الشرق والغرب في التاريخ القديم تعايش أم تصادم؟؟الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-11-25 02:22:20

د. حياة المتدين

المغرب

ترجع العلاقات الأولى بين الشرق والغرب إلى أيام الكنعانيين، حيث اتخذت طابعًا تجاريًّا، فقد كانت مدن الساحل الكنعاني تقيم علاقات تجارية وثقافية، وكذلك علاقات مصاهرة مع الإغريق، وقد تم التعبير عن مثل هذه العلاقات السلمية حينًا والعنيفة أحيانًا، في "القصص الهوميرية"1 والأساطير المتأخرة، كتلك التي تحدثت عن اختطاف "أوروبا" ابنة ملك صور من قبل" زيوس" كبير آلهة الإغريق، أو تلك التي روت قصة" قدموس" ابن ملك صور الذي ذهب إلى بلاد الإغريق باحثًا عن أخته ومستفيدًا من سفرته لنشر الأبجدية فيها2.

غير أن علاقات الشرق بالغرب تطورت بشكل خاص في الألف الأولى ق.م لاسيما في أيام ازدهار الفرس. فبعد أن اتسعت رقعة الدولة الفارسية، بحيث امتدت من حوض نهر السند إلى آسيا الصغرى، نشبت حروب طاحنة بينها وبين الإغريق، دامت طيلة النصف الأول من القرن الخامس ق.م، سيطر الفرس في مرحلتها الأولى على المدن اليونانية أثينا واسبرطة، تم بعد ذلك استطاع الإغريق طرد الغزاة القادمين من الشرق، وعرفت تلك الحروب بـ "الحروب الميدية".

بعد هذه الحروب رغب الإغريق في التعرف على هذا العدو، فكان أول باحث استقرأ هذه الظروف والأحوال وسجلها، المؤرخ اليوناني" هيرودوت"3 الذي جمع معلومات كثيرة  وأوصاف عن الأماكن التي زارها، ويدور موضوع كتابه الأساسي حول تاريخ الحروب والوقائع بين اليونانيين والفرس، وقد وصف قومه بأنهم" أبطال نبلاء استطاعوا بفضل شجاعتهم وتأييد آلهتهم أن ينتصروا على أعدائهم، وينقذوا وطنهم من الاستعباد والإذلال، وقومه هم أهل الحضارة والرقي والتقدم، وغيرهم أقل منهم، بل هم في نظره برابرة غير متحضرين أو متمدينين، وبطولة قومه وشجاعتهم هي التي يسرت لهم النصر، كما أن الآلهة والنبوءات غالبًا ما تبشر بانتصار اليونانيين."4 .

في مقابل هذا الإطراء والاعتزاز بالذات اليونانية، نجده يصور الفرس أعداء اليونان التقليديين بأنهم" برابرة متخلفون لا يملكون من الحضارة إلا النزر اليسير، تسيرهم أهواءهم، وتحكمهم نزواتهم التي في النهاية أودت بهم في مهاوي الهزائم. بل إن أعظم ملوك الفرس عنده تغلب عليهم شهواتهم، فهم من ثم خاضعون لها، لا يستطيعون الفكاك منها، وفي سبيلها يرتكبون الفظائع والجرائم، وقادة الفرس تبع لملوكهم، فهم سفاكو دماء، قليلو الخبرة والدراسة، كثيرو النزق والحماقة."5.

والواقع أن هيرودوت قد بالغ في هذه الصفات التي لا وجود لها، وهو في ذلك يتحدث بلسان قومه، كما أن كتابه، مع أهميته، إلا أنه يعتمد على الكثير من الروايات التي أخذها عن الأجانب، فقد كان جاهلاً بلغات الشعوب التي كتب عنها تاريخها، كما يروي عددًا من الخرافات والأوهام والنبوءات، ويضم عددًا من الأخطاء والمبالغات، شأنه في ذلك شأن كل من كان على شاكلته من المؤرخين والكتاب.

أما على مستوى العلاقات العربية اليونانية، فإن أقدم من سجل اسمه من اليونان هو الإسكندر الكبير( 356 ـ323 ق.م)، فبعد أن أسس إمبراطورية قوية شاسعة الأرجاء ذات منافذ على البحر الأحمر والخليج العربي، وبعد أن تمت له الغلبة على مصر والهلال الخصيب،6 فكر في احتلال الجزيرة العربية، فأرسل لذلك بعثات استطلاعية تتقصى له المعلومات اللازمة لإرسال أسطول كبير يستولي على سواحل الجزيرة.

ويرى" جواد علي" في المفصل في تاريخ العرب أن فتوحات الإسكندر الكبير التي قذفت بالإغريق إلى مساحات واسعة من آسية " لم تكن حدثًا سياسيًّا فحسب، إنما هي فصل من فصول كتاب التاريخ البشري، نقرأ فيه أخبار التقاء العالمين الشرقي والغربي وجهًا لوجه على مساحات واسعة من وجه هذه المسكونة، ونزعة الغرب في السيطرة على الشرق، وتأثر الحضارات والثقافات بعضها ببعض، وحصول علمــــاء اليونان والرومان على معارف مباشرة عن أحـــــوال أمم كانوا يسمعــــون أخبارها من أفواه التجار والسيــــاح والملاحيــن، وصارت الإسكندرية وبعض مدن بلاد الشام، ملتقى الثقافات الشرقية والثقافات الغربية."7

أما" سيد أحمد علي الناصري" فيعتقد أن فتح الإسكندر لمصر قد غير وجه التاريخ عامة، وتاريخ وادي النيل خاصة: "إذ قامت على ضفاف النيل لأول مرة مملكة هللينية، قدر لها أن تكون أكثر الممالك الهللينية، ثباتًا ورسوخًا، بل إن الحضارة الإغريقية ظلت تترعرع على ضفاف النيل ما يقرب من ألف عام تقريبًا، كما أن تأسيس الإسكندرية أحدث ثورة في طرق التجارة القديمة، وخلق طريقًا جديدًا يجمع القارات الثلاث التي تلتقي في مصر."8

ومع أن الإغريق كانوا ينظرون إلى الشرقيين نظرة الاحتقار، ويعتبرونهم

في درجة العبيد، فإن الإسكندر الأكبر بعقليته الجديدة حاول أن يملأ الهوة بين الهلليني والبربري الشرقي، "لأنه كان يهدف إلى إنشاء إمبراطورية تزاوج بين الشرق والغرب على أساس الوئام والسلام، وعلى أساس أن يحكم العنصرين بالمساواة، ضاربًا عرض الحائط بعقدة الإغريق العنصرية، واستنكار المقدونيين المتطرف لتعاطفه مع الشرقيين."9

وقد نتج عن هذا الاحتكاك والتواصل تأثير متبادل بين الشرق والغرب، حيث انتشرت الفلسفة اليونانية في مدن الشرق، في المقابل أعجب الإغريق بآلهة الشرق فعبدوها، وهو ما يؤكده ول ديورانت في قصة الحضارة بقوله: "وقصارى القول: إن اليونان عرضوا على الشرق الفلسفة، وأن الشرق عرض على اليونان الدين، كانت الغلبة للدين، لأن الفلسفة كانت ترفًا يقدم للأقلية الضئيلة، أما الدين فكان سلوى للكثيرين... وقد سر العالم الذي زالــت عن أعينه غشـاوة الخداع، العالم المستقل الذي سئم الحروب، سر هذا العالم أن يعود إليه الإيمان والأمل، وكانت أعمق فتوح الإسكندر أثرًا، نتيجة أبعد ما تكون عن العقول، ألا وهي اصطباغ الروح الأوروبية بالصبغة الشرقية."10

لقد كان غزو الإسكندر الأكبر للشرق هو بداية لتطلع الغرب لخيرات الشرق واحتلاله، وكان الحل المثالي لمشكلة تزايد عدد السكان وقلة الموارد التي أرهقتها الحروب الكثيرة، فما أن فتح الإسكندر الشرق، حتى تدفقت جموع الإغريق نحو الشرق، محملين بعقدة الاستعلاء والعنصرية، فقد "نظروا إلى المصريين نظرة احتقار باعتبارهم من المتبربرين. "11

ويرى "اندريه إيمار" في تاريخ حضارات العالم" أن استهواء النفوذ والاستقلال، أي هذه الرغبة في امتلاك ما نريد أن نحرم منه الغير، هو إحدى الميزات الرئيسية

في سياسة المدن اليونانية، وإحدى الميزات التي طبعت إلى حد بعيد حضارة هذه المدن

 في القرنين الخامس والرابع (ق.م)، كانت النتيجة المحتومة حروبًا متعددة دائمة، فمنذ مستهل القرن الخامس حتى السنة 338 ق.م، قضت أثينا أكثر من 120 سنة في الحرب من أصل 164، أي أكثر من سنتين من أصل ثلاث، ولم تعرف خلال هذا المدة فترة سلم تعدت العشر سنوات."12.

من جهة أخرى ظهرت العلاقات الرومانية -القرطاجية بداية بصفته صراعًا تجاريًّا ما فتئ أن أخذ أبعادًا عسكرية، وكان أول احتكاك بين الطرفين عندما احتل الرومان جزيرة صقلية عام 264ق م، واعتبر القرطاجيون هذا الغزو مساسًا بمصالحهم الاقتصادية والسياسية، وكانت هذه الواقعة البداية الأولى للحرب الطويلة بين الرومان والقرطاجيين، والتي استمرت إلى عام 241ق.م، وسميت بالحروب البونيقية الأولى، و قد بلغ الصراع بين القرطاجيين والرومان أوجه للسيطرة على البحر المتوسط في عهد الأميرال القرطاجي "ما جو"، ومن بعده "حبسكو"، ثم "أزرو بعل"، "وهملفار"،  والد "هنيبعل". "ثم استأنف هنيبعل الحرب ضد الرومان، وهو أعظم قادة القرطاجيين على الإطلاق، ففي عام 218 ق م هاجم بلاد الرومان في عقر ديارهم، فقاد جيشه وأفياله نحو إيطاليا تحقيقًا لحلم كان يدغدغ خياله منذ عهد الشباب.... فانقض على شمال إيطاليا .... ثم انتصر انتصارًا ساحقًا في معركة تريبيا ،Trebia ثم زحف على روما"13، وفي سنة 202 ق.م، شنت روما هجومًا على قرطاج، إلا أن جنود هنيبعل حديثي العهد بالقتال فروا من ساحة المعركة تاركين الجنود المتمرسين يواجهون الرومان بمفردهم، فأبيد عدد كبير معهم، واستسلمت قرطاج، لتنتهي بذلك الحرب البونيقية الثانية." وفي عام 46 ق م أمر"يوليوس قيصر" بإعادة بناءها شريطة أن تكون مدينة رومانية، وأصبح اسم قرطاج في عالم النسيان، ودخل هذا المكان إلى حظيرة أملاك الإمبراطورية الرومانية تحت اسم ولاية إفريقيا، عندئذ أصبحت روما سيدة البحر المتوسط بلا منازع."14

إثر الانتهاء من درء الخطر القرطاجي، اتجهت أنظار الرومان شرقًا، فشنوا سلسلة من المعارك التي انتهت باحتلال كامل للأراضي المقدونية في الشرق، وتمت السيطرة على بلاد الإغريق، وبعد هذه الانتصارات، أصبحت الدولة الرومانية دولة عظمى تتحكم بمقدرات العالم القديم الغربي والشرقي.

ويصف "الفرد بتلر" الحكم الروماني في مصر بقوله: "إن حكومة مصر ( الرومية) لم يكن لها إلا غرض واحد، وهو أن تبتز الأموال من الرعية لتكون غنيمة للحاكمين، ولم يساورها أن تجعل قصد الحكم توفير الرفاهية للرعية، أو ترفيه حال الناس والعلو بهم في الحياة، أو تهذيب نفوسهم أو إصلاح أمور أرزاقهم، فكان الحكم على ذلك حكم الغرباء، لا يعتمد إلا على القوة، ولا يحس بشيء من العطف على الشعب المحكوم."15

بدأ العد العكسي في حياة الدولة الرومانية اعتبارًا من عام 235م، فقد شهد ذلك العام ازديادًا خطيرًا في الاضطرابات السياسية والاجتماعية، وتصاعدت فيه الهجمات الخارجية وخصوصًا من القبائل الجرمانية، وعودة نفوذ الإمبراطورية الفارسية، فكان أن قسم "ثيودوسيوس الأول" الإمبراطورية الرومانية لولديه "آركاديوس" إلى الإمبراطورية الرومانية الشرقية، مع عاصمة بلاده في القسطنطينية،  و"هونوريوس" في الإمبراطورية الغربية مع عاصمة بلاده في ميلانو.

ويرى "جورج قرم" في كتابه "شرق وغرب: الشرخ الأسطوري"16 أن هذا التقسيم كواقع سياسي، هو الذي أنشا ثنائية الشرق والغرب، وهو الذي مهد السبيل لانقسامات القرون الوسطى عندما تأججت الخلافات العقائدية والتنظيمية بين كنيسة القسطنطينية وكنيسة روما، حيث رفض بطريرك القسطنطينية الخضوع لهيمنة بابا روما، معتبرًا أن مراكز السلطة الكنسية يجب أن تبقى على قدم المساواة ،ومن ثم قامت هوة بين الشرق الأرثوذكسي والغرب الكاثوليكي على إثر انقسام العالم القديم إلى كتل متنافسة. وهو ما ذهب إليه "جراهام. م.أي فوللر" حيث يقول : "والحق أن التمييز بين أوروبا والأراضي الواقعة ناحية الشرق منها كأساس للتحليل السياسي والإستراتيجي هو تمييز يسبق تاريخيًّا ظهور الإسلام على المسرح العالمي، وفيما يعد، باختلاف الآراء، من أول التقديرات الجيوبوليتيكية وأكثرها دوامًا، طور الإغريق حسًّا قويًّا بالتمييز الجغرافي والثقافي بين أوروبا وآسيا، ومن تم رأوا أشد منافسيهم الإستراتيجيين قوة هم الفرس "الآسيويين"، وبعد ذلك كان ظهور الإمبراطورية البيزنطية، ثم انقسامها إلى إمبراطوريتين شرقية وغربية، داخل الإمبراطورية الرومانية والمسيحية، وهو الأمر الذي أدى إلى ترسيخ صورة الحدود الحضارية."17 مما يعني أن المنبع الأساسي لثنائية شرق/غرب قد انفجر في قلب الديانة الواحدة "المسيحية"، والحضارة الواحدة "روما".

في القرن الرابع الميلادي شجع البيزنطيون (الرومان الشرقيون) الأحباش (بعد اعتناقهم المسيحية) على غزو بلاد العرب، "وقد استطاع الأحباش بعد إتمام حملتهم العسكرية عام 522 م واحتلالهم اليمن، أن يبسطوا سيطرتهم على الطريق البحري الحيوي، وعلى التجارة مع الهند... وكانت تجارة التوابل القديمة التي كان معظمها يمر عبر اليمن والحجاز واقعة بأسرها في يد الأحباش." 18

وقد حاول أبرهة (عامل النجاشي على اليمن) جعل صنعاء منافسة لمكة، فقام ببناء كنيسة فخمة كي تجتذب الحجيج من العرب، وما لبث أن دفع بجيشه – واضعًا بين صفوفه الفيلة – في الطريق إلى مكة، محاولاً تدميرها سنة 570م، لكنه مني بالهزيمة، الأمر الذي أدى إلى إضعاف شوكة الأحباش في اليمن.

وقد تطلع المسيحيون العرب إلى الرومان لمساعدتهم على تحرير اليمن، لكنهم رفضوا مساعدتهم ضد الأحباش الذين كانت تجمعهم علاقات صداقة. فتوجه العرب إلى الفرس لمساعدتهم، وهكذا "وحوالي عام 575 للميلاد، في عهد أنوشروان الحاكم الساساني لبلاد فارس، تم إرسال قوة عسكرية بقيادة فهريس wahris، فأطاحت بالأحباش بقيادة ماروك (مسرود) آخر حاكم من سلالة أبرهة، وأخضعت اليمن للحكم الفارسي." 19

وهكذا يتبين من خلال تتبع هذه المحطات التاريخية، أن علاقة الشرق بالغرب هي علاقة قديمة، وأنها كانت قائمة على تفاعل حضاري وتبادل تجاري، وتطورت إلى أن أصبحت علاقات قائمة على أطماع ومصالح اقتصادية، وصراعات وحروب، تتخللها فترات سلم وتعاون، لكنها فترات قصيرة.

إلا أن هذه النتيجة لا يجوز اعتمادها بمعزل عن بقية الأحداث التاريخية التي عرفتها المنطقة، ذلك أن التاريخ في ضوء المعايير الثقافية هو أبعد من أن يكون مجرد سجل للأحداث التي وقعت، فعندما تعيد الشعوب النظر إلى ميراثها الثقافي والسياسي، فان جوانب انتقائية من الماضي غالبًا ما تحظى باهتمام أكثر من غيرها، ويتم التركيز على أحداث وتجاهل أخرى، وهكذا تعاد كتابة التاريخ دائمًا وفقًا لحاجات الشعوب وتصوراتهم. وهو ما نحاول الابتعاد عنه في هذه الدراسة.

إن من شأن إدراج مجموعة من الأحداث والشخصيات التاريخية في سياق تتابعي معين، أن يحيل القارئ إلى نتيجة واحدة وفكرة معينة، ومن ثم فإبراز نصوص معينة وإخفاء أخرى ــ وبغض النظر عن النوايا السيئة – فيه تحريف متعمد للتاريخ والأحداث. كأن نشير، في بحثنا عن علاقة الشرق بالغرب، إلى الانتصار البحري الذي أحرزه الإغريق على الفرس في القرنيين الخامس والرابع ق.م، ثم فتوحات الإسكندر المقدوني وحروبه في الشرق، ومن بعده الرومان في إبادتهم لمدينة قرطاجة واكتساحهم للشرق...إلخ

فهذه الأحداث تحيل بالضرورة إلى فكرة واحدة، وهي حصر علاقة الشرق بالغرب في الصراع والصدام، وتصويرهما كعدوين تاريخيين .

إن تفادي الأخطاء الناجمة عن القراءات المتحيزة للأحداث التاريخية، والتي تعتمد سوء التأويل، وإغفال بعض الأحداث، وإبراز أخرى، هو ما سنحاول الالتزام به في هذه الدراسة عبر رؤية موضوعية، تحاول قراءة التاريخ في صورته الكلية دون تحيز أو انتقاء أو طمس للبعد التاريخي للأحداث وتسلسلها، وعلاقاتها السببية.

إن دعم الأفكار النمطية عبر القراءة الخاطئة والمغلوطة والمتحيزة للتاريخ، كما الحال في تأكيد علاقة الصراع والصدام التاريخية بين الشرق والغرب، ضاعف من سوء الفهم المتبادل، فزادت الأزمة بينهما عمقًا، والهوة اتساعًا.

ومن ثم، نطمح من خلال هذا البحث، تحرير الشرق والغرب من الأفكار النمطية الموروثة، والتي تشكل عائقًا نحو قيام علاقات حضارية وثقافية وإنسانية متوازنة.

ففي التاريخ، صفحات كثيرة، تحكي قصص أخرى، وتوجد شواهد عديدة تثبت أنه لم يكن يومًا كل الغرب عدوًّا لكل الشرق، فقد كانت الحروب والصراعات تحركها الأطماع الاقتصادية والرغبة في التوسع، بغض النظر عن كون العدو شرقي أم غربي.

"فقد ذكر بعض المؤرخين أن الجنود المصريين حاربوا إلى جوار إغريق آسيا وليديا عندما اجتاحها قورش الأكبر في النصف الثاني من القرن السادس، وعندما هاجم قمبيز مصر عام 525ق م، قاوم الجنود الإغريق المرتزقة مع المصريين لصد هذا الاحتلال الفارسي."20

كما أن الإسكندر المقدوني في اجتياحه للشرق، وقضائه على الحكم الفارسي عام 333 ق م، أخذت المدن الفينيقية الواحدة تلو الأخرى تفتح له أبوابها-باستثناء صور البحرية – وتستقبله استقبال المحررين، وتضع سفنها بتصرفه، وتزوده بالمؤن والإمدادات، فيما كان مستمرًا في اجتياح الشرق. وحنبعل القرطاجي في حربه ضد روما تحالف مع الملك المقدوني فيليب الخامس الذي تعهد بتقديم الدعم له ولجيشه، "وكان فيليب ملك مقدونيا منذ انتصار الرومانيين عليه لا يألو جهدًا في الاستعداد لمحاربتهم والانتقام منهم، وقد حمله بغضه الشديد لهم على قتل ابنه الأصغر، الذي كان يحبهم ويثني عليهم جهرًا وفي كل مكان"21، كما تحالف حنبعل مع ملك سرقوسة ضد الرومان، وأعلنت تارانتو ولاءها له.

"ومن يقرأ تاريخ الرومان منذ ظهورهم حتى سقوط الإمبراطورية يتعجب كل العجب فيجد صراعات على السلطة، ومن يصبح إمبراطورًا باستخدام كل وسائل القتل والنهب، فالأخ يقتل أخاه، والجنود يقتلون رؤساءهم، والقواد يقتلون قائدهم، ومجلس الشيوخ الروماني يتآمر كل فرد منه على الآخر."22

و حرب طروادة، كانت في القرن الثاني عشر ق.م بين الإغريق والطرواديين، استمرت عشر سنوات، وفي السنة الأخيرة دمرت مدينة طروادة بالكامل 23.

فهذه أمثلة قليلة من تاريخ حافل بمثل هذه الأحداث، كما هو حافل بغيرها، لتحكي الصورة في شموليتها أن الصراع بين الشرق والغرب لم يكن حالة خاصة ولا حدثًا فريدًا خصت به العلاقة بين الشرق والغرب، بل إن النزاعات والحروب حصلت على مر تاريخ البشر ولا زالت مستمرة، وكانت ـ ولا زالت ـ الأطماع الاقتصادية والنزوات السياسية والرغبة في التوسع الدافع الأساسي وراءها والمحرك القوي لها.

 

المراجع:

1 -  هوميروس، الأوديسة، ترجمة دريني خشبة، مكتبة نهضة مصر. وهوميروس، الإلياذة، ترجمة ممدوح عدوان، المجمع الثقافي، 2002 م.

2 - انظر هيرودوت، تاريخ هيرودوت. ترجمة عبد الإله الملاح، المجمع الثقافي، 2001م، ص 30. وأيضًا حسن نعمة، موسوعة الأديان السماوية والوضعية، ميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة، دار الفكر اللبناني، بيروت،1994م، ص 164.

3 - هيرودوت، تاريخ هيرودوت ،مرجع سابق.

4 - حمد محمد بن صراي، في مقدمة لكتاب تاريخ هيرودوت ،مرجع سابق، ص 23.

5 - المرجع السابق، ص 24.

6 - أطلق مصطلح "الهلال الخصيب" على منطقة حوض نهري دجلة والفرات والجزء الساحلي من بلاد الشام.

7 - جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جامعة بغداد، ط 2 ،1993م، ج 2، ص 11.

8 - سيد أحمد علي الناصري، الإغريق تاريخهم وحضارتهم، من حضارة كريت حتى قيام إمبراطورية الإسكندر الأكبر، دار النهضة العربية، ط2 ، ص 531-532

9 - المرجع السابق، ص 541.

10 - ول وايريل ديورانت، قصة الحضارة حياة اليونان، ترجمة محمد بدران، دار الجيل ،1988م، ج 3 من المجلد 2، ص 47 .

11 - أيدرس بل، مصر من الإسكندر الأكبر حتى الفتح العربي، دراسة في انتشار الحضارة الهيلينية واضمحلالها، ترجمة عبداللطيف أحمد علي، دار النهضة العربية ،1973م، ص51.

12 - أندريه إيمار، تاريخ الحضارات العام، الشرق واليونان القديمة ، ترجمة فريدم داغر وفؤاد أبو ريحان، ط2 ،1986م، ص349

13 - نجيب زبيب، الموسوعة العامة لتاريخ المغرب والأندلس، دار الأمير للثقافة والعلوم، ط 1، 1995 م، ج1، ص 164ـ165

14 - محمود إبراهيم السعدني، حضارة الرومان منذ نشأتها وحتى نهاية القرن الأول الميلادي. عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط 1، 1998م، ص 124.

15 - ألفرد .ج. بتلر ، فتح العرب لمصر ، ترجمة محمد فريد أبو حديد بك، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص 47.

16 - جورج قرم، شرق وغرب الشرخ الأسطوري، دار الساقي، ط1. 2003 م.

17 - جراهام. م .إي .فوللر وإيان. أو. ليستر، الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة، ترجمة شوقي جلال، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1996م، ص 26.

18 - عبدالله عبدالمحسن السلطان، البحر الأحمر والصراع العربي الإسرائيلي، مركز دراسات الوحدة العربية،

ط3، 1988م، ص 44 .

19 - المرجع السابق، ص 46.

20 - سيد أحمد علي الناصري، مرجع سابق، ص 52 .

21 - نجيب إبراهيم طراد، تاريخ الرومان، مكتبة ومطبعة الغد،1997م، ص 157

22 - المرجع السابق، ص 5.

23 - القصة كاملة في الإلياذة، مرجع سابق.


عدد القراء: 6939

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-