ظل الإنسان.. شعائر سوداءالباب: مقالات الكتاب
د. هاني حجاج - مصر كاتب ومترجم |
... وبعد مدة من الزمان (تطول أو تقصر)، يعود الميت مرة أخرى ليقض مضاجع الأحياء" هكذا كانت التصرفات الغريبة في أماكن مثل جبال "الهيمالايا" وبين قبائل "الليبو" و"الشربا" تعزى جميعًا إلى عالم خاص، عالم مجهول شديد الغموض.
الميت العائد حسبما يؤمن القوم في شعب "الليبو"، هو الإنسان عندما يموت ميتته الطبيعية، فإن "الشامانى" (الذي يؤدي شعائر الدفن) يذهب في صحبة هذا الميت إلى العالم الآخر ... ويعتقد أهل "الليبو" أن هذا العالم يقع إلى الغرب من عالمهم إلى جانب الشمس والقمر، وبالرغم من هذا فإن ضوؤهما لا يخفي هذا العالم، بل إن ضوؤهما يسطع خافتًا إلى جواره ...
وفي نهاية رحلته يصل "الشاماني" بالميت إلى منطقة البحيرات، ليغرقه في بحر الدموع، الذي يمتد وراءه أول حد لقرية الموت، وهناك ينادي على الأسلاف البادية ظلالهم على الصفة الأخرى، و... ويطلب منهم أن يعتنوا به ... وفي هذه الأثناء، تتعلق به بعض الأرواح، وتصاحبه إلى عالم الأحياء ... عالمنا.
على أي حال فإن هذه الطقوس ليست سرية تمامًا بالنسبة للأحياء هناك، إذ إن هذه الشعائر تؤدى أمام أهل القرية الذين يتجمعون في منزل الفقيد.
ويعيش كل سكان القرية في منازل صغيرة، ويقيم حديثو الموت في مساكن تشبه مساكن "الليمبو" هذه الأيام، أما الموتى منذ مدة طويلة فإنهم (بطبيعة الحال) يعيشون في منزل كبير نسبيًّا.
وفي المقابلات التي توالى إجرائها مع شيوخ القبيلة هناك وأشهرهم "تارابيه" الذي أدعى أنه قد بلغ قرية الموتى هذه في عالم الأحياء، وإمعانًا في تصديق ما يقول يروي الحلم بتفاصيله الدقيقة، فيقول: "إن الموتى هناك يلبسون عمامة ورداء من القماش زاهي اللون، أما الحقول فسوداء اللون تمامًا!!" وبالطبع، فإن هذه الأقوال تضاربت إلى حد كبير في كل شيء.
فلماذا يعود هؤلاء الموتى لتنغيص حياة الأحياء؟
لعل تفسير هذا يمكن في كون بعض هؤلاء الموتى لا يستطيعون بلوغ قرية الموتى هذه إطلاقًا وإنما يبقي معلقًا في رحلة الـ "ما بعد" الذي لا يستطيعون استكمالها إلى قرية الموتى ...
في "ليبانج" ظهرت إحدى الحالات، وذلك عند ما نسي أهل الدار قطة داخل الدار التي أغلقت في ليلة التهجد على جثمان الجدة المتوفاة، هذه القطة راحت تتمسح في الجسد المسجى، فعلت هذه القطة نجست الجسد المتوفى، مما جعل هذه الجدة لا تصل أبدًا إلى مرحلة الأسلاف.
ونادرًا ما تحدث مثل هذه الحالات، فقد جرت العادة أن الميت يصل إلى منتهاه في قرية الموتى، وذلك بفضل الأحياء الذين يوفون بالعهد دائمًا.
الشاماني في زعم البدائيين هو كالعراف أو الطبيب، إلا أن الفارق هنا أن دور الشاماني يبدأ بعد أن يموت المريض أو الشخص المعني بالعناية، والنشاط الشعائري ليس هو النشاط الوحيد الذي يمارسه الشاماني، فهو يتاجر بخدماته في التطبيب ليكسب قوته كأي فرد في المجتمع، وفي الحقيقة فإن معايير التقاليد هناك تتطلب ألا يطمح الشاماني في الربحية طالما أن روحه الحارسة تطالبه بأن يكون زاهدًا، أما بالنسبة لمركز الشاماني الاجتماعي فقد انحط على مرور الزمن خصوصًا بعد اعتناق الإسلام.
والشاماني مثل العديد من المهن يمكن أن يكون رجلاً أو امرأة، فالشامانيون في شعوب الأوزبك والتادجيك يغلب عليهم أن يكونوا من النساء، وبالنسبة للقوقازيين، والتركمان، والقرغيز، والكاركلباك، والأوجر فيغلب عليهم أن يكونوا رجالاً، ومرة أخرى فإن دخول الإسلام – الذي حد من انتشار النشاط الاجتماعي للشامانية هو الذي أدى إلى أن يقتصر النشاط الشاماني تقريبًا إلى محيط المرأة.
أما الأدوات التي يستخدمها الشاماني، فإنه يرتدي ثيابًا بيضاء غالبًا (على الأقل أثناء تأدية الشعائر) وبعض الشامانيين الرجال يحبون ارتداء أزياء النساء (وهذه العادة كانت منتشرة في واحة خوارزم ووادي فيرجانا)، ويمكن تفسير عادة التخنث في الثياب هذه (التي يعود تاريخها إلى الحقبة السقيتية) بالمعتقد القديم الذي كان سائدًا في آسيا الوسطى بأن الروح الحارسة للشاماني كانت أنثى في الأصل، لهذا فإنها تحب أن ترى نفسها وهي محتواة في الشاماني (في المظهر الخارجي على الأقل)، هذه الفكرة يعارضها باحثون مثل "بوجوراس" و"سترانبرج" الذي يعتقد بوجود علاقة جنسية بين الشاماني وروحه الحارسة.
والشاماني يحتاج في عمله إلى آلة موسيقية، إنها آلة تشبه الطبلة، تخترق جلدها فتحات صغيرة لاستقبال الأرواح التي يستدعيها الشاماني أثناء أداء الشعيرة.
ويستخدم الشاماني أداة تشبه السوط يستخدمها في طرد الأرواح التي سبب أذى للمكابدين، أما العصا والخيرزانة التي كان يستخدمها الشاماني من قبل فلم يعد يستخدمها إلا الدراويش.
ومع شعائر معينة يستخدم الشاماني مرآة، ودلوا ممتلئ بالماء، كما أنه يستخدم في بعض الأحيان – كنتيجة لتأثير الإسلام – المسابح وكتب الصلوات (التي لا تقرأ، بل ولعلها لا تفتح من الأصل في أغلب الأحوال).
والشاماني يقيم مذبحًا صغيرًا يحتفظ فيه بأدواته والأطعمة التي يقدمها إلى الأرواح، ولذلك يحجز منطقة شديدة الخصوصية في حالة طهارة شعائرية وذلك كي تستخدمها الأرواح التي يعتقدون إنها ترتبط بمصير عائله الشاماني.
وعمليات الرصد البحثية تجد أن لجلسة تحضير الأرواح الشاماني معني واضحًا بالنسبة للمشاركين فيها، لأنها تمثل رحلة الشاماني إلى العوالم الأخرى بحثًا عن روح المكابد، أو زيارة روح يتوقعون منها المساعدة، أو في البحث عن روح شريرة والمحاولة في التخلص منها.
والمعلومات المتاحة الآن تؤكد وجود حاجات اجتماعية معينة كانت السبب في ظهور الشامانية، وليس على خصائص نفسية معينة لعدد محدود من الأفراد، واختيار المرشحين محدود بصفات معينة، مثل أن يعرف كيف يغني؟ وكيف يدق على الطبل؟ وأن يملك كامل السيطرة على جسده، وأن يتسم بالحساسية وخفة اليد وثقة زائدة بقدراته الخاصة وأن يكون متأكدًا من مساندة الروح الحارسة له قبل أن يضع هذه القدرات موضع الاستخدام.
والشاماني يبدأ مهمته بالسقوط في غيبوبة هي أقرب إلى حالات الهياج، نوبات التشنج يعتقدون أنها تطور طبيعي ومنطقي من إملاء الروح الحارسة، ثم يبدأ ابتهالاته الشامانية، وهي مزيج عجيب من الموسيقي والشعر والمقامات، ويؤمن الأوزبك أن موهبة الشاماني الفنائية هي من تأثير الأرواح، وأن منشد الشعر الملحي "ماناس" هو الذي يعلمه هذا الفن في الأحلام.
ولا ينبغي النظر إلى النجاح الغير عادي للشامانية المدنية على أنه أمر محدود بدوره الطبي، كما يقول الباحث "جان بييرشوميل"، فمن الواضح أن الشامانية: قد أصبحت الآن جزءًا من الحياة السياسية لمعظم دول أمريكا اللاتينية، فالعديد من المرشحين للوظائف المهمة يتقدمون ويفوزون بها (جزئيًّا على الأقل) على أساس أنهم على علاقة (حقيقية أو غير حقيقية) بالشامانيي المعروفين.
ففي مايو 1991 دعي "البرتو فوجيموري" رئيس بيرو شخصيًّا إلى "ليما" المعالج البرازيلي الشهير لعلاج "فوجيموري" من كسر كان مؤلمًا للغاية، وقد امتلأ إستاد "ليما" الكبير بعشرات الآلاف من المرض الذين جاءوا للعلاج بجانب رئيسهم، وعلى الرغم من أن معجزات البرازيلي كانت محبطة إلا أن خزانته كانت تحوي معجزات أخرى: إذ إن تمثالين من تماثيل العذراء في ميناء "كالو" بالقرب من "ليما"، بدأ في البكاء وبعدها كان آلاف المؤمنين المحبطين من صانع المعجزات البرازيلي قد اندفعوا ليتجمعوا أمام التمثالين الباكيين، وكان من بينهم الرئيس "فوجيموري"، وقد اعترف فيما بعد بأنه طلب من العذراء المساعدة في إعطاء الأمل للشعب.
وإن أكثر الكلمات شيوعًا في الاستخدام لتسمية الشامانية قد اشتقت في الأصل من المصطلح التركي (كام kam)، حيث تدين أشكال الشامانية في وسط آسيا في ما يتعلق بتجانسها النسبي إلى تقليد عام مشترك وإلى تأثيرات الديانة الإسلامية، التي تتميز في اتجاهين واضحين يتوافقن مع مجموعتين عرقيتين تسكنان هذه المنطقة، المجموعة الأولى تتحدث التركية، والأخرى تتكلم الإيرانية.
والواجبات التي يشترك فيها كافة الشامانيين في منطقة وسط آسيا هي تشخيص أسباب المرض وعلاجها، البحث عن الأشخاص المفقودين، الكشف عن الأشياء المسروقة، وهذه الواجبات التي يقومون بها قد تقلصت إلى حد كبير عندما بدأ العرافون والمعالجون يحلون محلهم، والانتشار الشعبي هنا ليس بالضرورة في صالح الشاماني، لأن العرافين والمطببين يجرون بدورهم مراسم احتفال تشبه بدورها طقوس الشاماني. ومثله فإنهم يحاولون الاتصال بالأرواح.
أما البداية البحثية الحقيقية لمحاولة إثبات أن كل هذا هو محض هراء، فكانت عندما بدأ "تايلور" (1871) يؤكد أن الشاماني ليس إلا وارثًا لتركة من الأمراض العصبية الهستيرية كالصرع، وقد سارع كثير من الباحثين الروس (ومنهم خاروزين وميخائيلوفيسكي وأنوكسين وبوتانين وكاجاروف وكسينوتوف وغيرهم) إلى متابعة هذه الدعوى، كما استمر البعض منهم (فينشتاين والكشيف وميخائيلون وسميتشوف) في دعم هذا الجدال وتأييد، حتى بالرغم من أنه قد ثبت بالفعل خطؤه بعد تفنيده منذ زمن طويل.
واعتمادًا على المعلومات التي جمعت من منطقة وسط آسيا، يعد حامل الأرواح التي يتم التحرر منها من خلال الممارسات الشامانية محملاً بالعلل والأسقام، والحقيقة أن هذا المرض يعد أمرًا لابد منها منه، ويري فيه الأوزبك والقرغيز عرفانًا بالجميل وعلامة على رضاء الأرواح، وحتى وإن كان واضحًا بالنسبة للجميع أنه يتم استدعاء الشاماني لكي يتأكد من التشخيص الصحيح، ويعتقدون أن الأرواح لا بد وأن تحمل الشاماني الصغير إلى العالم السفلي وأن سبب المرض يكمن في كونها تخفيه هناك في خلال أغصان شجرة الحياة، وأن توفر له القوة وأن تحيطه بالرعاية والحنان بغرض إعادة خلق هذا الشخص المختار.
إنها تقطع جسمه إربًا وتطهوه، حتى تستطيع أن تأكل اللحم، ثم إنها بعد ذلك تقوم بتلفيق أعضاء معينة من الجسد مع بعضها البعض، وذلك قبل أن ترده إلى الحياة مرة أخرى.
ويحدثنا "رادولف" (1893) عن شامانية من الأوزيك اسمها "أوتشيل" من منطقة "سمرقند"، هذه المرأة كانت روحها الحارسة (حسب أقوال رجل عجوز صالح هناك) أنها كانت لرجل تقي أمرها أن تصبح شامانية حتى تنقذ البشر، لقد جنت هذه المرأة وصار سلوكها مثيرًا للخزي والعار، حتى بلغ بها الأمر إلى حد إلقاء ابنها من سطح الدار، حتى طفح الكيل بزوجها فقيد يديها ورجليها وحبسها في غرفتها.
ويقول القوم: إن تلك المرأة التي حبسها زوجها في الدار خشية أن تستمر في ممارساتها المخبولة قد تمكنت من الفرار برغم القيود، وذلك أن روحها الحارسة قد أطلقت سراحها عبر المدخنة، وهذه الروح، أتت من رجل تقي صالح في زعمهم، فاصطحبها معه إلى الجبال المحيطة، وهناك تولي مهمة تعليمها وتعريفها بالأزمنة الخوالي، وعلمها الكثير من الممارسات الشامانية: "ابتهلي من أجل الحياة الحاضرة، ومن أجل الحياة الآخرة، ابتهلي من أجل الناس، ابتهلي من أجل السعادة والعمر المديد، ابتهلي من أجل الرخاء والخصوبة".
وفي هذا ما يدل على نوع من التعليم تم تلقينه من خلال الأحلام، وهذه الأحلام لا تعلب دورًا مهمًّا في الممارسات الشامانية فحسب، بل إن لها دورًا مهمًّا جدًّا في الإدراك بكافة المعارف الخاصة بالشعيرة الشامانية.
وفي الواقع ليس هناك تقليد معين لتلقي الشخص المختار تعاليمه عن طريق شاماني ذو خبرة، فهذا الاتجاه مشكوك في صحته، ولكن هذا لا يمنع بطبيعة الحال الإنسان الطموح من السؤال الاستفسار عما يعن له، الحقيقة أن الأمر كله يتوقف على استعداده لاعتناق دوره ...
إلا أن معظم المعلومات الاثنوجرافية التي تشكل حيثيات الأحكام في موضع شخصه الشاماني إنما أتت من مجتمعات تطبعت ثقافيًّا أو – على الأقل تمر بعملية تحول ثقافي عديد التسارع – مثل منطقة سيبيريا (وهي إحدى المناطق المحقق وجود الشامانية بها) كانت في غمار مرحلة تحول ثقافي في الوقت الذي بدأت فيه أول البحوث، والأمر ذاته بالنسبة لأمريكا الجنوبية، ومن هذا المنظور يمكن اعتبار الشاماني بأنه شخص هامشي، شخصيته غير مستقرة، يعاني من عدم القدرة على الاندماج والتوافق لهذا فهو ينزع إلى العزلة والتصوف، ويجد في الشامانية وواجباتها حلاًّ لمشكلاته الشخصية وأزماته النفسية، إلا أنه في بعض الأماكن في أمريكا الجنوبية يكون للشاماني تألقًا اجتماعيًّا أكبر، إذ إن استدعائه ليؤدي الشعائر الشامانية يتم عن طريق الجماعات وليس الأفراد، وحتى في أثناء تلك الشعائر التي يؤديها فإنه يتحول إلى تجسيد حي لكل قيم جماعته، ومثل جميع الشعائر الأخرى، فإن شكل هذه التجربة ومضمونها وقيمها الروحية والمادية تحتشد في أنماط ثقافية، هذه الأنماط يجب أن ينقلها الشاماني المخصوم في النهاية إلى الشاماني المبتدئ، الذي سوف تحكم الجماعة على قدراته في نهاية الأمر، وهذا التدريب على الشامانية يتطلب قدرات غير عادية مثل الصوم والنسك والاعتزال والإمساك عن الممارسات الجنسية، هذا بالإضافة إلى المجهود العقلي الذي قد يكون أكثر صعوبة، حيث يجب أن يظهر الشاماني قدرًا هائلاً من البراعة الحرفية، ولابد أن يمتلك الشاماني سعة الخيال والقدرة على الابتكار، وأن يكون قادرًا على ارتجال التراتيل وإيجاد مساهمات شخصية إلى التراث الجمعي للطقوس المقدسة.
وفي حقيقة الأمر فإن اختيار الشاماني يتحكم فيه بالدرجة الأولى المجتمع الذي يكافح تحت وطأة تغييرات اجتماعية وثقافية لا ترحم، وتصرفات الأفراد الذين يعانون من هذا التغيير، وصنع الشاماني هنا يعد استجابة للقلق الاجتماعي والنفسي من جراء هذا التغيير، وفي هذه الحالة فإن تبني دور الشاماني (الذي يتحقق بدرجات متفاوتة من النجاح) يتم السعي وراءه وتبريره كدفاع ضد أحداث لا يمكن السيطرة عليها، كما يؤكد "ليفي ستراوس" في نص شهير له لكي يضرب مثلاً على الدور الذي تلعبه الشامانية في مواجهه نزعات علم النفس المرضي، فإنه إذا كانت نسبة حدوث العصابيات والذهانيات تحت تأثير الاحتكاكات الحضارية، تتجه إلى الارتفاع في الجماعات التي لا تلعب فيها الشامانية أي دور، بينما في المجتمعات الأخرى فإن الشامانية نفسها هي التي تتطور، وإنما بدون نمو مناظر في المشكلات العقلية.
الذين تمكنوا من حضور بعض جلسات الشاماني، قد استطاعوا تسجيل شيء من التراتيل التي تعد جوهر هذه الجلسات، والكلام عن هذه الجلسات وما يدور فيها شرحه يطول لذلك سوف نقتصر هنا على تحديد الملامح الرئيسية لتلك الجلسات.
إن أساس هذه الجلسات كان يتجلي في هذه الحقبة التي كان يتمتع فيها الشامني بالقدرة على تجسيد الأرواح، كما أن تلك الجلسات المحدودة قد خلت بالطبع من التأثيرات المسرحية الأخرى على غرار قرع الطبول والرقص والألاعيب السحرية بغرض تهيئة الحاضرين، وتبدأ الأرواح في الكلام من خلال الشاماني، وأيضًا تجري حوارًا مع المشاهدين وتلقي بعض التنبؤات بالمستقبل، ثم تبدأ الروح بتعريف نفسها للحضور (من خلال صوت الشاماني الرخيم)، ويضع الشاماني في أثناء هذه الجلسة غطاء الرأس المعروف باسم "السيميدي"، وهو أشبه بـ(الطرحة) التي تغطي وجه العروس، وهذا يعني انفصاله عن العالم، وتحوله في تلك اللحظة إلى بلورة شفافة جاهزة لاستقبال كل ما تبثه الروح التي تتقمص جسده، وفي نهاية الجلسة يرفع هذه الطرحة ويبدأ في العودة إلى حالته الطبيعية.
وكان الملفت للنظر بشكل مثير في خلال هذه الجلسات هو تكرار العديد من الكلمات والتعبيرات الروسية الأصل مثل (الطبيعة السرمدية لجواز المرور بين العوالم – الرفيق الموثوق به – آلاف من الرجال الروس، مصدر كل الآلات الثقة في محركات القوارب)، الأمر الذي يفتح الباب أمام الباحثين للعديد من الاحتمالات.
على أية حال فإن الحدود التي توضع معالم المجازات والتصورات الذهنية عن موضوع الشامانية دائمًا تميز مجالاً تثور فيه تساؤلات معينة لابد من الإجابة عليها من خلال طريقة معرفية، يصبح فيها ما يقبله العقل واقعًا في نطاق الحقيقة، ومن ثم فإن أنشطة الشاماني لابد أن تربط العقل بالواقع الاجتماعي والانثربيولوجي وأيضًا السياسي، فهو مع انتشاره يعد موضوعًا معرفيًّا وأخلاقيًّا في الوقت نفسه.
وإذا وجد أن موضوع الجنون بكافة تعبيراته الاجتماعية يمثل جزءًا متممًا للتصور البشري أو تمثيلها في المجتمعات الشامانية على الأقل، يمكننا وقتها أن نفوس الجنون في التصنيفات المرضية لهذه المناطق، أي أنه عندما يتم الربط الصريح بين الجنون وبين أنثربولوجيا هذه المجتمعات، فإن تطورها (كجزء من التطور العالم للبشرية) سوف يتم تفسيره بمجموعة من التجليات المرتبطة بأسلوب وجود المجتمع بأكمله.
وبينما تنتظر بعض هذه المجتمعات وبعض الباحثين كذلك اليوم الذي سوف تأتي أرواح أخرى وآلهة أخرى لتغني ترانيمها وترقص بين الناس، وتنتظر بعد كل هذا وفي حينه التهليل والتبجيل بين الجموع، فإن تلك الأصوات التي ألهمت الشاماني لأزمان قد أصبحت اليوم تمتمة خافتة لا تكاد تسمع.
كما أن كافة الإيهامات التي تضاخمت كثيرًا جدًا قد وقعت في المأزق المعروف بين الإيمان والمعرفة، لكونها تشتمل على الادعاء بما يؤمن به الآخرون، وتصديق ما يدعيه آخرون غيرهم، هذه الإيهامات سوف تختفي هي الأخرى بلا جدال ...
هكذا يتحدث العقل، وهكذا يقول صوت مجتمعات عقد الصلح مع نفسها ومع الطبيعة منذ زمن طويل، وأن آخر جنود الهذيان الإثنولوجي والسياسي قد دفن أحقاده منذ زمان أطول ....
تغريد
التعليقات 1
مقال ثري ، وإسلوب رائع
اكتب تعليقك