الاستعمار الغربي .. والصور النمطية عن الشرقالباب: مقالات الكتاب
د. حياة المتدين المغرب |
لا شك أن صورة العرب والمسلمين اليوم مشوهة، نمطية ومسبقة، هذه الصورة التي نسجتها المخيلة الغربية كانت نتيجة تراكم تاريخي في سياق مواجهة حضارية، اختلط فيها السياسي بالديني، وصراع حول السيادة على الأمكنة والرموز.
فإلى أي حد شكل الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي منبعًا خصبًا لصياغة هذه الصور وتنميطها؟
يطرح موضوع صورة العرب والمسلمين في الغرب الكثير من التساؤلات حول حجم هذا التشويه، وآليات حدوثه ومسؤوليتنا تجاه تزايده، فقد تجاوز الأمر حدود الصورة، ليلامس الكثير من ملامح وجودنا في هذا العالم.
إننا إذا أردنا أن نعرف سبب هذا التصور السلبي عن الإسلام لدى الغرب اليوم، علينا أن نبحث، ليس في الظواهر السطحية التي نراها اليوم هنا وهناك ضد أو مع الإسلام، بل فيما رسخته القرون السابقة من مواقف تجاه الإسلام والمسلمين، التي على ما يبدو لا زالت في أعماق الغربيين، تظهر في المناسبات بوعي أو بغير وعي، فالصور الراهنة للإسلام هي نتاج تراكمات ثقافية وحضارية، تكونت عبر قرون، أنتج الغرب خلالها قاموسًا كاملاً من الصور النمطية.
إن دراسة مرجعيات هذه الصور هي بحث في الخلفيات التي تستند عليها، وهي كذلك بحث في المحركات التي تتأسس عليها، والمنطلقات القبلية التي سمحت لها بالظهور في ثقافة معينة، وفي حقبة تاريخية معينة.
وقد شكل الاستعمار الغربي للدول الإسلامية مرحلة حاسمة في تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب، ومحددًا حاسم لطبيعة هذه العلاقات، ومنبعًا خصبًا لصياغة صور نمطية عن الآخر الشرقي، وفي إطار استجلاء وتفسير الخلفيات التاريخية والمعرفية الغربية المتصلة بالسياقات الثقافية والسياسية، التي شكلت وعي وموقف الغرب تجاه الآخر، وانعكست على صورة الشرق والإسلام في الإعلام والأدب، يرى عبدالوهاب المسيري أن الرؤية المعرفية الغربية ذات طبيعة إمبريالية كامنة في نظرتها للإنسان والطبيعة والمقدس، هذه الرؤية الإمبريالية ظهرت نتيجة لمجموعة من العوامل التاريخية والفكرية، فمنذ عصر النهضة هيمنت الفلسفات العلمانية المادية على العقل الغربي، فأعلن الإنسان الغربي موت الإله أو تنحيته عن عمليات المعرفة والأخلاق، ترسخ ذلك مع هيمنة الفلسفات العقلية النفعية في القرن الثامن عشر، ومع علمنة الفكر السياسي الغربي، لم تعد هناك غايات مطلقة للوجود الإنساني، فالخير هو مصلحة الدولة العليا وخدمتها هي هدف الوجود الجماعي.1
وقد عمق الاقتصاد الرأسمالي فكرة أن توسيع الإنتاج هو الخير المطلق، فأصبحت جزءًا من التصور الأوروبي النهم عن الطبيعة البشرية، كما ظهرت عقيدة التقدم اللانهائي الصادرة عن اعتقاد بلا نهائية مصادر الطبيعة وقدرة الإنسان على السيطرة عليها وتسخيرها.
أدت هذه العوامل إلى ظهور رؤية معرفية إمبريالية تنطلق من تصور مادي للطبيعة والإنسان، وتتجه نحو السيطرة على العالم، وإخضاعه للإنسان الغربي بصفته مركزًا للكون. وقد أفرزت هذه الإمبريالية حسب المسيري" رؤية عنصرية قامت بتصنيف البشر على أساس صفات مادية كامنة فيهم: حجم الجمجمة، لون الجلد، شكل الشعر... إلخ، وأكدت التفاوت بين الشعوب، ونظرت إلى الشعوب غير الغربية وأراضيها ومواردها بصفتها مادة استعمالية، يمكن للسوبرمان الغربي أن يوظفها لحسابه، بوصفه أقوى الشعوب وأكثرها رقيًّا.2
ومع زيادة حركة الاستعمار الغربي في أنحاء العالم، صيغت نظريات التبرير للحركة الاستعمارية وتغطية استمرارها3، فظهر ما يسمى بالنظرية البيولوجية السياسية ومضمونها أن للدول الكبرى الحق في التهام الدول الصغرى، وهو ما أكده أرنست رينان عندما أعلن: "أن الأوروبي خلق للقيادة كما خلق الصيني للعمل في ورشة العبيد، وكل ميسر لما خلق له". ويكتب انطوان مون كريتيان الملقب برائد الاقتصاد السياسي في نهاية عصر النهضة الأوروبية: "إن الإنسان ولد ليعيش للعمل المستمر والاحتلال"، وراحت هذه الإسقاطات الاستيهامية تتناسل خلال القرن الثامن عشر، وتتنقل من إطارها التاريخي إلى خطاب كوني تبناه العديد من مفكري الغرب ومنظريه، حتى صار تقسيم العمل بين الغرب والشرق أمرًا طبيعيًّا.
"بموجب هذا التقسيم العالمي للعمل، صار نظام الآخر الغربي يتأسس على قاعدة تنصيب نفسه كحامل لرسالة حضارية لشعوب مصنفة بالمتوحشة والكسولة، أي العاجزة عن الإنتاج واستغلال الثروات الطبيعية، المسار الذي أثار، ولا يزال يثير، شبقية التوسع والهيمنة عند الغزاة."4
ولم تتردد العلوم الإنسانية في توظيف أسطورة الإنسان المتوحش بما يخدم مصالح دولها، وقد كان الغرض من تكريس صفة الوحشية على إنسان ما وراء البحار بمثابة تأسيس لخطاب علمي يتم من خلاله تبرير المركزية العرقية الأوروبية، ويخدم توسعاتها وأطماعها الإمبريالية، "لقد ترسخت هذه الاستيهامات الغرائبية في الأذهان إلى حد بات الاستعمار يعد عملاً إنسانيًّا يسوغ غزو الشعوب المسماة بالمتوحشة."5
إن التأكيد على الهمجية كان أمرًا حيويًّا عند المؤسسات الاستعمارية، ففي أمريكا تم تصوير الهندي قاتلاً للأطفال، وخاطفًا للنساء، وجامعًا للرؤوس البشرية، وذلك من أجل تبرير وحشية الرجل الأبيض ضد هذا الهندي، ومن هنا كتب ثيودور روزفلت سنة 1896 م "كان المستعمرون والرواد الأوائل يشعرون في أعماقهم أن الحق هو إلى جانبهم، وأن هذه القارة العظيمة لا يمكن أن تترك لعبث الهنود المتوحشين."6
وقد كانت الحكومة الأمريكية ـ حتى منتصف القرن التاسع عشر ـ تدفع مبلغًا من المال لمن يأتي بفروة رأس هندي، "وخلال ثلاثة قرون من الزمن، استمرت الشائنة في العبيد السود عبر الأطلنطي، جنبًا إلى جنب مع نمو الحضارة الأوروبية الأمريكية، وكجزء لا يتجزأ من هذه الحضارة. ولم تنته هذه التجارة قبل سنة 1865م، وقدر عدد الذين وقعوا في الأسر فريسة للصيد البشري (بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة) خلال هذه الحقبة بين 13 إلى 15 مليون إنسان حر (علمًا بأن العدد الحقيقي لن يعرف أبدًا)."7
ويحاول" برتراند راسل" تفسير مثل هذه الجرائم الإنسانية بقوله: "ففي الطبيعة البشرية ميل نحو الانفعالات الوحشية، بلغ حدًّا جعل أولئك الذين يعارضونه معرضين دائمًا تقريبًا للحقد، كما أدى إلى ابتكار أنظمة أخلاقية ودينية كاملة، تجعل الناس يحسون أن الوحشية شيء نبيل.. إن الانفعالات المدمرة لم تجلب على البشرية سعادة حقيقية، فأولئك الذين كانوا يملكون العبيد، عاشوا في رعب من ثورات العبيد (..) والشعوب المسلحة المتخاصمة تعيش في ظل الخوف من الهزيمة في الحرب."8
ومن أجل التغطية على مثل هذه الجرائم البشعة، وبهدف إضفاء الشرعية على عملية الاستعمار، يرى جوكينشلو في كتابه "التربية الخاطئة للغرب" أن هذه التبريرات التاريخية والأخلاقية، كانت مطلوبة لفرض الثقافة الأوروبية، كونها النموذج المهيمن الواجب اتباعه. وهكذا ابتكرت الأسطورة الهدامة "تمدين غير المتمدنين."9
وقد قامت الفوارق الثقافية بين المجموعات على فوارق بيولوجية تعكس الفوقية والدونية، وقد شكلت الانتصارات العسكرية، التي حققها الغرب أساسًا لاستعراق الغربيين، واعتقادهم بأنهم العرق الأسمى بين سائر الأعراق، "كما ساهم النهب الاستعماري في زيادة ثقة الإنسان الغربي في نفسه، وفي رؤيته لنفسه، لا كإنسان، وإنما كإرادة قوة لغزو العالم ونهبه وإخضاعه والتحكم فيه."10
وقد انكبت العلوم الإنسانية على دراسة المجتمعات المستعمرة لإعانة الإدارة الاستعمارية على السيطرة على المستعمر، فـ"رينيه مونيي" صاحب المشروع الكبير لعلم الاجتماع الجزائري مثلا يقول: "إن لنا مصلحة نظرية وتطبيقية لنتعرف على حياة الشعوب الجزائرية، نظرية أولاً، لأنه من حقنا ومن واجبنا نحن الفرنسيين أن نعرف ونفهم جميع الشعوب، التي نحميها وندير شؤونها، ولا نتوقف أبدًا عن القيام بالواجب نحوها، ولما في تنظيم هذه الدراسات من غايات مادية تطبيقية، باعتبار أن العلم مصدر للنفوذ والحكم."11
كما يعد عالم الاجتماع" مارتان" أن علم الاجتماع الشمال الإفريقي، له وظيفة أساسية في تقديم المشورة للاستعمار الفرنسي، عبر دراسة الأطر التربوية، والحركات الاجتماعية، وخصائص الشخصية المحلية، من أجل التحكم في المنطقة وإنجاح المشروع الاستعماري. 12
ويوضح إدوارد سعيد ذلك بقوله: "ارتبطت الأطروحات حول التخلف والانحطاط الشرقيين، والتفاوت بين الشرق والغرب في أوائل القرن التاسع عشر بالأفكار السائدة حول الأسس الحيوية (علم الحياتية) للتفاوت العرقي، وهكذا وجدت التصنيفات العرقية القائمة في كتاب كوفييه "مملكة الحيوان" وكتاب غوبينو "مقالة في التفاوت بين العروق الإنسانية" وكتاب روبرت نوكس "عروق الإنسان السوداء" شريكا رغوبا في الإستشراق الكامن، وإلى هذه الأفكار أضيفت أفكار داروينية من الدرجة الثانية، بدا أنها تؤكد السريان العلمي لتقسيم العروق إلى متقدمة ومتخلفة، أو أوروبية ـ آرية، وشرقيةـ أفريقية"13. وبهذا التقسيم أمكن للغرب استهداف الأمم المستضعفة، "وضمن هذا المنظور العام ستغدو كل المسوغات العقلانية ناجزة لشن الحملات والحروب على هذه الأمم الموسومة "بغير المتحضرة"، وقد أصبحت لاحقًا، حقًّا قانونيًّا ومطلبًا حيويًّا للدولة ـ الأمة الغربية-14 لقد وجدت الإمبريالية الأوروبية ضالتها في النظريات العنصرية العرقية عندما تحولت إلى استعمار ثلاثة أرباع العالم، ومع هذه التبريرات، لم تكن تجد حرجًا في عمليات القهر والاستبداد والتطهير العرقي والقتل الجماعي للملايين من البشر، كونهم أدنى مرتبة من البشر. وفي أحسن الأحوال تعامل الإستعمار مع الشعوب بصفتهم متخلفين ثقافيًّا، امتدادًا لتخلفهم البيولوجي" لقد صارت هذه المذاهب الإيديولوجية على اختلاف تلاوينها العرقية، التي تضمنت الخطاب العلمي المسيطر والمؤسس في القرن التاسع عشر، تعني تحديدًا، خطاب الإنسان الأبيض الحضاري والراشد، وريث عصر الأنوار وصانع المستقبل، وحامل رسالة التقدم والتطور شرعًا. وتحت قيادة هذا الخطاب تم تحالف الدولة المركزية الدستورية والعلم والجيش والصناعة والكنيسة لتوزيع الأدوار، وتقاسم المهمات ضمن إستراتيجية منظمة."15
إن إلصاق صفة مشوهة بفئة مستضعفة، أو قليلة ضمن مجتمع ما، كان دائمًا طريقة مناسبة لإيجاد كبش فداء. وقد ركزت الروايات الأوروبية عن الشرق على تلك الصفات التي تجعل من هذا الشرق، ذلك الآخر المختلف عن الغرب، و"الغير" الذي لا صلاح له. " فقد أنتج الاستعمار عن الشرق المتوسطي، ما لا ينضب من كتب الحماقات التي لا تزال حتى اليوم، تستخدم بصفتها سجلاً مرجعيًّا لكثير من الغربيين كلما تعلق الأمر بوصف العالم العربي الإسلامي، ذلك أن أوروبا القرنين التاسع عشر والعشرين صنعت أسوأ سلسلة لصور الشرق التي لا نظير لها أبدًا."16
ولقد اعتبرت منطقة الشرق الأوسط شريان الحياة الرئيسي بالنسبة للعالم الغربي، ولذا فقد لعبت دورًا بارزًا في الإستراتيجية الدولية عبر السنين17. وقد بدأ الاهتمام بالشرق بداية، بصفته موقعًا استراتيجيًّا، لما يتميز به من طرق مواصلات برية وبحرية، أهمها البحر الأحمر الذي يعد ملتقى ثلاث قارات، ويستمد أهميته أيضًا كونه يوفر للقوى الدولية إمكانية الوصول إلى المحيطين الهندي والأطلسي والبحر المتوسط. وبحكم موقعه الجغراسياسي، فقد شكل عنصرًا مهمًّا ومؤثرًا في مسار تاريخ هذه المناطق ومستقبلها، وما من ممر مائي كان سببًا في الصراعات بين الأمم أكثر مما كان ولا يزال عليه البحر الأحمر، ذلك أن الخواص الاستراتيجية لهذا البحر ظلت تجذب اهتمام قوى مختلفة ومتصارعة.
وقد حاول البرتغاليون كما الرومان بسط سيطرتهم على البحر الأحمر، وكان من دوافعهم الواضحة "بسط احتكارهم على تجارة العالم بين الهند والغرب، عن طريق البحر الأحمر"18بعد 1520م كانت شمس البرتغال تميل إلى المغيب، بسبب المشكلات الداخلية والحروب، ثم كان ارتفاع نجم انجلترا وهولندا بصفتها قوتين بحريتين جديدتين، مع ما رافق ذلك من طرد البرتغال من الخليج العربي على يد الإنجليز عام 1622م، فقد دخلت بريطانيا المحيط الهندي بين عامي 1577م و1580م وهمها الأساسي التجارة، ثم أرسلت الحملات البريطانية إلى عدن والبحر الأحمر في محاولة للنيل من المقاومة البرتغالية والهولندية. 19
وجاء غزو نابليون لمصر في القرن الثامن عشر بمثابة تهديد للمواصلات البريطانية مع الهند، "فعندما احتلت فرنسا مصر عام 1798م، أراد نابوليون وقتئذ تنشيط تجارة البحر الأحمر في غمار منافسته مع بريطانيا، التي كانت تتاجر مع الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح، بيد أن بريطانيا عملت بالتعاون مع العثمانيين على هزيمة فرنسا في مصر عام 1801م."20
ظلت المنافسة محتدمة بين فرنسا وبريطانيا حول الوجود والنفوذ في البحر الأحمر، وفي عام 1862م استطاعت فرنسا شراء وجودها في اوبوك (جيبوتي حاليًّا) من رؤساء القبائل الصوماليين.
وخلال القرن الثامن عشر، قاتلت فرنسا وبريطانيا إحداهما الأخرى للسيطرة على الهند، من 1744م إلى 1769م، "تلك الحرب التي انتهت بسيطرة بريطانيا على شبه الجزيرة الهندية اقتصاديًّا وسياسيًّا، وقد كان قرنا أثر بالعلاقات البريطانية الشرقية، وشهد نقطة تحول في صورة العرب، فكون بريطانيا مدفوعة بحماية طرقها إلى الهند من جهة، ولمواجهة المضايقة والنفوذ المتزايدين من فرنسا أو محاولة إيقافه من جهة أخرى، أخذت بريطانيا تظهر مزيدًا من الاهتمام بالمشرق ولا سيما بمصر."21
وكان لغزو نابليون مصر سنة 1798م وحملته في سوريا أكبر النتائج في التاريخ الحديث للمشرق، فقد أدرك البريطانيون في الهند، ونابليون في مصر، أهمية استخدام المستشرقين، والاستفادة منهم لبناء الإمبراطورية، فربطوا بين المعرفة الإستشراقية وبين التسلط السياسي الصريح، وهي ما عبر عنها إدوارد سعيد بربط المعرفة بالسلطة. "وفي عام 1882م، احتلت بريطانيا مصر مخالفة بذلك معاهدتها معها في عام 1877م، كما احتلت أيضًا مينائي الصومال، زيلع وبربرة في عام 1884م ثم السودان في عام 1899م." 22. أما فرنسا، فقد رسخت أقدامها على الساحل الإفريقي للبحر الأحمر وخليج عدن قرب باب المندب، بغية موازنة الوجود البريطاني في عدن.
وفي عام 1925م أكملت إيطاليا احتلال الصومال، ووقعت معاهدة مع بريطانيا في شأن الصومال البريطاني، والصومال الإيطالي، وقامت القوات البريطانية باحتلال إريتيريا (1941م). "وإذ خسر الإيطاليون إريتيريا غادروا منطقة البحر الأحمر الذي قال عنه موسوليني يومًا: إذا كان البحر الأحمر هو مجرد طريق لبريطانيا، فهو شريان الحياة لإيطاليا."23 وظل البحر الأحمر تاريخيًّا بؤرة صراع.
"إن قصة العلاقة بين القوى الاستعمارية الغربية وأمم الشرق ليست فقط قصة استكشاف ثقافي وفكري تنويري، بل كثيرًا ما كانت قصة تثير الخزي، استهدفت استغلال شعوب آسيا، وتجريدهم من ممتلكاتهم، والنظر إليهم بوصفهم العنصر الأحط شأنًا قياسًا إلى الغرب، وأنهم "الآخر" النقيض وحامل الخصال السلبية"24.
وقد استمرت هذه القوالب الذهنية بالتراكم حتى القرن العشرين، القرن الذي انصبت فيه أطماع بريطانيا على الوطن العربي، فكان للرحالة والعلماء والمبشرين والوكلاء تأثير كبير، فاستغلت وسائل الاتصال والإعلام الصور القديمة التي يحملها البريطانيون عن العرب وروجتها، وكان من أكثر الكتابات تأثير في مصادر الإعلام كتابات توماس إدوارد لورنس الملقب بلورنس العرب (1888م ـ 1935م)، الذي يعد من أشهر شخصيات الربع الأول من القرن العشرين، أمضى سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى متجولاً في الوطن العربي، ليتعرف على عادات العرب ولغتهم وأعرافهم، وهو يرتدي ملابسهم ويدرس تاريخهم، ويتجسس على الأتراك والألمان في المنطقة. وقد تحدثت العديد من الأدبيات العربية والغربية على حد سواء عن إنجازاته وبطولاته ودوره في توحيد العرب وقيام الثورة العربية ضد السيطرة العثمانية، "على أن لورنس الذي بدا وكأنه يرمز إلى العلاقة المثالية بين بريطانيا والعرب لا يمكن أن يفهم أو يقوم بمعزل عن دوره بصفته وكيلاً إمبرياليًّا."25، فقد كشف في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" عن حقد وكراهية للعرب والمسلمين ولتاريخهم، ونظر إليهم بوصفهم متخلفين كسالى، فضلاً عن مقالاته المتعددة، وأخطائه التاريخية، وأبرز ما يؤكد ذلك قوله بالنص: "إنهم أناس ضيقوا ومحدودو التفكير، حيث إن ذكاءهم الجامد يرتاح باستسلام غير مبال وأن خيالاتهم نشيطة لكنها غير مبدعة."26 كما ظهر دوره بصفته وكيلاً إمبرياليًّا في قوله: "الحكومة البريطانية التي حثت العرب على القتال من أجلنا، كانت مقابل وعود محدودة لإنشاء دولة عربية مستقلة بعد انتهاء الحرب، والعرب يثقون بالأشخاص، وليس بالمؤسسات، فهم رأوا فـيَّ عميلاً حرًّا للحكومة البريطانية، وطلبوا مني العمل على تطبيق تلك الوعود المكتوبة من قبل الحكومة، لذلك فقد كان عليَّ أن أنضم للمؤامرة، وأن أقوم بإعطاء تأكيدات كلامية للرجال بأنهم يستحقون مكافئتهم، وخلال سنتين من العمل المشترك في ظل المعارك المستمرة، فقد اعتادوا تصديقي (..) كان واضحًا منذ البداية أنه في حال كسبنا للحرب، فإن هذه الوعود ستكون عبارة عن ورقة ميتة (..) وأنه كان من الأفضل أن نكسب الحرب، وننقض تعهداتنا، بدلاً من أن نخسرها."27
مع بداية القرن العشرين بدأ التحول إلى استخدام النفط بدل الفحم، وأصبح النفط سلعة إستراتيجية للبريطانيين، واحتاجوا إليه لقوتهم البحرية، ولم يكن لديهم مصدر آخر، فالأمريكيون والروس كان لديهم مصادر النفط الخاصة بهم، لذا أصبح النفط للبريطانيين ومن بعدهم الفرنسيين موردًا إستراتيجيًّا يجب الوصول إليه وحمايته.
خلال الحرب العالمية الأولى شكلت آبار النفط القوة الحقيقية للولايات المتحدة الأمريكية، كانت هي المنتج الأكبر للنفط في تلك الأثناء. مثل إنتاجها عونًا كبيرًا للحلفاء، في مقابل منعهم ألمانيا من الوصول إلى حقول النفط الرومانية، فبدأت الصناعة الألمانية تعاني نقصًا في الوقود وزيوت التشحيم.
في 11 نوفمبر تشرين الثاني 1918م، استسلمت ألمانيا عندما لم يعد لدى جيشها من الوقود ما يكفيهم ليوم واحد فقد "أدت الحرب العالمية الأولى إلى التركيز على أهمية النفط في العصر الجديد لوسائل المواصلات الآلية، وكثفت البحث عن المخزونات النفطية في الشرق الأوسط."28
عندما اكتشف نفط الخليج عقب الحرب العالمية الأولى، عملت الحكومة البريطانية على توقيع اتفاقيات مع حكام الخليج بإعطاء حق امتياز التنقيب عن النفط في أراضيهم إلى شركة بريطانية، وهكذا أعطي للبريطانيين القدرة على التحكم في نفط الخليج" وكان لديهم امتياز التنقيب لستين عامًا. وفي عام 1909م كانوا يحفرون وينتجون ويصدرون، كما بدؤوا بعض عمليات التكرير."29
سيطر الفزع على الأمريكيين عام 1919 م بسبب تقديرات حكومية أفادت بأن الاحتياطات النفطية الأمريكية قابلة للنضوب خلال عشر سنوات، واجهت إدارة الرئيس ويسلون الاتهام بأنها لم تضع أي سياسة نفطية قومية، هكذا بدأت مشاحنات من نوع جديد. لم تهتم الشركة البريطانية كثيرًا بالتنقيب عن النفط في البحرين، لذلك سمحوا للأمريكيين بالدخول إلى البحرين، ثم الكويت وأخيرًا السعودية، وبذلك بدأ توطيد الأمريكيين في الشرق، "لقد كان النفط ولعقود من الزمن، وراء السياسة الخارجية والأمنية، لقد كان الباعث من وراء فكرة تقسيم الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى، والمحفز الذي دفع ألمانيا واليابان إلى التفكير بالتوسع خارج حدودهما، والدافع وراء حظر النفط العربي، ووراء الحرب العراقية الإيرانية ، وحرب الخليج، هذا كله واضح." 30
ويعكس الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في كتابه "اقتناص اللحظة "صورة بشعة عن العالم الإسلامي عندما يقول: "إن معظم الأمريكيين ينظرون نظرة موحدة إلى المسلمين على أنهم غير متحضرين، وسخين، برابرة، غير عقلانيين، لا يستوعبون انتباهنا إلا لأن الحظ حالف بعض قادتهم، وأصبحوا حكامًا على مناطق تحتوي على ثلثي الاحتياطي العالمي المعروف من النفط."31
وفي كتاب "تاريخ فارس" أحد مؤلفات سير جون مالكولم الضابط البريطاني، وضع السير جون خطة لاستعمار منطقة الخليج العربي، تتلخص المبادئ الأساسية لهذه الخطة في النظر إلى إمارات الخليج، الدولة العثمانية، وجزيرة العرب، لا بصفتها حكومات حقيقية، بل بصفتها بلدانًا يمكن لأي أمة أن تتعامل معها بما يخدم مصالحها وأهدافها.
وفي ذلك يرى المسيري أن الغرب "عرف مصلحته الإستراتيجية منذ بداية القرن التاسع عشر بطريقة تجعله ينظر للمنطقة العربية بصفتها مصدرًا هائلاً للمواد الخام (الرخيصة)، ومجالاً خصبًا للاستثمارات الهائلة (التي تعود عليه وحده بالربح)، وسوقًا عظيمة لسلعه (التي ينتجها ويصرفها فيزداد هو ثراء)، أو قاعدة إستراتيجية شديدة الخطورة والأهمية (بالنسبة لأمنه هو)، إن لم يتحكم فيها قامت قوى معادية (مثل الاتحاد السوفييتي في الماضي) باستخدامها ضده."(32)
إن الخطاب الذي يجعل من الأخذ بيد الأمم المحرومة أو إسعافها واجبًا أخلاقيًّا، ويقوم بتصنيف البشر وتأكيد التفاوت بين الشعوب، لم يتبلور إلا انطلاقًا من أطماع اقتصادية ومصالح سياسية بحتة، بحثًا عن أسواق جديدة، وثروات طبيعية ومواقع إستراتيجية. وسواء كان الغرض تبرير الدوافع الدينية، أو تسويغ الأطماع والمصالح السياسية، فقد اختزلت جميع العلاقات المعقدة في العالم العربي الإسلامي، وكل ما في حضارته من ثراء، إلى مجموعة جاهزة من القوالب الذهنية الثابتة.
الهوامش:
(1)انظر: عبدالوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، ط1، 2002م، ج. 1، ص 308
(2) عبدالوهاب المسيري، العلمانية تحت المجهر، حوارات لقرن جديد، دار الفكر، سورية، ط 1، 2000 م، ص 140.
(3) وهناك دراسات عديدة تحدثت بتفصيل عن الغربيين، الذين كرسوا بكتاباتهم للعنصرية، وبرروا عن طريق تسخير العلم وافتراض نظريات، مصالحهم وتحركاتهم الاستعمارية انظر مثلا:
n غريغوار منصور مرشو.، مقدمات الاستتباع الشرق موجود بغير لا بذاته، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996م.
n أحمد سمايلوفيتش، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر..
n عبدالمتعال محمد الجبري، الاستشراق وجه للاستعمار الفكري.
(4) غريغوار منصور مرشو، نحن والآخر، دار الفكر المعاصر، ط1، 2001م، ص 22.
(5) غريغوار منصور مرشو، مقدمات الاستتباع، الشرق موجود بغيره لا بذاته، المعهد العالمي للفكر الإسلامي.1996م، ص 84.
n Theodore Roosevelt, the wining of the west, New York, 1896, p :9061
(7) علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس، مؤسسة العلم الحديث، بيروت ومؤسسة بافاريا للنشر، ط 1، 1994م، ص 223.
(8) برتراند راسل، المجتمع البشري في الأخلاق السياسية، ترجمة عبدالكريم أحمد، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة،
ص 139.
(9) جوكينشلو وشيرلي شتاينبرغ: التربية الخاطئة للغرب، كيف يشوه الإعلام الغربي صورة الإسلام، ترجمة حسان بستاني، دار الساقي، ط1، 2005م، ص 258.
(10) عبدالوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، مرجع سابق، ص 210.
(11) عبدالوهاب بوحديبة، الحياة الاجتماعية الإسلامية كما صورها بعض المستشرقين، في: مناهج المستشرقين والدراسات العربية الإسلامية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس 1985م، ج2،ص145.
(12) محمد نجيب بوطالب، العلوم الاجتماعية والاستشراق، في: صورة الآخر العربي ناظر ومنظور إليه، مركز دراسات الوحدة العربية.ط.1999.1. م.،ص 438
(13) إدوارد سعيد: الاستشراق، المعرفة الإنشاء السلطة. ترجمة كمال أبو ديب. مؤسسة الأبحاث العربية. بيروت 1981م، ص 217 ـ 218.
(14) غريغوار منصور مرشو، مقدمات الاستتباع، الشرق موجود بغير لا بذاته، مرجع سابق، ص 81.
(15) نفسه، ص110
( 16) تييري هنتش ، الشرق المتخيل، رؤية الغرب إلى الشرق المتوسطي. ترجمة غازي برو.خليل أحمد خليل.المجلس الأعلى للثقافة ودار الفارابي.القاهرة.ط1.2005م، ص 284 ـ 285.
( 17) يسري الجوهري، الجغرافيا السياسية والمشكلات العالمية، مؤسسة شباب الجامعة، 1993م، ص 361.
(18) عبدالله عبدالمحسن السلطان، البحر الأحمر والصراع العربي الإسرائيلي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط3، 1988م، ص 49.
( 19) المرجع السابق ،ص 50.
(20) أجيه يونان جرجس، البحر الأحمر ومضايقة بين الحق العربي والصراع العالمي، مكتبة غريب، القاهرة ، 1979،
ص 51.
(21) حلمي خضر ساري، صورة العرب في الصحافة البريطانية ، دراسة اجتماعية للثابت والمتحول في مجمل الصورة،
ترجمة عطا عبدالوهاب، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، 1988،ص 32.
(22) عبدالله عبدالمحسن السلطان، البحر الأحمر والصراع العربي الإسرائيلي ، مركز دراسات الوحدة العربية. ط1988.3م.، ص 54.
(23) أجيه يونان جرجس، البحر الأحمر ومضايقة بين الحق العربي والصراع العالمي، مكتبة غريب، القاهرة ، 1979،
ص 51.
(24) جي جي كلارك، التنوير الآتي من الشرق، ترجمة شوقي جلال ، عالم المعرفة، عدد 346، ديسمبر 2007م، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،ص 18.
(25) حلمي خضر ساري، صورة العرب في الصحافة البريطانية، في صورة الآخر العربي ناظرًا ومنظورًا إليه. مركز دراسات الوحدة العربية. ط1. 1999م.ص 56.
(26) توماس إدوارد لورنس، أعمدة الحكمة السبعة، ترجمة محمد نجار الأهلية للنشر والتوزيع ، ط 1، 1998،ص 29.
(27) المرجع السابق، ص 13.
(28) هاري سانت جون فيلبي، مغامرات النفط العربي، ترجمة عرض البادي، مكتبة العبيكان، ط 1، 2001 م، ص 15.
(29) ما يكل بالمر، برنامج أرشيفهم وتاريخنا، قناة الجزيرة 21/10/2010.
(30) ريتشارد هاينبرغ، سراب النفط، النفط والحرب ومصير المجتمعات الصناعية ، ترجمة انطوان عبدالله، الدار العربية للعلوم، ط. 1، 2005م، ص 75.
(31) Richard Nixon : Zeize th Moment , American challenge in a one super power world (simon/ Schuster,Newyork, 1992-p : 194.
(32) عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية،الموسوعة الموجزة ، دار الشروق، ط2، 2005م، م2 ،ص 323.
تغريد
اكتب تعليقك