة أسباب منها تركيزها على التناقضات حيث تبدأ المقدمة بسلسلة من التناقضات التي تعكس التباين في الحالة الاجتماعية والسياسية بين فرنسا وإنجلترا خلال فترة الثورة الفرنسية. هذه التناقضات تعبر عن الأمل واليأس، الثروة والفقر، النزاهة والفساد في ذلك الوقت. إضافة إلى ذلك تتميز المقدمة بالرمزية لإبراز التغيرات الكبرى التي كانت تحدث في ذلك العصر، مثل الثورة الصناعية والثورة الفرنسية والتي حفزت ديكينز لاستخدام لغة تجعل من النص لوحة فنية تعكس الظروف الزمنية للرواية. وبما أن النص الأصلي يبدأ بهذه المقدمة الخالدة، فمن البديهي أن تبدأ أي ترجمة عربية لهذه الرواية بنفس هذه المقدمة. لذلك، سنستهل المقارنة بين الترجمات بعرض المقدمة الأصلية كما خطها ديكنز، تليها مقدمات الترجمات الأربع العربية التي تم ذكرها سابقًا. بعد ذلك، سنترك الفرصة للقارئ العزيز ليقيم بنفسه مدى دقة وجودة كل ترجمة.
النص الأصلي كما كتبه ديكينز:
“ It was the best of times, it was the worst of times, it was the age of wisdom, it was the age of foolishness, it was the epoch of belief, it was the epoch of incredulity, it was the season of Light, it was the season of Darkness, it was the spring of hope, it was the winter of despair, we had everything before us, we had nothing before us, we were all going direct to Heaven, we were all going direct the other way—in short, the period was so far like the present period, that some of its noisiest authorities insisted on its being received, for good or for evil, in the superlative degree of comparison only”
تبدأ ترجمة منير البعلبكي رحمه الله كالتالي: «كان أحسن الأزمان، وكان أسوء الأزمان، كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة، كان عهد الإيمان وكان عهد الجحود. وكان زمن النور، وكان زمن الظلمة. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط. كان أمامنا كل شيء ولم يكن أمامنا شيء، كنّا جميعًا ماضين إلى الجنة مباشرة، وكنّا جميعًا ماضينا إلى جهنم مباشرة. وعلى الجملة، فقد كانت تلك الفترة أشبه ما تكون بعصرنا هذا، حتى لو أصر بعض مؤرخيها الأكثر صخبًا على وصفها، سواء في الصلاح أو الطلاح، بصيغ التفضيل المانعة ليس غير».
في حين تبدأ ترجمة د. الحسين الحسيني بالتالي: «كان حي "سان أنطوان" من أفقر أحياء باريس. يطالعك على وجوه أطفاله. في أصواتهم الحزينة. وذلك البول الذي هو طابع الكهول من الرجال. وقد ارتسم الجوع على وجه كل رجل وامرأة من ساكنيه. وخلت حوانيته إلا من أردأ بقايا اللحوم. وأخشن أرغفة الخبز. بحيث لم يكن في الشارع شيء بهيج سوى حوانيت بيع الأسلحة التي كانت أحوى أحد السكاكين ذات النصال اللامعة وأفتك البنادق. وكأنما كانت هذه الأسلحة البراقة قابعة اليوم الذي تنطلق فيه من مكانها لتؤدي مهمتها الرهيبة. وفي اليوم الذي تبدأ فيه قصتنا كان برميل كبير من النبيذ قد سقط من إحدى العربات في شارع أنطوان فانكسر وتدفق منه النبيذ الأحمر فوق أرض الشارع الحجرية وانساب بين شقوق الحجارة الخشنة وتكونت منه بحيرات صغيرة في جحورها المنخفضة».
أما ترجمة صوفي عبدالله فتبدأ بالتالي: «في أواخر شهر فبراير وفي ليلة من ليالي الجمعة، كانت خيل مركبة البريد تشق طريق دوفر متخبطة متعثرة، ذيولها مرتجفة ورأوها مطأطئة. تكاد مفاصلها تنخلع من شدة الإرهاق. وبجانب مركبة البريد التي ترتقي التل بتثاقل، كان شخص قد كساه الوحل من قمة رأسه الى أخمص قدميه، يشق الضباب في إعياء شديد، متلمسًا بعض الراحة دون جدوى: فقد كانت طيات الضباب تغطي بعضها بعضا، حتى إنها حجبت مصابيح المركبة إلا من ومضات تشع ثم تختفي خلف الضباب. ولم يكن هذا المسافر بمفرده، بل كان هناك مسافران آخران يتابعان المركبة، ملثمي الوجه، وفي أرجلهم أحذية ضخمة تصل إلى الركبة، ولم يكن أحدًا من الثلاثة، يستطيع أن يعرف الآخر، لشدة تخفيهم تحت أقنعة ثقيلة، فقد كان المسافرون في هذه الأيام يحجمون عن التعاون، خوفًا من لصوص الطريق المنتشرين في هذه البقاع بشكل يبعث الرهبة والذعر في النفوس».
وأخيرًا تبدأ الرواية الصادرة عن دار الحرف العربي بالتالي: «كان ذلك العهد أشبه ما يكون بعهدنا هذا، كان أمامنا كل شيء، ولم يكن شيء أمامنا. نبدأ مع أحداث هذه القصة، وكان ذلك في العام الخامس والسبعين وسبعمائة بعد الألف الأولى لميلاد السيد المسيح. في ذلك العهد كانت أوروبا تخطو الخطوة الأخيرة على طريق الانعتاق من عصر الانحطاط، لتضع قدمها بأولى خطواتها على طريق الدخول إلى عصر النهضة، لهذا السبب، كانت تمر بفترة انتقالية، والتي، ككل الفترات الانتقالية، تتميز بالتباينات الاجتماعية الهائلة، والتي تقسو في أثنائها غلظة الظلم الاجتماعي. كانت هذه هي حال كل من فرنسا وانكلترة. فقد تربع على عرشيها ملكان، ذوا فكين عريضين، ورأسين كبيرين، خاليين من هموم شعبيهما، منصرفين إلى ملذاتهما، وتاركين لأتباعهمها، من رجال حاشيتيهما، الذين اعتبروا من الطبقة العليا ذات الدم الأزرق النبيل، الحاملين لألقاب الشرف، والممنوحين الاقطاعات والمقاطعات الواسعة، تصريف شؤون الدولة، والتحكم بمقدرات الشعبين».
بمقارنة سريعة للمقدمة في الترجمات الأربعة، نلاحظ أن ترجمة الأستاذ منير البعلبكي رحمه الله تتميز بدقتها العالية والتزامها بالنص الأصلي حيث يُظهر البعلبكي احترامًا كبيرًا للعمل الأصلي، محافظًا على نبرة ديكنز وأسلوبه السردي المعقد. وهنا يجب التنويه والإشادة بهذه الترجمة لأنها قدمت لنا المقدمة الشهيرة بكل جمال وبكل أناقة تظهر لنا بلاغة ديكنز. وتجدر الإشارة بأن هذا التميز ليس بمستغرب على شيخ المترجمين العرب والذي ساهم بشكل كبير في نقل الأدب العالمي إلى العربية والذي تعتبر ترجماته، بما في ذلك رواية "قصة مدينتين"، مصادر تاريخية مهمة في تاريخ الترجمة العربية.
بالمقابل، نجد أن الترجمتين اللتين قام بهما الدكتور الحسين الحسيني وصوفي عبدالله خالفتا النص الأصلي بشكل فج يصعب تصديقه ويصعب التغاضي عنه من خلال حذف المقدمة الشهيرة للرواية وإعادة ترتيب فصولها. يجب التوضيح أن الجزء الأول من الرواية يسمى عودة الميت كما ترجمها بدقة منير البعلبكي وهذا الجزء ينقسم إلى 6 فصول وهي: العصر، مركبة البريد، ظلال الليل، الاستعداد، الحانة، صانع الأحذية بالتوالي. لكننا نتفاجأ بقيام المترجم د. الحسيني بإعادة ترتيب الفصول على هذا النحو: حانة مسيو ديفاج، صانع الأحذية، المحاكمة، سيدني كارلتون، الدكتور مانيت في لندن، حادث في باريس. فلم يكتف د. الحسيني بحذف المقدمة فقط ولكن أعطى لنفسه الحق في تعديل وإعادة ترتيب فصول الرواية دون مبرر ودون وجه حق ضاربًا بأخلاقيات مهنة الترجمة عرض الحائط. نفس النهج نجده عند صوفي عبدالله والتي أيضًا حذفت المقدمة الشهيرة و حذفت وأضافت فصولاً للجزء الأول من الكتاب ليصبح عنوانيه بهذا الترتيب المفتعل: عربة البريد، تحت جنح الليل، أهبة، في الحانة، الاسكاف، كيف هذا؟؟
وأخيرًا نجد أن الترجمة الرابعة الصادرة عن دار الحرف العربي للنشر والتوزيع تقدم نسخة مختصرة للمقدمة الشهيرة، مما يُفقد القارئ العربي الفرصة لتجربة العمق الأدبي الذي وضعه ديكنز في بداية روايته. هذا العبث وهذه التعديلات تُعتبر تغييرات جوهرية تخل بجوهر العمل الأصلي، وتشوه الرواية بشكل كبير. المقدمة الشهيرة التي تبدأ بعبارات "أفضل الأوقات، أسوأ الأوقات..." تعد واحدة من أعظم المقدمات في تاريخ الأدب العالمي، ليس فقط بسبب جمالها الأدبي، بل أيضًا لأنها تضع القارئ مباشرةً في قلب الأحداث التاريخية والإنسانية التي تحيط بالرواية. بتغيير هذه المقدمة، يُفقد القارئ العربي جوهر الرواية والتجربة الفكرية والعاطفية التي كان ديكنز ينوي تقديمها. قد يكون القارئ قد توقع العظمة والتأثير الذي أشاد به النقاد حول العالم لهذه المقدمة، لكنه بدلاً من ذلك يجد نفسه أمام نص مغاير تمامًا لتوقعاته. عندما يُقدم للقارئ العربي وصف حي "سان أنطوان" ورائحة البول فيه كأفضل مقدمة في الأدب العالمي، بدلاً من المقدمة الأصلية الشهيرة، يصاب القارئ العربي بالإحباط والصدمة الأدبية. هذا النوع من الترجمة يشوه صورة الأدب العالمي عند القارئ العربي إضافة إلى أنه يحرمه من التعرف على القيمة الأدبية الحقيقية لعمل كلاسيكي مرموق. إضافةً إلى ذلك، تؤدي مثل هذه الترجمة إلى إضعاف الثقة في الأدب المترجم، مما قد يؤدي إلى تجنب القراء للأعمال المترجمة بشكل عام لشعور القارئ العربي بخيبة أمل كبيرة عند اكتشاف أن ما قرأه ليس النص الأصلي المحتفى به.
ومن نافلة القول إنه عندما يقدم مترجم على إعادة ترجمة عمل قام به آخر، فإنه بذلك يضع نفسه في مواجهة مباشرة مع المترجم السابق. لهذا كان من المتوقع أن يدرك المترجمان الدكتور الحسيني الحسني وصوفي عبدالله أهمية المهمة الملقاة على عاتقهما، خصوصًا وأنهما ينافسان مترجم بارع مثل منير البعلبكي الذي يعد واحدًا من أمهر المترجمين في العالم العربي وصاحب قاموس المورد. فبالتالي كان حري بهما الالتزام بقدر كبير جدًا من الحرفية والإخلاص للنص الأصلي. وكان يجدر بهما إدراك أن مهارات الترجمة تتجاوز بكثير مجرد القدرة على التحدث بلغة النص المصدر فالمترجم يجب أن يكون ملمًا بالسياق الثقافي والاجتماعي للنص الأصلي واللغة التي يُعبر بها، مع الالتزام بالوفاء لجوهر النص وتقديمه بشكل دقيق وكامل في اللغة الأخرى.
تُظهر الترجمات الرديئة، مثل تلك التي ناقشناها لرواية "قصة مدينتين"، كيف يمكن أن يتحول هذا التعدد في الترجمات للنص الواحد إلى عبء بدلاً من أن يكون ميزة. فبدلاً من توجيه الجهود نحو إنتاج ترجمات رصينة تخدم الثقافة العربية وتثريها، ينتهي الأمر بوجود ترجمات متعددة تضلل القارئ وتقدم له صورة صادمة عن العمل الأصلي. لهذا ينبغي التركيز على توفير ترجمات عالية الجودة تحترم النص الأصلي وتعكس جمالياته ورسالته. وبهذا، يمكن تحويل تعدد الترجمات من كونه ترفًا وإهدارًا للجهد إلى وسيلة لإثراء الثقافة العربية وتعزيز فهمها للأدب العالمي.
وهذا يأخذنا إلى ظاهرة أخرى منتشرة في الوطن العربي وهي ظاهرة تعدد الترجمات العربية للنص الأدبي الواحد والتي انقسم النقاد حولها بين مؤيد ومعارض. فالمؤيدون يرون أن وجود هذه الظاهرة مفيد لتجديد ترجمة قديمة أو تحسين ترجمة ضعيفة وهو ما يراه الدكتور عبدالحميد زاهيد والذي ترجم رواية "الشيخ والبحر" وهي رواية حظيت بأكثر من 20 ترجمة عربية. والمصادفة الجميلة هنا هي أن أول ترجمة عربية " للشيخ والبحر" كانت لمنير البعلبكي رحمه الله عام 1961.
يرى أستاذ النقد الحديث في جامعة الملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية الدكتور بدر المقبل أن حصر الترجمة على الأعمال التي لم يسبق لها الترجمة والاكتفاء بترجمة واحدة للعمل الأدبي حتى ولو كانت هذه الترجمة مميزة وتمت على يد مترجم تشهد له أعماله ومسيرته بالبراعة مثل منير البعلبكي. والسبب في ذلك هو أن ترجمة الأعمال الإبداعية تختلف عن ترجمة الأعمال العلمية؛ لذا نجد – في الغالب – ترجمة واحدة للكتاب العلمي، بينما نجد عددًا من الترجمات للعمل الأدبي الواحد؛ لأن تعددية المعنى في الأعمال العلمية شبه محدودة حيث يتعامل المترجم مع حقائق ومعلومات، أما تعددية المعنى في الأعمال الإبداعية فمفتوحة ومتعددة بتعدد القراءات والرؤى التي يحملها كل مترجم في تصوراته الذهنية وثقافته الخاصة. من هذا المنطلق شاعت في الأوساط الأدبية مقولة أن أي ترجمة هي خيانة للنص الأصلي، فالكلمة الإبداعية في سياقها الأصلي تحمل العديد من المعاني وتشير إلى سياق ثقافي ومدلولات تاريخيّة ربما لا يكون لها وجود في السياق العربي الذي نقلت إليه، وهذا ما يجعل المعنى في النص العربي المترجم (غير مكتمل) وهو ما يدفع أحيانًا المترجمون الجدد إلى إعادة الترجمة لإضافة هذه المعاني غير المكتملة في كل مرة يقوم أحدهم بإعادة ترجمة نص ما. أمر آخر تجدر الإشارة إليه، وهو أن إعادة الترجمة في بعض الأحيان تخضع لظروف تاريخيّة أو ترتبط بأحداث معينة، ومن أشهر الأمثلة على ذلك هو إعادة ترجمة الرواية الشهيرة (أحدب نوتردام) بعد حادثة احتراق (كنيسة نوتردام)، وإعادة ترجمة رواية (الطاعون) بعد انتشار جائحة كورنا 19. وجود مثل هذه الأحداث ومعايشتها عن قرب تدفع أحيانا المترجم الذي عايش هذه الأحداث إلى استحضار شعور ومعان ودلالات يصعب استحضارها لو ترجم هذه النصوص ذاتها وهو بمعزل عن معايشة هذه الأحداث؛ لذا يجب أن نستحضر دائمًا أن الترجمة الأدبية صعبة ومعقدة للغاية لأنها مفتوحة الدلالات والمعاني وحصرها بترجمة واحدة أشبه بقتل لتعددية وجمالية النص.
ومن زاوية أخرى يشير الدكتور سعد البازعي إلى أن هناك العديد من الأعمال الأدبية تمت ترجمتها مرارًا وتكرارًا وقد كان الباعث لترجمتها ينبع من موقف نقدي تجاه الترجمة الأولى. فعلى سبيل المثال، في الأدب العالمي، تُعد رواية "دون كيشوت" لميغيل دي سرفانتس واحدة من الروايات التي تمت ترجمتها مرات عدة بمختلف اللغات، بما في ذلك العربية، حيث يسعى كل مترجم لتقديم رؤية مختلفة للنص. إن الاكتفاء بترجمة واحدة للنص الأدبي يمكن تبريره بأن وجود الترجمات المتعددة يسبب التباسًا لدى القراء، كما حصل هنا في الترجمات الحديثة لقصة مدينتين. وإضافة إلى ذلك أن انتشار الترجمات المتعددة للنص الواحد تؤدي إلى إهدار الجهود والموارد التي يمكن توجيهها لترجمة أعمال لم تُترجم بعد. وإذا تم فتح الباب على مصراعيه لإصدار ترجمات متعددة لرواية "قصة مدينتين"، فإن ذلك قد يؤدي إلى تشتيت القراء الذين قد يجدون صعوبة في تحديد أي ترجمة يثقون بها خاصة إذا كانت الجودة متفاوتة بين الترجمات المختلفة. كما يمكن أن يؤدي إلى التشكيك في مصداقية الترجمات السابقة وتقويض الثقة في الأعمال المترجمة.
هذا يقودنا إلى محور آخر أساسي وهو تحديد الجهة المسؤولة عن معالجة هذه المشكلة. هل يتحمل المترجم اللوم، أم دار النشر، أو صاحب حقوق الطبع والنشر، أو الوزارات الحكومية ذات العلاقة، أو القارئ؟ في الواقع، ليس هدفنا اليوم توجيه اللوم بقدر التركيز على الحل الذي نعتقد أنه يكمن في التعاون المشترك بين جميع هذه الأطراف. فدور النشر عليها مسؤولية كبيرة في الحفاظ على سمعتها الأدبية من خلال اختيارها للأعمال التي تنشرها ومراقبة جودة الترجمات التي تقدمها للقراء لأن نشر ترجمات رصينة وذات جودة عالية يسهم في بناء سمعة إيجابية للدار وهذا يساعد على جذب القراء والنقاد، ويعزز ثقتهم في الأعمال التي تقدمها الدار، مما يسهم في تعزيز مكانتها في العالم الأدبي.
أيضًا للمترجمين دور حاسم ومهم في المحافظة على سمعتهم الأدبية من خلال تقديم ترجمات رصينة بعيدة كل البعد عن التلاعب في النص والعبث في الترجمة. إن صدور ترجمة دقيقة ومتقنة لنص معروف تعكس مهارة المترجم واحترامه للنص الأصلي، مما يعزز مكانته بين أقرانه ويبني الثقة بينه وبين القراء ودور النشر.
أيضًا هناك دور يجب أن تلعبه الجهات الحكومية والتي تتمتع بنفوذ وموارد فعالة لمحاربة انتشار وتوزيع هذه الترجمات الرديئة. لنأخذ مثلاً وزارة الثقافة في المملكة العربية السعودية ومن خلال هيئة الأدب والنشر والترجمة والتي تأسست عام 2020. تعد هذه الهيئة الجهة المعنية بتنظيم قطاع الأدب والنشر والترجمة في المملكة العربية السعودية وبالتالي فإن دورها قد يشمل الإشراف والرقابة على جودة الأعمال الأدبية والترجمات في إطار الاستراتيجية الوطنية للثقافة لتحقيق مستهدفات رؤية 2030.
يصعب توجيه اللوم على القارئ العربي لأنه يقدم على شراء هذه الترجمات التي يعتقد أنها جيدة اعتقادًا منه بأن جميع الترجمات الصادرة عن دور النشر قد خضعت لمراجعة وتنقيح من قِبل المترجمين والمدققين اللغويين العاملين في الدار. هذا الاعتقاد ينشأ من تصور القارئ الكريم أن دور النشر والمترجمين والجهات الرقابية قامت بواجباتها لضمان جودة ودقة الترجمات الموجودة في المكتبات.
في ظل غياب خطة لتقنين الترجمات العربية للعمل الواحد، يصبح لزامًا على المترجمين تنظيم وتنسيق جهودهم والتركيز على الترجمات التي تضيف قيمة فعلية للقراء والمجتمع العربي، بدلاً من تكرار الجهد بدون فائدة ملموسة، كما يجب التفكير في إمكانية إنشاء قاعدة بيانات للترجمات المتوفرة للنصوص العالمية وأفضلها ليستفيد منها القراء العرب.
إن الحاجة ماسة إلى مراجعة دقيقة ومعايير صارمة في عملية الترجمة الأدبية، لضمان أن تظل الأعمال الأدبية الكلاسيكية مصدر إلهام ومعرفة للقراء العرب، بدلاً من أن تصبح مصدر خيبة أمل وإحباط. ومن الضروري جدًا أن تكون عملية الترجمة الأدبية محكومة بمعايير صارمة تضمن الحفاظ على جوهر وروح النص الأصلي، لضمان تجربة أدبية غنية وأصيلة للقارئ العربي.
للاستفادة
تغريد
اكتب تعليقك